لمحة عن المبادئ القضائية
عبدالعزيز محمد العبيد
باحث ومستشار قانوني
Alobid100 @
هناك نوعان من المبادئ القضائية يتعين على الدارسين والممارسين لأعمال قضائية أو قانونية معرفة الفرق بينها واستخدام مصطلحاتها بدقة، أولاً: مبادئ المحكمة العليا بهيئتها العامة ويمكن تسميتها بـ”المبادئ القضائية” وتعنى عادةً بتقديم الحلول العامة في المسائل التفصيلية، وثانياً: ما يمكن تسميته بـ “مبادئ القضاء” من جهة أخرى وهي أسس ومنطلقات تنظم عمل القاضي وتعزز فاعلية القضاء وتسهم في تحسين مستواه كاستقلال القاضي وعلانية الجلسات القضائية وغيرها.
أما “المبادئ القضائية” فهي أحكامٌ عامة لمسائل تفصيلية في موضوعات فقهية وإجرائية تصدر عن الهيئة العامة بالمحكمة العليا وفقاً لنطاق اختصاص المحكمة العليا الذي بينته المادة 11 من نظام القضاء والتي تنص على أن: “تتولى المحكمة العليا بالإضافة إلى الاختصاصات المنصوص عليها في نظام المرافعات الشرعية ونظام الإجراءات الجزائية مراقبة سلامة تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وما يصدره ولي الأمر من أنظمة لا تتعارض معها في القضايا التي تدخل ضمن ولاية القضاء العام، وذلك في الاختصاصات الآتية:
1) مراجعة الأحكام والقرارات التي تصدرها أو تؤيدها محاكم الاستئناف بالقتل أو القطع أو الرجم أو القصاص في النفس أو فيما دونها.
2) مراجعة الأحكام والقرارات التي تصدرها أو تؤيدها محاكم الاستئناف المتعلقة بقضايا لم ترد في الفقرة السابقة أو بمسائل إنهائية ونحوها، وذلك دون أن تتناول وقائع القضايا، متى كان محل الاعتراض على الحكم ما يلي:
أ) مخالفة أحكام الشريعة الإسلامية وما يصدره ولي الأمر من أنظمة لا تتعارض معها.
ب) صدور الحكم من محكمة غير مشكلة تشكيلاً سليماً طبقاً لما نص عليه في هذا النظام وغيره من الأنظمة.
ج) صدور الحكم من محكمة أو دائرة غير مختصة.
د) الخطأ في تكييف الواقعة، أو وصفها وصفاً غير سليم.”
وكذلك الفقرة الثانية من المادة 13 التي تضمنت أن من مهام الهيئة العامة بالمحكمة العليا (تقرير مبادئ عامة في مسائل القضاء) حيث نصت على ما يلي:
“2- تتولى الهيئة العامة للمحكمة العليا ما يلي:
أ) تقرير مبادئ عامة في المسائل المتعلقة بالقضاء.
ب) النظر في المسائل التي ينص هذا النظام أو غيره من الأنظمة على نظرها من الهيئة العامة.”
وقد أورد المستشار عبدالوهاب السادة في مقال علمي له منشور على النت عدة صور للمبادئ القضائية التي تصدر عادةً عن المحاكم العليا، ومن ذلك:
1- اختيار رأي فقهي.
2- إنشاء حكم جديد لا وجود لمثله في الفقه الإسلامي.
3- إقرار قياس قضائي فيما يجوز فيه القياس.
4- ترجيح التعارض بين نصين.
5- تفسير نص غامض أو اختيار إحدى التفسيرات المحتملة للنص.
6- تخصيص نص عام أو بيان مجمل أو تقييد مطلق.
7- تفصيل نطاق تطبيق رأي فقهي أو نص نظامي.
ومن أمثلة المبادئ القضائية في المملكة قرار الهيئة العامة بالمحكمة العليا رقم (15/م) وتاريخ 8/11/1435هـ بشأن خطأ القاضي في عمله القضائي، وقد قررت الهيئة ما يلي: (التعويض عن خطأ القاضي في عمله القضائي تتحمله الدولة).
وكذلك: قرار الهيئة العامة بالمحكمة العليا رقم (5/م) و تاريخ 7/2/1435هـ بشأن إحاطة القتل بما دونه من عقوبات للحق العام ومصادرة الأدوات والأموال المستخدمة في الجرائم، وقد قررت الهيئة ما يلي:
(أولاً: لا يجمع بين الحكم بالقتل وعقوبة أخرى للحق العام.
ثانياً: الأموال المكتسبة بطريق غير مشروعة المستخدمة في الجريمة تجب مصادرتها سواء حكم بالقتل أم لا.
ثالثاً: إذا سقط القتل لأي سبب فيقام على الجاني ما وجب عليه من عقوبات.
رابعاً: إذا كانت الأدوات المستخدمة في الجريمة مملوكة لغير الجاني فلا تصادر مالم يوجد تواطؤ أو تفريط من المالك.)
أما “مبادئ القضاء” فعادة لا تأتي على صورة قرار كما في الأمثلة السابقة وإنْ تضمنتها بعض القرارات إلا أنها لا تكون منشئة لها بذاتها، فهي مجموعة من الأسس والمرتكزات المنظمة للمؤسسة القضائية وطريقة القضاء، فحتى يكفل هذا التنظيم تحقيق العدالة ويضمن حسن سير القضاء كان لا بد من أن يرتكز على مبادئ أساسية عامة لا تتأثر بنوعية القضايا أو درجات التقاضي أو اختلاف المحاكم، ونظراً لأهميتها فقد قرر النظامُ الأساسي للحكم بعضها كما في المادة السادسة والأربعين والتي على نصت على أن (القضاء سلطةٌ مستقلة ولا سلطان على القضاة في قضائهم لغير سلطان الشريعة الإسلامية)، وكما في المادة الثامنة والأربعين والتي تنص على ما يلي: (تطبق المحاكم على القضايا المعروضة أمامها أحكام الشريعة الإسلامية وفقاً لما دل عليه الكتاب والسنة، وما يصدره ولي الأمر من أنظمة لا تتعارض مع الكتاب والسنة).
لذا فإن مبادئ القضاء تمثل أصولاً كلية تضم تحتها عدداً عديداً من الفروع والجزئيات من أبواب متفرقة في الناحيتين الموضوعية أو الإجرائية، ومما يساعد في فهم هذا النوع من المبادئ ما كتبه د.حسين آل الشيخ في بحثٍ له بعنوان “المبادئ القضائية في الشريعة الإسلامية وارتباط النظام القضائي في المملكة العربية السعودية بها” وقد أورد فيه ما يزيد على خمسة عشر مبدأً منها: (مبدأ استقلال القضاء، ومبدأ النظر إلى الظواهر دون البواطن، ومبدأ قيام القضاء على الحجة والبرهان، ومبدأ تسبيب الأحكام القضائية، ومبدأ مراعات المصالح الزمانية والمكانية، ومبدأ سرعة البت في فصل المنازعات، ومبدأ اعتبار المعاني والمقاصد، ومبدأ التنفيذ الجبري للأحكام القضائية، ومبدأ اعتبار المآلات) ودلل الباحث على هذه المبادئ من النصوص الشرعية والنقولات الفقهية، والمواد النظامية خصوصاً من نظامي المرافعات الشرعية والإجراءات الجزائية، ولائحتيهما التنفيذيتين.
وبذلك نلحظ الفرق بين “المبادئ القضائية” التي تعنى عادةً بالاجتهادات القضائية في المسائل الفقهية التفصيلية وتصدر عن المحكمة العليا بهيئتها العامة، وتعبر عن نطاق أكثر تركيزاً على مسائل جزئية تضم تحتها فروعاً محدودة من المسائل القضائية، فهي أقل عموماً من مبادئ القضاء الشاملة لأبواب كثيرة ومتفرقة، وأدق منها نطاقاً، و”مبادئ القضاء” أو الأسس والمنطلقات العامة التي تنظم سير عمل المرافق القضائية أو تعزز قدرة القاضي على نظر القضايا المعروضة عليه أو تجمع أشتات المسائل المتناظرة في أبواب وموضوعات مختلفة كـ مبدأ (اعتبار المعاني والمقاصد) والذي يضم فروعاً لا محدودة من المسائل والأحكام في أبواب متفرقة من المعاملات كالعقود والمعاوضات والجزاءات والقرارات والأعمال الإدارية والجنايات والأحوال الشخصية.
يبقى أمام جامعاتنا ومراكزها البحثية مسؤولية تأصيل هكذا مصطلحات قد يؤدي غياب تحريرها مع الوقت إلى الخلط بين موضوعات مختلفة سواءً على مستوى الطروحات العلمية أو على مستوى التطبيق العملي.
ويبقى أمام المؤسسة القضائية الكثير من الإصلاحات والتحسينات التي تدعو الضرورة الملحة إلى تسريع وتيرتها لمواكبة التحول الوطني لجذب الاستثمارات وتقليل الاعتماد على النفط وتنويع مصادر الدخل وخلق فرص العمل وتوطينها، ولاستيعاب تفاوت الاتجاهات والمفاهيم القانونية المتزامنة مع التنوع الهائل الذي سنعكس أثره على البيئة العدلية بإزاء افتتاح الكليات والأقسام التعليمية لتخريج القضاة والمحامين والمستشارين وعودة دارسي التخصصات القانونية من مختلف الجامعات العالمية المتنوعة في مدارسها التطبيقية واتجاهاتها العلمية واصطلاحاتها الأكاديمية والمهنية.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً