ثنائيات الفقه والقانون
عبدالعزيز محمد العبيد
باحث ومستشار قانوني
Alobid100 @
طُبخت ثنائيات الفقه الإسلامي والقانون حتى احترقت -أو كادت- دون أن تُنضِج رأياً نضيداً يتفيأ الكل ظلاله ويستقر عليه العمل وتندفع به عجلة الواقع القضائي والوسط القانوني إلى الأمام وفق ممارسة ثقافية ووعي مجتمعيٍ بضرورة تجاوز المصطلحات من جهة وعدم تسطيح ما لا يحتمل التسطيح من جهة أخرى.
أجولُ في معرض الكتاب فأجد بوناً شاسعاً -ككل عام- بين أطروحات المدرسة الفقهية وأطروحات المدرسة القانونية الصِرفة، حتى تلك التي تقارن موضوعاتُها الشتيتة بين الشريعة والقانون أو بين الفقه والنظام لا تزال تكرس الفروقات الفجواتية بين المدرستين، وحتى تلك الكليات المنشطرة إلى الفقه نأياً عن القانون أو العكس لا تزال تعمل بهديرٍ لا يتوقف كخطوط إنتاجٍ نَشِطةٍ لتوليد الدراسات المنحازة انحيازاً غير مبرر إلى إحدى النوعين أو الدامجة دمجاً مبالغاً بين مسكوت الشريعة ومنطوق الإجراء.
أتفهّم أن يكون ذلك الانشطار فيما لو لم توجد نقاط التقاء بين الطرفين، أما في بلادنا الرائدة في إعمال الشريعة ومقاصدها بما يكفل الأسس والنظريات القانونية ويحقق الضمانات العدلية بثوب قشيب غير مسبوق فلا داعي لكل ذلك الافتراق بين طريقي الفقه والقانون وطريقتيهما.
حين أتأمل في كثير من الكليات أجد أن الفقه يُدرَّس لطلاب القانون على استحياء وأجد أن القانون يُدرَّس لطلاب الشريعة على استحياء ولست أدري لمَ ذلك التخاجل في تلكما البيئتين! فالشريعة هي الحضن الدافئ للقانون والقانون هو الترجمة المعاصرة لقواعد الفقه وأصوله في أبواب المعاملات. ربما لا تتطلب معالجة هذا النوع من الانقسام في كليات الشريعة والقانون أكثر من مجرد عمل تحسينات يسيرة على مستوى المناهج وأعضاء هيئة التدريس والسياسات التعليمية لتحقيق عنصر التنوع وتوسيع مدارك الدارسين وتزويدهم بالمهارات البحثية الكفيلة بتنمية قدرتهم على التعامل مع المستجدات المهنية والاقتصادية في سوق العمل.
أما على مستوى الأطروحات العلمية والأبحاث فرأيي الذي أرجو هذه المرة أن يُنضج مساراً مرناً يتسع لجميع السالكين ويهم بالدرجة الأولى الباحثين والدارسين؛ يمكن إيضاح أبرز ملامحه فيما يلي:
أولاً: من غير المناسب عنونة كثير من الدراسات بالـ (مقارنة بين الشريعة والقانون) فمصطلح الشريعة الإسلامية من حيث دلالته على الديانة والرسالة النبوية لا يصح أن يكون جثة على مشرحة القانوني ولا أن ينطلق الباحث من مبدأ المقارنة بين الشريعة والقانون حتى ولو كان لبيان سمو الشريعة من الناحية العلمية (أعني بأدوات البحث المجردة في عمليات البحث الموضوعية) وفي ذلك العديد من الملاحظات حيث إن البحث الموضوعي بأدواته المجردة ومقدماته المنطقية يقتضي ألا تكون النتيجة متقررة في ذهن الباحث قبل البحث فضلاً عن أن يتبنى ما يدافع عنه في ثنايا بحثه؛ ففي هذه الحالة إما أن يخل عنوان الدراسة بنظرية المبادئ الشرعية المرتبطة بديانة الإنسان وعقيدته ليغدو وكأنه بحث عنها من جديد وهو ما يختلف عن مراد الباحث ولا يعكس مضمون الدراسة، وإما أن يخل بقواعد البحث العلمي القائم على إعمال الأدوات الموضوعية للوصول إلى مؤدى النتيجة التي لم تكن مستقرة في قناعة الباحث قبل البحث، وبالتالي يصبح البحث مجموعة معلومات تدعم الإجابة المتجذرة في ذهن الباحث قبل البحث، فلا يبقى للدراسة محلٌ تنسكب عليه أدوات البحث العلمي أومثارٌ لتساؤلاته.
ثانياً: أن التعبير الدقيق للمقارنة حالتئذ يكون بين الفقه أو الفقه الإسلامي والقانون، لأن الفقه الإسلامي اشتمل على أحكام وقواعد وفروع مستنبطة من أفهام الفقهاء لشريعة الله، وأفهام الفقهاء قابلة للمقارنة بل للنقد والتقويم والتحقيق والتكييف، وهو ما يتسق مع مفهوم البحث العلمي ومعاييره الحيادية وأدواته الموضوعية.
ثالثاً: غالباً ما يكون الفقه الإسلامي أوسع من دائرة القانون عند بحث أي مسألة؛ فمن المنطق العلمي في الدراسات المقارنة أن يكون بحث المسألة فقهياً في أي عنصر متأخراً عن بحثها قانونياً، ليكون الباحث أقدر على نقد مسائل القانون وتقويمها من خلال المنظور الفقهي الشامل بشمول أدلته واتساع رقعة تطبيقاته ومرونة تكييفاته ونظائر فروعه وجزئياته وتنوع أقوال الفقهاء وزخم التراث الفقهي، ولأن الرأي الفقهي المبني على صريح النص وثوابت الدين وإجماع الفقهاء يعتبر فاصلاً في المسألة فلا يناسب في ترتيب التسلسل الذهني للقارئ أن يقوم الباحث بعرض الآراء القانونية المخالفة بعد تقرير قطعيتها أو رجحانها في الفقه، وهو ما يُقصي عنصر التشويق لدى القارئ؛ فالنتيجة حالتئذ تكون تحصيلاً لحاصلٍ سابق بنص الشرع وثوابته أو مرجحاته، أو مناقِضة لنتيجة أولى دون ربط بين النتيجتين.
رابعاً: لم يعد بوسع المكتبات ولا الأوقات ولا الأذهان تحمل المبالغات المتكلفة في مقارنات المحسوس والمعقول والمشروع والمسكوت، فالمعلوم من قواعد الفقه وأصوله أن “الأصل في الأشياء الإباحة” فما يضيف القيمة العلمية إلى الدراسة من المقارنات والنقد والتقويم من الأنظمة والقوانين والقواعد والنظريات القانونية وتطبيقاتها العالمية؛ هو ما تقاطع منها –فحسب- مع الأحكام والأصول والقواعد الفقهية واحتاج إلى ابتكارٍ يجمع الرأيين المختلفين أو تكييفٍ يستوعب النظريتين المتنافرتين، أو تأصيلٍ جديد يُلحق الفروع بالأصول، أو اجتهاد لاحق على غير مثال سابق يستجد له ما يسوغه، أما ما ترهلت به الكثير من الدراسات الثنائية فلا يتجاوز أكثر من كونه محاولات استرضائية لمشرفي تلك البحوث أو جمهور الكاتب أدت إلى التواءاتٍ متعسفةٍ لأعناق النصوص وتكلفٍ مصطنعٍ لإسباغ الإباحة الشرعية على إجراء قانوني مباح في الأصل؛ حتى استشهد أحدهم بشرعية أعمال جهة الإدارة في تحقيق مصالح المرفق العام بقوله تعالى {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} !
أخيراً: لا أرى مبرراً لهجوم بعض أبناء المدرسة الفقهية على مصطلحات المدرسة القانونية أو العكس عند بحث المسائل من النواحي العلمية مع بقاء استخداماتها التنظيمية ما لم تؤدِّ إلى حدوث الالتباس لدى القارئ والمتلقي.
فبوسع الفقهاء المحافظة على تراثهم الفقهي ولغتهم العلمية حتى مع استخدام المؤلفين والدارسين لمصطلحات المدرسة القانونية والعكس بالعكس، فتدوير المصطلحات بين المدرستين يثري الحركة العلمية ويوسع المدارك وينقح الاجتهادات ويواكب المستجدات، فالعبرة بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني، وقد كانت العرب تعد من الفصاحة استخدام المجازات والتكنية والتنويع في الألفاظ.
ولا أدل على تلك المعتركات العلمية بين الطائفتين من مفردة (القانون) واشتقاقاتها التي لا تزال جدليةً شاهدة على عمق الهوة التي لا بد من ردمها سريعاً لتحقيق الأهداف والخطط التنموية الرامية إلى تركيز موقع المملكة الاستراتيجي والاقتصادي كقوة استثمارية رائدة ومحور ربطٍ للقارات الثلاث وانفتاحها على الأسواق العالمية وما يجب أن يواكب هذا التركيز المحوري لموقع المملكة الاقتصادي من تعزيزٍ لمستوى الضمانات الاستثمارية وتسريعٍ لوتيرة التحسينات القضائية واستقرارٍ للأقضية ووضوحٍ للأحكام والمفردات والتطبيقات الفقهية والقانونية.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً