إن المبيض للأموال يمكن أن تظهر مساهمته في الجريمة مصدر الأموال غير المشروعة بشكل واضح من خلال نشاط المساعدة التي تتمثل بالأعمال المسهلة والمتممة لارتكاب هذه الجريمة (الأصلية)، فالمصرف على سبيل المثال يُمكن عميله من الإستفادة من الأموال القذرة التي يحصل عليها بطريق غير مشروع وذلك من خلال قيام المصرف بقبول هذه الأموال غير النظيفة وتحويلها إلى إعتمادات أو ودائع مصرفية بحيث يصبح تداولها أو التعامل بها أكثر سهولة ويسر أو أن تقوم هذه المصارف بتوظيف هذه الأموال بصورة إستثمارات متلاحقة ومتنوعة تهدف إلى إخفاء مصدرها غير المشروع وعليه يمكن أن نتصور إن المصرف هو شريك في الجريمة التي يحصل منها المال غير المشروع(1). ومما يزيد من وجاهة هذا الرأي هو إن نظرية المساهمة الجنائية يمكن أن تشمل جميع الجرائم من دون استثناء فكل جريمة تدخل في إطار قانون عقابي سواء أكان قانون العقوبات أو أي قانون آخر يمكن أن تكون مرتكبه في إطار المساهمة الجنائية، وعلى الرغم من منطقية الرأي عند النظر إليه للوهلة الأولى فإنه لم يستطع أن يستوعب جريمة تبييض الأموال وتقف في وجه الرأي السابق جملة من الإنتقادات بعضها موضوعية وأخرى إجرائية، أما الإنتقادات الموضوعية فتتمثل بـ:
1- إن التشريعات العقابية حددت وسائل الاشتراك وهي (التحريض و الاتفاق والمساعدة).
ويشترط في هذه الوسائل لكي نكون أمام اشتراك في جريمة أصلية أن تكون سابقة أو معاصرة لارتكاب الجريمة أي بمعنى إنه لكي يعدّ الشخص (مساهماً تبعياً) شريكاً أن لا يكون النشاط الذي قام به قد تم بعد وقوع الجريمة الأصلية(2). وعليه إذا نظرنا إلى نشاط تبييض الأموال يتبين لنا إن الشخص الذي يقوم بهذا النشاط (سواء كان شخصاً طبيعياً أو معنوياً) إنما يقوم به بعد وقوع الجريمة الأصلية التي تحصل منها المال غير النظيف المراد تبييضه وهكذا نجد إن شرط المعاصرة أو السبق في نشاط الشريك على تنفيذ الجريمة الأصلية لم يعد موجوداً ومن ثـمّ لم تعد موجودة تبعاً لذلك صفة المساهمة التبعية في نشاط من يقوم بتبييض الأموال.
2- إن من عناصر الركن المادي في المساهمة التبعية هو وجود رابطة سببية بين نشـاط الشريك وجريمة الفاعل
فإذا ما تخلفت هذه الرابطة تخلف تبعاً لها الركن المادي في المساهمة التبعية فحيث لا رابطة سببية بين نشاط الشريك وجريمة الفاعل فهذا يعني إن نشاط الشريك لم يكن له دور في الجريمة التي وقعت ومن ثمّ فإن الجريمة واقعة وبالشكل الـذي وقعت به وإن لم يرتكب ذلك الشخص نشاطه(3). وحيث إن نشاط تبييض الأموال قد وقع بعد وقوع الجريمة الأصلية فهذا يعني إنه لا وجود لعلاقة سببية بين نشاط تبييض الأموال وفعل الفاعل الأصلي ومن ثمّ لا يمكن وصف نشاط تبييض الأموال بالمساهمة التبعية.
3- أن مجرد إغفال البنك أو المصرف أو المؤسسة المـالية عن الواجب القـانوني المتمثل بالرقابة والتحري عن مصدر الأموال المودعة لديه أو المحولة عن طريقه لا يمكن عده مساهمة في الجريمة الأصلية (الجريمة التي أفرزت الأموال غير المشروعة)
لأن مجرد الامتناع لا يكفي لإطلاق وصف المساهمة التبعية(4). وحتى لو تم الأخذ بالرأي الذي يذهب إلى إمكانية وقوع الاشتراك بطريق الامتناع (المساعدة بطريق الامتناع)(5). فإن الامتناع هنا جاء بعد وقوع الجريمة التي أنتجت الأموال الجاري تبييضها والمساعدة كوسيلة للاشتراك يجب أن تكون سابقة على بدء الفاعل في تنفيذ الجريمة أو معاصرة لتنفيذها فالإمتناع لم يكن في الفرض المتقدم (عنصراً رئيساً في خلق الجريمة وإنما اختلط بآثارها فقط)(6).
