مبدأ الإلغاء الإجباري للأنظمة الإدارية غير المشروعة
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
انضمَّ حديثاً إلى قائمة المبادئ القانونية العامة، مبدأ جديد هو إلزام الإدارة بإلغاء النظام الإداري غير المشروع، سواء أكانت عدم المشروعية تصيب القرار منذ صدوره أو بفعل ظروف قانون أو واقع لاحقة عليه وذلك في الحالة التي يقدم إليها طلب بهذا المعنى”([1] [1]).
وتبرز أهمية هذا المبدأ، في أنه سلاح حقيقي لإزالة جميع النصوص غير المشروعة من النظام القانوني، كما أنه أحدث إنقلاباً في العديد من النظريات التي كانت تعتبر مقدسة في القانون الإداري.
ولم يكن لمبدأ إلزام الإدارة بإلغاء الأنظمة غير المشروعة أن يلاقي الترحيب والإعتراف لو لم يكن مرتبطاً بمبدإٍ أساسيٍ في النظام القانوني، هو مبدأ المشروعية، الذي لن يكون محفوظاً بشكلٍ صحيح، في ما إذا استمر وجود نصوص تنظيمية غير مشروعة. والتي لن تقود إلاَّ إلى تسهيل عدم المساواة الصارخة في المعاملة في ما بين المواطنين. فكان إقرار هذا المبدأ من قبل القاضي ضرورياً حتى ولو لم يكرِّسه المشترع، أو لم تطبقه السلطة التنظيمية بشكلٍ شرعي.
وتتجلَّى فوائد تطبيق هذا المبدأ بتشدد الإجتهاد في رقابة المشروعية، وتنبيه الإدارة إلى وجوب مراعاة مسألة التوافق مع النصوص القانونية عند صياغة النظام الإداري، كما أصبحت الإدارة معنية بإعادة النظر بالأنظمة القائمة، للتدقيق في ما إذا كانت متوافقة وقواعد المشروعية. وأصبح لهذا المبدأ فعالية كبيرة ناتجة عن الدور الذي يلعبه، بصفته نقطة الارتكاز الذي تدور في فلكه وحِماه العديد من النظريات القانونية.
كما وحَّد ظهور هذا المبدأ الحالات التي كانت موضع تباين في الحلول المقررة لها في الاجتهاد. ووضع حداً لهذا التمايز الذي كان موجوداً بين القرار غير المشروع منذ صدوره والذي كان إلغاؤه حكراً على السلطة الإستنسابية للإدارة، وبين القرار الذي اصبح غير مشروع بفعل تبدل الظروف الذي كان إلغاؤه داخلاً في اختصاص الإدارة المقيد. أما الآن فقد أصبح موجب الإلغاء عاماً، فهو يسري سواءً أكانت القرارات التنظيمية غير مشروعة منذ صدورها، أم أصبحت غير مشروعة بفعل تغيُّرِ الظروف.
أولاً: محاور هذا المبدأ
1- عدم مشروعية الأنظمة الإدارية منذ صدورها
إن إقرار مبدأ عدم المشروعية منذ الصدور هو المقصود من التجديد الأساسي الذي أتت به هذه النظرية في ما يتعلق بإلغاء القرارات التنظيمية غير المشروعة. في البداية أكد الاجتهاد الفرنسي بشكلٍ واضحٍ، أن الإدارة غير ملزمة بإلغاء قرار تنظيمي غير مشروع منذ صدوره([1] [2]). ونستطيع تلمس المبادئ التي أقرها حكم Despujol([1] [3])بإجازته إلغاء النص التنظيمي فقط في الحالة التي تبرر فيها تغيُّرِ الظروف المادية أو القانونية هذا الإلغاء، ولكنه لم يصل إلى حد إجازة المنازعة مباشرةً بالنص التنظيمي غير المشروع منذ نشأته ، بعد انقضاء مهلة المراجعة لتجاوز حد السلطة، كما يستبعد إمكانية طلب إلغاء نص تنظيمي بعد انقضاء مهلة الشهرين تلي نشر النص الذي أوجد تغييراً في الظروف القانونية التي تبرر قبول طلب الإلغاء.
وفي مرحلة ثانية كان قرار Leboucher et Tarandon ([1] [4]) في الإتجاه المعاكس، حيث أُلزِمَ واضع النص التنظيمي غير المشروع أو رئيسه التسلسلي، بالاستجابة لكل طلبٍ يرمي إلى إلغاء النص التنظيمي غير المشروع. وأخيراً في قرار 30/1/1981([1] [5]) استرجع القسم القضائي أحكام إجتهاد سنة 1959 مكرساً الإمكانية وليس إجبار الإدارة بإلغاء قرار تنظيمي غير مشروع منذ صدوره. وهذا الإجتهاد الأخير الذي اعتبره الجميع بمثابة العقبة في طريق بلورة المبدأ، تصدَّى له مرسوم 1025/83 تاريخ 28/11/1983، وعمل على تقنين المبدأ الذي توصَّل إليه قرار Leboucher et Tarandon . وهذا الحل الذي أخذ به المرسوم المذكور يجب استحسانه لأنه يبدو أكثر منطقيةً. فهو منسجمٌ مع الاجتهاد التقليدي الذي وفقاً له لا تستطيع الإدارة تطبيق قرار تنظيمي غير مشروع حتى ولو كان نهائياً([1] [6])، كما تستطيع بشكلٍ شرعي تأجيل تطبيقه([1] [7])، أو رفض هذا التطبيق([1] [8]). كما أنه يتوافق أيضاً مع الاجتهاد الذي رفض طلبات إبطال قرار إلغاء الأنظمة الإدارية غير مشروعة حتى ولو استند هذا الإلغاء إلى سبب خاطئ في القانون([1] [9]). أو إلى عدم احترام قواعد الاختصاص أو الأصول([1] [10]) .
2- عدم المشروعية الناتجة عن تغيُّرِ الظروف
الشق الثاني للمبدأ يرتبط بتغيُّرِ الظروف، ويفرض هذا التغيير موجباً على عاتق السلطة الإدارية بإلغاء القرارات التنظيمية التي أصبحت غير مشروعة بفعل ظروف قانونٍ أو واقعٍ، لاحقة على صدورها. وتتعلق هذه الحالة بالقرارات التنظيمية التي كانت مشروعة لحظة صدورها، ولكنها توقفت عن اكتساب صفة المشروعية بفعل التغيُّرِ الحاصل في الظروف التي كانت مبرراً لوجودها، ولا يمكن للأفراد المنازعة أو المطالبة بإبطال عدم المشروعية هذه بموجب دعوى إبطال لتجاوز حد السلطة، والإمكانية الوحيدة للتصدي لها، تتمثل بإجبار الإدارة على هذا الإلغاء، وهو ما تقبله القضاء تدريجياً، وليس من الضروري إزالة القرار بأثر رجعي أي سحبه، ذلك أنه يبقى شرعياً حتى لحظة تغيُّر الظروف، والزوال بالنسبة للمستقبل أي الإلغاء كافٍ في هذا الصدد([1] [11]).
وقد تأكد موجب الإلغاء بناءً على طلب المستدعي، بفعل تغيُّر الظروف وذلك منذ حكم Despujolالشهير، والذي تم ترديده بشكلٍ ثابتٍ منذ ذلك الحين، وعلى الرغم من أهمية هذا الحكم، إلا أن تطبيقاته كانت محدودة، والأحكام القضائية التي طبقت هذا المبدأ، اقتصرت على إبطال القرارات التنظيمية المتخذة في المجال البلدي أو القرارات التنظيمية التي يتخذها مديرو الأقاليم في إطار ممارستهم سلطة الضبط الإداري([1] [12]). ثم امتد بعد حكم Simmonetإلى القرارات التنظيمية المتخذة في الحقل الاقتصادي. هذا التوسع في مجال تطبيق موجب الإلغاء لا يمكن أن يكون دون أثر في مجال تقدير الأسباب الواقعية التي تبرره. في البداية، وفي مجال الضابطة الإدارية لم يتطلب القاضي أي شروط خاصة لفرض موجب الإلغاء، بل اكتفى بالتثبت من التغيُّرِ الفعلي في الظروف([1] [13])، ثم فرض وجوب توفر تغيُّر مهم في الظروف في حالات أخرى([1] [14]). واستقر أخيراً على أن الإلغاء لا يكون إجبارياً إلا إذا كان للتغيُّرِ في الظروف صفة الانقلاب،ونجد في هذه الحالة نقلاً لنظرية غير المنظور إلى نطاق القرارات التنظيمية. ويعود تقدير أثر هذا التغيُّرِ في الظروف الواقعية للقاضي، فإذا ما وجد أنَّ التغيُّر في الظروف ليس من شأنه أن يجعل النص التنظيمي محل طلب الإلغاء غير مشروع فإنه يرد هذا الطلب([1] [15]).
وعندما أدخلت المادة الثالثة من مرسوم1025/83 تغيُّر الظروف الواقعية، كأحد تطبيقات هذا المبدأ، لم تأخذ بالتفسيرات المختلفة التي قدمها القضاء، ولم تلتزم بما توصل إليه. بل نصَّت على التغيُّرِ في الظروف دون تحديد نطاقه، مما يوحي أنها تركت للاجتهاد مسألة تحديد شروط توفر هذا التغيُّرِ في الظروف الواقعية. وهذا ما حصل فعلاً، فسارت القرارات القضائية التي صدرت بعد مرسوم 1983، على خطى اجتهاد Simmonetالسابق، وفرضت أن يكون للتغيُّرِ في الظروف صفة الانقلاب وعدم التوقع.
أما موجب إلغاء القرار التنظيمي غير المشروع نتيجة تغيُّر الظروف القانونية، فيجد تطبيقه الأول في حكم Syndicat national des cadres des bibliothèques([1] [16])فهي تتناسب مع التغيُّرِ الذي يؤثر في مختلف القواعد القانونية، سواءً القرارات الفردية أو المراكز القانونية. ولا يقوم موجب الإلغاء إلا في الحالة التي لا يؤدي التغيُّر الحاصل في النظام القانوني إلى الإلغاء الصريح أو الضمني لهذا الأنظمة التي أصبحت غير مشروعة نتيجة صدور التشريع الجديد. كما أن هذا الموجب لا يتحقق إلا إذا حصل التناقض بين هذا القرار التنظيمي والحالة القانونية الجديدة والتي جعلت من الأول غير مشروع، فالهدف يكون بإعادته موافقاً للشرعية.
ثانياً: تتبع مراحل تكوين المبدأ
كان لا بد من أجل التعرف على مراحل تكوين هذا المبدأ، من تتبع إرهاصاته الأولى التي تعود إلى أوائل القرن التاسع عشر، مروراً بالمحطات الهامة والجريئة، والتي كانت كل محطةٍ منها تضيف لبنة جديدة إلى البناء القانوني لهذه النظرية الحديثة. فكان حكم Despujol لعام 1930 المحطة الأبرز الذي ارتكز إلى حيثياته العديد من الأحكام القضائية، والتعليقات الفقهية. ثم أتى حكم Simmonet وحكم syndicat national des cadres des bibliothèques لعام1964 ليساهما في تسريع عجلة تكوينه، ثم ظهر بشكله الحالي لأول مرة في حكم Leboucher et tarandon عام1976. فتمسك الفقهاء بهذا الحكم الذي كان موضع تعليقات عديدة، أشادت بجرأة الاجتهاد في إلزام الإدارة بإلغاء الأنظمة غير المشروعة، وتنظيف الساحة القانونية من كل حالات عدم المشروعية. وفي خطوةِ تراجعٍ إلى الوراء صدر عن الجمعية العامة لمجلس الدولة الفرنسي حكم Ministre de travail… عام 1981 الذي عاد إلى النظرية القديمة المستخلصة من حكم Despujol قبل تطويرها، أي أنه رفض إلزام الإدارة بإلغاء الأنظمة إذا كانت غير مشروعة منذ صدورها. ومجيزاً إلزامها بالإلغاء في حالتي تغيُّر الظروف القانونية والواقعية.
إزاء هذه الصدمة الإجتهادية، برز موقف السلطة التنظيمية الإيجابي في هذه القضية، فقد أصدرت المرسوم رقم 1025/83 تاريخ 28/11/1983، الذي كرَّس في مادته الثالثة الخلاصة الإجتهادية التي توصل إليها حكم Leboucher et tarandon ، أي أنه قونن المبدأ بموجب نص تنظيمي، وفقاً للإختصاص الذي منحته إياه المادة37 من الدستور.
ولما عُرِضَتْ المادة الثالثة المذكورة على مجلس الدولة، تردد في تطبيقها، وفضَّل في النهاية اللجوء إلى المبدأ القانوني الذي استوحته هذه المادة، وكان ذلك للمرة الأولى في حكم Alitalia ، ثم كرَّت سبحة الأحكام القضائية التي طبقت مبدأ الإلغاء الإجباري للنظام الإداري غير المشروع، وكان آخرها حكم Fedération CFDT INTERCO ([1] [17]) سنة 2002.
واللافت أن هذا المبدأ، كان على صلة وثيقة جداً، وبل له آثار على العديد من المبادئ والقواعد الحديثة النشأة في القانون الإداري هي:
1- أهمية هذا المبدأ بالنسبة للأنظمة المستقلة الصادرة وفقاً للمادة 37 من الدستور الفرنسي التي لم تعد تخضع للقانون.
2- وبالنسبة لتحول نشاط الإدارة من نطاق الإستنساب إلى نطاق التقييد والإلزام .
3- مبدأ حماية الثقة الشرعية والإستقرار القانوني
4- الإنقلاب على قاعدة المهلة القضائية
5- مبدأ إلزام الإدارة بسحب القرارات الفردية الصادرة وفقاً لنظام إداري حكم القضاء بعدم مشروعيته نتيجة الدفع بعدم المشروعية في معرض الطعن بقرار فردي متخذ على أساسه.
ثالثاً: كيفية تطبيق هذا المبدأ
يسري هذا المبدأ على جميع الأنظمة الإدارية، بما فيها الأنظمة المستقلة التي لا تخضع للقانون، وكذلك الأنظمة التي تصدر في حالة الظروف الإستثنائية والمراسيم الإشتراعية والأوامر التشريعية، هي خاضعة أيضاً لهذا المبدأ.
ولما كانت السلطة التنظيمية هي المجال الحقيقي لسلطة الإدارة الإستنسابية، بحيث تملك مطلق الحرية في اصدار وإلغاء التنظيمات الإدارية، وكان مبدأ إلزام الإدارة بإلغاء الأنظمة غير المشروعة يصطدم بسلطة الإستنساب الممنوحة للإدارة في هذا المجال، لذا كان من المن\قي أن يصاحب هذا المبدأ إنقلاباً في عمل الإدارة، حيث خرجت العديد من التصرفات من نطاق الإستنساب لتصبح اختصاصاً مقيَّداً ومفروضاً على عاتقها. ومن المبادئ التي تحدُّ من سلطة الإستنساب هذه، وهي ضرورة مراعاة الإدارة الثقة المشروعة للمواطنConfiance légitime، والمحافظة على الاستقرار القانونيsécurité juridique، واحترام الحقوق المكتسبة، والتقيد بمبدأ عدم الرجعية. وتُوجِبُ هذه المبادئ على السلطة الإدارية عندما ترغب بإقرار أو إلغاء الأنظمة أن تتقيد بهذه الضوابط وتلتزم بالأطر التي تسير فيها. خاصةً وأن مبدأ الاستقرار القانوني، هو الوجه الآخر للمبدأ موضوع الدراسة بحيث إذا راعت الإدارة هذا المبدأ عند إصدار الأنظمة فلن تصدر أنظمة تتصف بعدم المشروعية ثم تلتزم بإلغائها.
أما حالات عدم المشروعية التي توجب على الإدارة إلغاء النظام الإداري الذي يكون مشوباً بها فهي: الحالة الأولى هي الحالة التي يكون فيها النص غير مشروع منذ صدوره، أي أن يكون النظام الإداري منذ توقيعه مشوباً بعيب السبب أو الموضوع أو الشكل أو الإختصاص أو الغاية. فإذا كان القرار مشوباً بأي عيب من هذه العيوب أمكن لذوي المصلحة المطالبة بإلغائه دون التقيد بأي مهلة زمنية. ويتساوى في ذلك حالات عدم المشروعية وحالات انعدام الوجود، كما أن الإلغاء الإجباري بمفعولٍ رجعي موجود في حالة القرار عديم الوجود منذ زمن طويل، فليس من ضيرٍ إذا امتدَّ هذا المبدأ إلى نطاق جميع القرارات غير المشروعة.
أما الحالة الثانية لعدم المشروعية، فهي الناشئة عن تغيُّرِ الظروف الواقعية والقانونية، ففي حالة تغيُّر الظروف الواقعية، يكون لذوي المصلحة التقدم بطلب إلغاء هذه الأنظمة في أي وقت. وقد انتقل مبدأ غير المنظور من نطاق العقود إلى نطاق القرارات الإدارية، أما في حالة تغيُّر الظروف القانونية، فكانت القاعدة المطبقة أن طلب إلغاء الأنظمة التي أصبحت غير مشروعة بفعل تغيُّر الظروف القانونية، يجب أن يتقدم به صاحب المصلحة خلال مهلة شهرين من صدور القانون أو النص أو المبدأ القانوني الجديد الذي كان سبباً لتغيُّرِ الظروف. وبعد صدور مرسوم1025/83 في فرنسا والذي ساوى بين تغيُّرِ الظروف القانونية والواقعية، ومنذ هذا التاريخ فإنَّ تغيُّر الظروف القانونية يعطي ذوي المصلحة حق التقدم بطلب إلغاءها في أي وقت.
الخطوة الأولى لتطبيق المبدأ هي تقديم طلب إلى الإدارة نسألها فيه إلغاء هذا النظام غير المشروع. ويجب أن يكون مقدِّم الطلب صاحب مصلحة([1] [18])، وهو ذات شرط المصلحة المطبق أمام القضاء.
وبعد أن تتوفر في المستدعي شرط المصلحة عليه أن يتقدم بمراجعة مسبقة من الإدارة المختصة، وهذه المراجعة هي اجبارية، حيث لا يستطيع التوجه إلى القضاء من أجل تطبيق المبدأ إلا بعد التوجه بصورة مسبقة إلى الإدارة المختصة يطلب منها إلغاء هذا النظام غير المشروع، وإذا رفضت طلبه صراحة أو ضمناً يطعن عندها بقرار الرفض الصريح أو الضمني([1] [19]).
بعد التحقق من شرطي المصلحة والطلب المسبق، كانت المعضلة الأكثر خطورة، تتعلَّق بمهلة تقديم طلب الإلغاء، ذلك أن هذا المبدأ يصطدم بالنصوص القانونية التي تحدد مهلة المراجعة بشهرين وتربطها بالنظام العام. ولكن رغم تعلق المهلة بالنظام العام، إلا أن الاجتهاد في حالاتٍ كثيرة قد انقلب على هذه القاعدة، ففي فرنسا وقبل مرسوم1025/83 تاريخ28/11/1983 نجد أن مهلة المراجعة الإدارية هي شهرين من صدور العمل التنظيمي، إذا كان غير مشروع منذ صدوره، وهي شهرين أيضاً من تاريخ صدور النص الذي كان سبب تغيُّر الظروف القانونية، ولكن طلب الإلغاء كان غير مقيد بأي مهلة فيما خصَّ طلب إلغاء الأنظمة التي أصبحت غير مشروعة بفعل تغيُّر الظروف الواقعية، وهو أيضاً غير مقيد بأي مهلة في حالة القرار عديم الوجود. كذلك الأمر بالنسبة للدفع بعدم المشروعية. أما الحلول المعتمدة بعد صدور مرسوم 1025/83 فقد ارتكزت على تجاهل القضاء منذ هذا التاريخ مهلة المراجعة، وأصبح يقبل الطعن برفض الإدارة إلغاء الأنظمة التي طلب المستدعون إلغاءها، حتى ولو كانت هذه الأنظمة قد صدرت قبل مئة عام([1] [20] ).
أما في لبنان حيث لم يتبنَّ الإجتهاد بصورة صريحة هذا المبدأ، كان من المناسب البحث عن الثغرات التي تسمح بالتخلص من عقدة مهلة المراجعة دون أي ردات فعلٍ قاسيةٍ على ذلك، وكيف أن القضاء اللبناني حاول ونجح في الإلتفاف على مهلة الشهرين، عندما فصل بين مهلة مراجعة الإبطال ومهلة مراجعة القضاء الشامل. كما أنَّ المهل قد عُلِّقت في لبنان خلال 20سنة من عام1973 وحتى عام 1993 دون أن ينجم عن هذا التعليق أي آثار سلبية([1] [21]).
وأما إذا رفضت الإدارة الإستجابة لطلب الإلغاء، نلاحظ أنه يُفتح امام المستدعي مجدداً الطريق القضائي فيحق للمستدعي أن يطعن أمام القضاء برفض الإدارة الإستجابة لطلبه، كما له حق طلب فرض غرامات إكراهية على الإدارة ([1] [22] )وإلزامها بدفع التعويضات بسبب رفضها إلغاء الأنظمة غير المشروعة([1] [23])، وبهذه الأحكام نجد ان القضاء طبَّق ثلاثة مبادئ حديثة في حكم واحد هي: إلزام الإدارة بإلغاء الأنظمة غير المشروعة وتوجيه أمر بهذا المعنى إلى الإدارة المختصة مشفوعاً بالغرامة الإكراهية.
خامساً: مدى إمكانية تطبيق هذا المبدأ في لبنان
بعد أن تكرَّس هذا المبدأ في النظام القانوني الفرنسي، فهل الأرضية صالحة لتطبيقه في لبنان؟
إن المقِّدمات الأولية اللازمة لنجاح تطبيق هذا المبدأ في لبنان متوافرة، ورغم ذلك لا نعثر إلا على حكمٍ وحيد وقي قضية عادية تعلق بطلب إبطال نظام إداري صادر عن هيئة محلية([1] [24] )، ولم نجد أي طلب أو إدعاء لإلغاء نظام إداري صادر بمرسوم تنظيمي أو ما شابهه، كما لم نستطع أن نتثبَّتْ من طلبات موجهة إلى الإدارات المختصة ترمي إلى إلغاء الأنظمة غير المشروعة. بل حتى عندما تحصل أزمات نتيجة صدور أنظمة إدارية، كأزمة المازوت، وأزمة منع سير الدراجات النارية، لاحظنا جميعاً أن التظاهر والكلام الخطابي كان الوسيلة المتبعة، ولم يُقْدِم المتضررون على مطالبة الإدارة بإلغاء هذه الأنظمة التي قد تكون غير مشروعة بل هي فعلاً مشوبة بمخالفات قانونية.
لذلك فإنَّ نجاح هذا المبدأ وتطبيقه في لبنان، يحتاج إلى نشر الثقافة القانونية، وتعليم الناس أصول المطالبة بحقوقهم، وإخراجهم من حالة الاتكال على الوساطة من أجل نيل مطالبهم. والخطوات الأولى لذلك تتمثل بتعزيز الثقة بالقضاء، والتطبيق الفعلي لشرعة المواطن، وتحسين العلاقة بين الإدارة والمواطنين، والتي تمر الآن بمرحلة الود المفقود.
كما نجد أن للمشترع والإدارة ورجال القانون والهيئات الخاصة وجموع المواطنين دوراً في تسريع وتيرة العمل بمبدأٍ سيساهم في تنقيح الأنظمة الإدارية في لبنان وإبقاء ما يتلاءم منها مع قواعد المشروعية، وتعديل أو إلغاء الأنظمة غير المشروعة.
أما دور مجلس النواب، فلا يتمثل فقط بإقرار تشريع يلزم الإدارة بالاستجابة لكل طلب يرمي إلى إلغاء نظام إداري غير مشروع، بل يتعدى ذلك إلى ممارسة مجلس النواب دوره في إطار الرقابة السياسية على أعمال السلطة التنفيذية، وتنبيه هذه السلطة إلى التقيد بالضوابط التشريعية.
أما دور الإدارة، فيتمثل بالتقيد بهذا المبدأ، وإعطاء كل طلب يرمي إلى إلغاء نظام إداري غير مشروع، الدراسة الوافية والجدية وأن تأخذه على محمل الجد، وأن تعمد إذا ما تبين لها عدم مشروعية هذا النظام، إلى إلغائه، دون أن تكبِّد المستدعي عناء مراجعة القضاء، ويسهُلُ على الإدارات العامة الاستجابة لهذا الطلب، فيما إذا أصدر رئيس مجلس الوزراء تعميماً إلى الإدارات العامة بضرورة الاستجابة لكل طلب يرمي إلى إلغاء نظام إداري غير مشروع. كما يتوجب على الإدارة حتى تتجنب إصدار أنظمة إدارية غير مشروعة أن تتقيد بمضمون التعميم رقم31/93 تاريخ11/12/1993 والذي يطلب من كافة الوزارات عند إعداد مشاريع القوانين ومشاريع النصوص التنظيمية، أن ترفق كل مشروعٍ تعديليٍ بجدول مقارنة يبين النص الحالي والنص المقترح مع توضيح الأسباب الموجبة، ووضع دراسة اقتصادية تبين الانعكاسات المالية والضرائبية للنص المقترح، بعد استطلاع رأي الإدارات المعنية، وتكوين ملف كامل عن المشروع وإيداعه رئاسة مجلس الوزراء.
أما دور رجال القانون، فيتمثل بتسليط الضوء على هذا المبدأ، وإعطائه الاهتمام اللازم من الشرح والتفسير، لتحفيز الناس على استعمال هذه الوسيلة غير القضائية من أجل الحصول على إلغاء أو تعديل أنظمة ألحقت بهم ضرراً. ويقع جانباً من العبء على مجلس شورى الدولة، الذي يتوجب عليه إذا ما تسنى له النظر في قضايا تتعلق بإبطال رفض الإدارة الاستجابة لطلب إلغاء أنظمة غير مشروعة، أن يصيغ هذه النظرية بطريقة تسمح بإظهار هذا المبدأ والكشف عنه بصورةٍ واضحةٍ وجليِّةٍ، مما يشجِّعُ المتقاضين على طلب الفصل بمراجعاتهم على أساسه، دون أن يترددوا في اختياره سنداً قانونياً لدعواهم.
وأخيراً يأتي دور الهيئات الأهلية والخاصة، وعموم المواطنين، الذين هم المعنِّيون الرئيسيون بهذا المبدأ، والمخاطبون بهذه الدراسة الموجهة إليهم والتي تعنيهم بالدرجة الأولى، فقد ألقى هذا المبدأ على عاتق المواطنين مهمة التصدي للمطالبة بالدفاع عن المشروعية، ونكرر بأن إجراءات تطبيق هذا المبدأ هي إدارية صرف، فهي عبارة عن طلب موجه إلى الإدارة لإلغاء نظام إداري غير مشروع، أي تقوم على العلاقة بين الإدارة والمواطن، ويأتي دور القضاء كمرحلة لاحقة في حال عدم استجابة الإدارة لطلب المواطن، فهو الحارس الجديد للمشروعية، فهل يستطيع القيام بهذه المواجهة والوقوف بمواجهة الإدارة؟
في الواقع إن حالة الود المفقود بين الإدارة والمواطنين، تؤدي إلى امتناع المواطن عن تقديم طلبات إلغاء الأنظمة غير المشروعة، لأنه يدرك سلفاً النتيجة السلبية التي سيحصل عليها. ولكن إذا تعرَّف المواطن على أهمية هذا المبدأ، وعلى عواقب سكوت الإدارة عن الاستجابة لطلبه، وما يعطيه من حقِّ الطعن أمام مجلس شورى الدولة بهذا الرفض الضمني أو الصريح ليصل إلى إلزامها بالاستجابة لطلبه.
ونجد في هذا المجال غياب كامل لدور الهيئات الأهلية والخاصة، رغم كثرتها في لبنان، حيث نستطيع أن نحصي في الجريدة الرسمية بين عامي1993 و2002 ظهور حوالي: 1482 جمعية أهلية، و172 نقابة مهنية، و271 تعاونية، و256 مدرسة، إضافةً إلى وجود عدد كبير من الأحزاب. هذه الهيئات الأهلية التي تغطي معظم المجالات الحياتية، يمكنها بكل تأكيد أن تلعب دوراً أساسياً في تدعيم المشروعية، عبر المطالبة بإلغاء الأنظمة الإدارية غير المشروعة التي يتضرر منها المنتسبون إليها، في حال توفر فيها شرطي الصفة والمصلحة، الذين يتطلبهما القضاء لقبول إدعاء هذه الهيئات نيابةً عن أعضائها. وللأسف حتى الآن، يُلاحظ أن هذه الهيئات في غيابٍ شبه كاملٍ عن الساحة القضائية، ولم تتنبه إلى حقها في الدفاع عن مصالح المنتسبين إليها، ومن وراء ذلك الدفاع عن القانون والنظام في لبنان.
يبقى من المفيد التذكير في كيفية انسياب هذا المبدأ نحو القرارات الفردية([1] [25])، رغم الحذر القضائي والإداري من هذا الأمر، لبقاء التعارض بينه وبين مبادئ أخرى في القانون العام لا يمكن بسهولةٍ تجاوزها، وإن كنا نجد بعض التطبيقات خاصةً في حالة تغيُّرِ الظروف، ولكن هنا ليست النهاية بل نحن لا نزال في بداية الطريق.
مركز بيروت للابحاث والمعلومات
( [1] [1]) L’autorité compétente est tenue de faire droit à toute demande tendant à l’abrogation d’un règlement illégal, soit que le règlement ait été illégal dès la date de sa signature, soit que l’illégalité résulte des circonstances de droit ou de fait postérieures à cette date.
( [1] [2]) C.E. 6 Novembre 1959, Cooperative laitiére de Belfort, Rec. Cons. d’Ét. p581
( [1] [3]) C.E. 10 Janvier 1930, Despujol, REC p30
)[1] [4] )C.E. 12 Mai 1976 Leboucher et Tarandon, A.J.D.A.1977 p261
( [1] [5]) C.E. 30 Janvier 1981, Ministre du travail et de la participation/ Société France Afrique transactions, Dalloz 1982 p37
( [1] [6]) C.E.14 novembre 1958, Ponard, Rec. Cons. d’Ét. P554
)[1] [7](C.E. 3 janvier 1960, Laiterie saint cyprien, Rec.Cons. d’Ét. P10
( [1] [8]) C.E. 7mars 1962 , Sieur Claustre – Fourquet , Rec.Cons. d’Ét. P150
( [1] [9]) C.E. 6 novembre 1959, Coopérative laitière de Belfort, Rec.Cons. d’Ét. P581
( [1] [10]) C.E.13 juillet 1962, Syndicat des taxis gapençais Rec. Cons. d’Ét. P477; et C.E. 12 Mai 1976 Leboucher et Tarandon, Précité
( [1] [11]) Carbajo – l’Application dans le temps des décisions administratives exécutoires – L.G.D.J. 1980 p192
( [1] [12]) C.E. 1er janvier 1936, Syndicat des épiciers détalliants de Toulon, Rec.Cons.d’Ét. p435 – C.E. 23 novembre 1938, Sieur Lemeune et autres, Rec.Cons.d’Ét. p874
( [1] [13]) C.E. 5 juillet 1933, Ackein, Rec.Cons.d’Ét. p1527
( [1] [14]) C.E. 24 juin 1938, Chambre de commerce de Dakar et autres, Rec.Cons.d’Ét. p578
( [1] [15]) C.E.31 janvier 1996, Fédération syndical unitaire, Rec.Cons.d’Ét p 699
)[1] [16] ) C.E. Ass. 10 janvier 1964, Syndicat national des cadres des bibliothèques, Rec.Cons.d’Ét. p17
)[1] [17]( C.E.28 juin 2002, Fedération CFDT INTERCO, Req. no 232034
( [1] [18]) C.E. Ass. 20 décembre 1995, Vedel et Jannot, Rec. Cons. d’Ét. P440; C.E. 20 octobre 1999 , Féd. Synd. Généraux éduc. nat Dr. adm. 2000, Comm. no17; C.E. 27 juin 1986, Assoc. S.O.S. Défense, Dr. adm. 1986, no419
( [1] [19]) C.E. Ass. 22 janvier 1982, Ah Won , R.D.P. 1982 p816 ; C.E.28 juillet 1993, Mme Dupuy, J.P.C. 1993, jurs. No2406
( [1] [20]) C.E.Ass. 20 décembre 1995, Vedel et Jannot, L.P.A. 26 juillet 1996, no90, p28
([1] [21] ) راجع القانون رقم 20 الصادر بتاريخ14/9/1973. والقانون رقم 30 الصادر في 28/8/1975وكذلك المرسوم الاشتراعي رقم 34 الصادر في 9/5/1977، والمرسوم الاشتراعي رقم 12 الصادر في 24/2/1983 والمعدل بموجب المرسوم الاشتراعي 66 تاريخ 9/9/1983.والقانون 50 تاريخ 23/5/1991، وأخيراً القانون رقم 201 تاريخ 2/3/1993.
( [1] [22]) C.E. 21 février 1997, Calbo, J.C.P.1997,II, 22866, note Lascombe
( [1] [23]) C.E. 5mai 1986, Laurelli, A.J.D.A. 1986, p510
([1] [24] ) شورى لبنان قرار رقم494 تاريخ22/4/1997- حسين حلال/ بلدية بيروت- مجلة القضاء الإداري 1999 ص439
اترك تعليقاً