جرائم العرض والشرف وأحكامها في الفقه الإسلامي
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
تتمة لموضع الاخ اسعد فاني تبحرت قليلا في موضوع الشرف حيث شغل بالي هذا الموضوع
وكنت قد اكتشفت اني لا ازال اتعامل بسطحية مع هذا الموضوع
من المعلوم أن من مقاصد الشريعة الغراء «حفظ النفس وحفظ العرض». واحتاط الشارع في الدماء بما لم يحتط به في غيرها ولذلك كان من قواعده أن «تدرأ الحدود بالشبهات»، وفي حفظ العرض منع إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا وجعل عقوبة ذلك العذاب الأليم، ومن يقذف مؤمناً أو مؤمنة بغير بينة شرعية يجلد ثمانين جلدة وتسقط عدالته فلا تقبل له شهادة أبداً. قال تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم}.
وفي رواية عن الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن لا تجوز شهادتهم: «ولا مجلودٍ في حد» وجاء في رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري (… المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حدٍ أو مجرباً عليه شهادة زور)
والقذف تعدٍ على حق الآدمي من ناحية وعلى حق الله تعالى من ناحية أخرى فهو من أشد الجرائم خطورة، ورد الشهادة من أقوى أسباب ردع المتهم لما فيه من إيلام القلب، وهو عزل لولاية لسانه الذي استطال به على عرض أخيه، ورد الشهادة عقوبة في محل الجناية، فإن الجناية حصلت بلسانه فكان أولى بالعقوبة فيه، كما في قطع يد السارق فإنه حد مشروع في محل الجناية.
وجعل الشارع حكم اللعان لكل من الزوج والزوجة إذا رمى أحدهما الآخر ولم تكن له بينة شرعية وإلا فالحد الشرعي. والبينة في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة رضي الله عنهم:
اسم لكل ما يبين الحق، فهي أعمُّ من البينة في اصطلاح الفقهاء حيث خصوها بالشاهدين أو الشاهد واليمين. قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر}. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «والبينة على المدعي» المراد من ذلك القول: ألك ما يبين الحق من شهود أو دلالة؟» «إعلام الموقعين لابن القيم جـ1/90». فإذا عرف منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألك بينةٌ؟» أي ألك ما يبين الحق من شهود أو دلالة؟ والبينة في الشهادة على الزنا أربعة رجال فإن شهدوا دون أربعة بالزنا حدوا للقذف، ولا تقبل شهادتهم قبل التوبة. والشاهد في الحدود مخيَّر بين الستر والإظهار، فهو مخير بين أن يشهد حسبةً لله تعالى فيقام الحد على الجاني، وبين أن يتوقى عن هتك ستر الجاني حسبةً لله تعالى والستر على الجاني أفضل نقلاً وعقلاً وذلك للأدلة التالية:
1- اخرج الموطأ عن سعيد بن المسيب رحمه الله قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أسلم يقال له «هزال» وقد جاء يشكو رجلاً بالزنا، وذلك قبل أن ينزل: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم} يا هزال: لو سترته بردائك كان خيراًلك. 2- وروى الترمذي في جامعه عن عبدالله بن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربةً فرج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة ومن ستر على مسلم ستره الله فيالدنيا والآخرة»
وحدث مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن رجلاً من أسلم جاء إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال له: إن الآخر زنى فقال له أبوبكر: هل ذكرت هذا لأحد غيري. فقال: لا. فقال له أبوبكر فتب إلى الله واستتر يستر الله فإن الله يقبل التوبة عن عباده.. إلى آخر ما جاء في الحديث.
4- وحدث مالك عن زيد بن أسلم أن رجلاً اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا له رسول الله بسوط فأتي بسوط مكسور فقال: فوق هذا. فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته، فقال: دون هذا. فأتي بسوط قد ركب به ولان فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد ثم قال: «أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله؛ من أصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله فإنه من يُبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله».
ولما كان الله تعالى يحب الستر على عباده وإلى ذلك ندب وذمَّ من أحب أن تشيع الفاحشة، ولتحقيق معنى الستر شرط زيادة العدد في الشهود في حد الزنا وإلى ذلك أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله لهلال بن أميّة: «ائت بأربعة يشهدون على صدق مقالتك وإلا فحد في ظهرك». ففي هذا بيان اشتراط الأربعة لإبقاء ستر العفة. روى الإمام الشافعي بسنده عن عبادة بن الصامت قال:
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً- وقرأ عليهم الآية- فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فهو إلى الله عز وجل إن شاء غفر له وإن شاء عذبه». قال الشافعي: ولم أسمع في الحدود حديثاً أبين من هذا. وروي أن أبا بكر رضي الله عنه أمر رجلاً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم أصاب حداً بالاستتار وأن عمر أمره به وهذا حديث صحيح منهما. قال الشافعي:
ونحن نحب لمن أصاب الحد أن يستتر وأن يتقي الله عز وجل ولا يعود لمعصية الله فإن الله عز وجل يقبل التوبة عن عباده. الأم جـ1/138. قال ابن القيم في إعلام الموقعين: وأما اكتفاؤه في القتل بشاهدين دون الزنا ففي غاية الحكمة والمصلحة فإن الشارع احتاط للقصاص والدماء واحتاط لحد الزنا، فلو لم يقبل في القتل إلا أربعة لضاعت الدماء، وتواثب العادون وتجرأوا على القتل، وأمّا الزنا فإنه بالغ في ستره كما قدر الله ستره فاجتمع على ستره شرع الله وقدره، فلم يقبل فيه إلا أربعة يصفون الفعل وصف مشاهده ينتفي معها الاحتمال وكذلك في الإقرار، لم يكتف بأقل من أربع مرات حرصاً على ستر ما قدر الله ستره، وكره إظهاره، والتكلم به، وتوعد من يحب إشاعته في المؤمنين بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة». جـ2/65.
شروط الشاهد وقد جعل الشارع للشاهد شروطاً وهي العقل والبلوغ والحرية والعدالة في الدين والمروءة والأحكام، ولا عدالة لصاحب المعصية لأن المعصية مسقطة للعدالة. قال الشافعي: إن العدالة شرط القبول لا يثبت القبول أصلاً دونها. كما شرط الشارع على الشاهد أيضاً شرطاً آخر وهو العلم بالمشهود به وقت الأداء وذاكراً له. لقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} ولقوله صلى الله عليه وسلم:
«إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع» كما يشترط فيه الاختيار والإسلام، وأن تتفق صيغة الشهود الأربعة في الشهادة على الزنا بلفظ واحد وهو أن يقولوا «رأينا ذكره في فرجها كالميل أو كالمرود بالمكحلة» وإلا حدوا حد القذف.
كما يشترط أن تكون شهادتهم جميعاً في مجلس القضاء حتى تكون حجةٌ ملزمة بقضاء القاضي. وقد ردَّ الشارع شهادة الفساق: قال في الأشباه والنظائر: لو حكم القاضي بشهادة فاسقين اعتقد عدالتهما نقض حكمه على الصحيح، وعلل ذلك الإمام نور الدين الأزرق بأن عدالة الشهود شرط في الحكم. انظر فتاوى ابن حجر جـ4/347 والذي لا تقبل شهادته لفسقه منهم:
1- الذي يعلن أنه يرتكب الكبيرة.
2-آكل الربا
3- من اشتهر عنه أكل الحرام.
4- مدمن الخمر.
5- من يجلس مجلس الفجور والمجون والشرب وإن لم يشرب. 6
6- من يؤخر بلا عذر فرضاً وله وقت معين كالصلاة والصيام، أما ماليس له وقت معين كالزكاة والحج فتأخيره لا يسقط العدالة. انظر الفتاوى الهنديه 3/466. قال في المغني على الشرح الكبير:
الفسوق نوعان: 1- من حيث الأفعال، فلا نعلم خلافاً في رد شهادته.
2- من جهة الاعتقاد: وهو اعتقاد البدعة فيوجب رد الشهادة وقال بذلك مالك وأبو ثور. انظر المغني 12/28. والله عز وجل قد جعل نصاب الشهادة على الزنا أربعة شهود فقال تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم}.
وقال تعالى: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء}. وقال عليه الصلاة والسلام للذي قذف امرأته: ائت بأربعة يشهدون على صدق مقالتك وإلا فحد في ظهرك. كما انعقد الإجماع على أن جريمة الزنا لا تثبت إلا بأربعة شهود عدول وذلك لأن الفضيحة في هذه الجريمة أشنع من أي فضيحة في الجرائم الأخرى فشدد الشارع فيها طلباً للستر. ويشترط أن يشهدوا جميعاً في وقت واحد عند القاضي ويشترط أن يروا جميعاً في وقت واحد فلابد من اتحاد وقت التحمَّل واتحاد وقت الأداء ومن اتحاد الرؤيا واتحاد كيفيتها من اضطجاع أو قيام أو هو فوقها أو تحتها واتحاد مكانها، ولابد من ذكر ذلك كله للقاضي كل على حده.
فالله إذن أحب الستر على عباده وشرط زيادة العدد تحقيقاً لمعنى الستر. فإذا ثبتت الجريمة وجب الحد وتدرأ الحدود بالشبهات وإذا كان القذف من الزوج لزوجته ولا بينة لديه فقد نسخ عنه الجلد وصار الحكم في حقه اللعان لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهلال بن أمية حين نزلت آية اللعان {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم..} الآيات.
«ائتني بصاحبتك فقد أنزل الله فيك قرآناً» ولاعن بينهما، فإذا لم يلاعن فعليه الحد. واللعان: أن يقول في مكان عام: أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا بفلان وأن هذا الولد من زنى وما هو مني، إن أراد أن ينفي الولد ويكرر ذلك أربعاً. ثم يقول في الخامسة: لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا بفلان- إن كان ذكر الزاني- بها وإن هذا الولد من الزنا ما هو مني.
فإذا قال هذا فقد أكمل لعانه وسقط حد القذف عنه ووجب حد الزنا على زوجته إلا أن تلاعن فتقول: أشهد بالله أن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا بفلان وأن هذا الولد منه وما هو من الزنا (تكرر ذلك أربعاً) وتقول في الخامسة: وعليَّ غضب الله إن كان زوجي هذا من الصادقين فيما رماني به من الزنا بفلان. فإذا أكملت هذه سقط عنها الحد وانتفى الولد عن الزوج ووقعت الفرقة بينهما وحرمت عليه إلى الأبد.
أما إذا كان المقذوف الزوج والقاذف زوجته فتحد ولا تلاعن. هذه هي أحكام الإسلام واضحة صريحة بكل ما يتعلق بالعرض وصيانته من كل ما يلوث شرفه وطهارته وهذه هي الطرق الشرعية في معاقبة مرتكب الجريمة سواء كان قاذفاً أو زانياً أو شاهداً.. والذي له الحق وحده في إقامة الحدَّ متى ثبت هو الإمام فقط أو نائبه الذي أعطي الصلاحية في ذلك وأما ما عداه من زوج أو أب أو أخ أو عم أو قريب أو بعيد فلا حق لهم في ذلك وإذا ارتكبوا جريمة قتل في حق المقذوفة فعليهم القصاص لأنه قتل عمد من غير بينة على وجوب القتل في حق القتيلة {تلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه}.
اترك تعليقاً