أما فيما يتعلق بالعقبات الإجرائية فنعني بها تلك العقبات التي تضعف من فعالية الملاحقة الجنائية في مواجهة نشاط تبييض الأموال وخاصة عندما ترتكب جريمة تبييض الأموال عبر شبكات عالمية منظمة تعمل في أكثر من دولة، فقد ترتكب جريمة الإتجار بالمخدرات داخل إقليم بلد معين (الجريمة الأصلية) ثم تتم عمليات تبييض الأموال المتحصلة من هذا النشاط الإجرامي في إقليم دولة أخرى ويصادف إن النظام القانوني في الدولة التي تمت فيها جريمة الإتجار بالمخدرات لا تمنح محاكمها اختصاص النظر بجريمة تبييض الأموال كونها لم تقع في إقليمها وبالمقابل فأن الدولة التي أُرتكب في إقليمها (جريمة تبييض الأموال) قد لا يمنح نظامها القانوني الاختصاص لمحاكمها للنظر في جريمة تبييض الأموال كونها مجرد فعل من أفعال (المساهمة التبعية) وإن (المساهمة التبعية) ينعقد الاختصاص للنظر فيها للدولة التي أُرتكب في إقليمها الجريمة الأصلية (جريمة الإتجار بالمخدرات)(7).
_______________________________
[1]- وفي هذا المجال فإن المصرف يفترض أن يكون عالماً بأن الأموال التي أودعت لديه ذات مصدر غير مشروع أو في الأقل أن تكون العمليات التي جرت على هذه الأموال مثيرة للشكوك حتى يمكن عد المصرف شريكاً في الجريمة الأصلية فالمصرف قد إشترك في الجريمة الأصلية من خلال وسيلة المساعدة التي يشترط فيها القانون العلم صراحةً .
– أنظر المادة (482/3) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969.
2- يذهب المشرع العراقي إلى إن القيام بمباشرة وسيلة من وسائل الإشتراك المحددة قانوناً لكي تعدّ من قبيل المساهمة التبعية يجب أن تكون سابقة على إرتكاب الجريمة كإعداد المادة السامة وقد تكون معاصرة لارتكابها بحيث يتدخل الشريك حين يبدأ الفاعل بالأعمال التنفيذية للجريمة من أجل تمكين الفاعل من الإستمرار في جريمتة كما قد تكون في المراحل الأخيرة من تنفيذها كمن يعير السارق سيارته كي يساعده على إخراج المسروق من المكان الذي يحوزه المجني عليه ولكن لا يمكن أن تكون لاحقاً لإرتكاب الجريمة فهنا يعدّ الفعل جريمة قائمة بذاتها وليست من قبيل المساهمة التبعية.
– للمزيد من التفصيل أنظر: د. سامي النصراوي- المباديء العامة في قانون العقوبات- مصدر سابق- ص274.
3- إشترط المشرع المصري في المادة (40) من قانون العقوبات المصري على تطلب وجود رابطة سببية بين نشاط الشريك وجريمة الفاعل الأصلي وتطلب في جميع صور الإشتراك ( التحريض- الإتفاق- المساعدة) أن تكون الجريمة الأصلية قد وقعت بناءاً على نشاط الشريك.
– للمزيد من التفصيل أنظر: د. إبراهيم عيد نايل- المواجهة الجنائية لظاهرة غسيل الأموال- الطبعة الأول- دار النهضة العربية- القاهرة -1999- ص46-52.
4- د. نائل عبد الرحمن صالح- جريمة غسيل الأموال- الطبعة الأولى- دار وائل للنشر- الأردن-2002- ص126.
5- للمزيد من التفصيل أنظر: د. عوض محمد عوض- قانون العقوبات القسم العام- دار المطبوعات الجامعية- الإسكندرية- بلا- ص 375.
6- د. نائل عبد الرحمن صالح- المرجع السابق- ص126.
7- إن الأخذ بالرأي الذي يقول بجواز عد تبييض الأموال من قبيل المساهمة التبعية يؤدي إلى نتائج خطيرة منها ما يتعلق بإفلات مرتكبي جريمة تبييض الأموال من العقاب إذا إمتنع عقاب فاعل الجريمة الأصلية لتوافر سبب من أسباب الإباحة كما إن (الشريك) المبيض يمكن أن يفلت من العقاب إذا ما صدر عفو عام إستفاد منه فاعل الجريمة الأصلية لأن هذا العفو يجعل من فعل الفاعل الأصلي للجريمة مشروعاً ومن ثم فإن ذلك من شأنه أن يهدم الركن الشرعي للمساهمة التبعية كما إن هناك نتائج خطيرة فيما يتعلق بمدة التقادم فإذا ما انقضت مدة تقادم الدعوى الجنائية عن الجريمة الأصلية التي تحصلت منها الأموال غير المشروعة فإن ذلك يجعل توقيع العقاب على مرتكب جريمة تبييض هذه الأموال غير المشروعة أمراً مستحيلاً سواء كان مرتكب نشاط تبييض الأموال هنا فاعلاً أصلياً أو شريكاً ومن ثمّ إفلاته من المسؤولية الجنائية عن تبييض الأموال.
– للمزيد من التفصيل أنظر: د. فتحية محمد قوراري- السياسة الجنائية في ظاهرة غسيل الأموال- بحث مقدم لمؤتمر الجريمة الإقتصادية في عصر العولمة- الشارقة- دولة الإمارات العربية المتحدة – للفترة من 21-22/1/2002- ص9.
المؤلف : عمار غالي العيساوي
الكتاب أو المصدر : المسؤولية الجنائية عن جريمة تبيض الاموال
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً