مقال قانوني للدكتور ليث نصراوين بعنوان الثقة بالنسور خير من العودة إلى البداية
أخيرا أسدلت الستارة على مجريات الثقة بالبيان الوزاري، حيث حاز الدكتور عبد الله النسور على ثقة مجلس النواب بأغلبية 82 نائبا، وهو ما أضفى على حكومته وبعد طول انتظار الحلة الدستورية الكاملة لتباشر عملها في تنفيذ ما جاء في بيانها الوزاري من وعود وبرامج تتعلق بالسياسة العامة للدولة.
وبالعودة إلى مجريات المناقشات النيابية للبيان الوزاري نجد أنها قد اتسمت بالحدية والعدائية ليس فقط لبرنامج الحكومة، بل ولشخص رئيس الوزراء نفسه، إذ تبارى السادة النواب في شن الهجمات على شخصه أولا قبل سياساته الحكومية عاقدين المقارنة بين النسور نائبا معارضا والنسور رئيسا للوزراء، متهمين إياه بالكيل بمكيالين خلال الفترة التي قضاها في مجلس النواب وتلك التي سكن بها الدوار الرابع. فكان موقف بعض السادة النواب واضحا وصريحا بحجب الثقة عن الحكومة حتى قبل إعلان تشكيلها وخروج طاقمها الرشيق إلى حيز الوجود. وقد ازدادت نبرة الحجب بعد أن أعلن النسور أسماء فريقه الوزاري التي جاءت مخيبة للآمال الشعبية والسياسية، والتي كانت تمني النفس باختيار رجال دولة من الطراز الأول ليكونوا قادرين على تحمل صعوبات المرحلة القادمة ومشقاتها. وقد وصلت العدائية ضد النسور إلى مستويات غير مسبوقة، حيث قام عدد من النواب المخضرمين بتشكيل لوبي نيابي بغية إسقاطه، فقاموا بشن هجوم كاسح ومنسق عليه من خلال تعمدهم تأخير كلماتهم إلى ما قبل التصويت على الثقة بفترة وجيزة. كما عملوا على التأثير سلبا في النواب الجدد الذين انصاعوا لهم وبادروا بدورهم إلى مهاجمة النسور رغم أن معظمهم قد تعرف إليه لأول مرة تحت قبة البرلمان.
النسور بدوره استشعر الخطر المحدق به، وكانت خياراته محدودة في ظل ما تسرب من أقاويل أنه قد يترك وحيدا لمواجهة الاستحقاق الدستوري، وفي ظل الأنباء التي تحدثت عن احتمالية أن تتم التضحية بحكومته في سبيل تهدئة المزاج الشعبي. فبادر وعلى الفور إلى الاستجابة إلى مطالب عدد من السادة النواب بلقاء كتلهم النيابية، فكانت الوعود التي لا تسر “لا عدوا ولا حبيبا” أن هناك تعديلا وزاريا موسعا سيطال أعضاء الحكومة الحالية، وإن لم يحدد النسور أشخاص الخارجين أو المنضمين للحكومة، وفيما إذا كانوا من داخل مجلس النواب أم من خارجه.
وفي النهاية تمكن النسور من الصمود في وجه “الثورة” النيابية التي اندلعت ضده وخرج منها بأقل الهزائم مشدود العزيمة بثقة أعضاء مجلس النواب. وهذا برأينا هو السيناريو الأقل ضررا على المشهد السياسي والدستوري الأردني، فعلى الفرض الساقط أن مجلس النواب قد حجب الثقة عن حكومة النسور وأسقطها، فإن الحكم الدستوري واضح في هذه الحالة بأنه يجب على الحكومة أن تتقدم باستقالتها الخطية إلى جلالة الملك، وهو الأمر الذي من شأنه أن يعيدنا إلى نقطة البداية بعد إجراء الانتخابات النيابية الأخيرة في رحلة البحث عن رئيس وزراء وأعضاء في الحكومة.
فقد استنفدت الدولة بسلطاتها ومجلسها النيابي جهودها في اختيار رئيس الوزراء الحالي في ظل التعهدات الملكية بتغيير آلية اختيار رئيس الوزراء والوزراء من خلال التشاور مع أعضاء مجلس النواب. كما أن الفترة الزمنية التي استغرقتها عملية اختيار عبد الله النسور رئيسا للوزراء وحالة المد والجزر في التعاطي مع أسماء المرشحين التي ما كان لها أن تنتهي لولا الحكم الدستوري بضرورة تقديم حكومة النسور الأولى لبيانها الوزاري يجعل من مجرد التفكير بإعادتها ضربا من ضروب المجازفة الدستورية. هذا بالإضافة إلى أن حجب الثقة عن النسور كان سيتسبب في مشكلة دستورية تتمثل فيمن يملك الحق في قبول استقالة حكومته، فجلالة الملك موجود خارج البلاد ونائبه سمو الأمير فيصل قد استثني بموجب الإرادة الملكية السامية بتعيينه من ممارسة الحقوق الدستورية الواردة في المادة (35) من الدستور التي تتعلق بإقالة الحكومة وقبول استقالتها. كما أن حجب الثقة عن النسور والعودة لطاولة المشاورات من جديد ستطال ليس فقط اختيار رئيس وزراء جديد فحسب بل وزراء جدد، وهو ما يعني إعادة حلقات مسلسل اللقاءات مع الكتل النيابية من جديد، وخلال تلك الفترة ستتحول حكومة النسور من جديد إلى حكومة تصريف أعمال إلى حين الاتفاق على توليفة وزارية جديدة، وهو ما سيستغرق أشهرا طويلة من المشاورات والمفاوضات النيابية التي سترهق كاهل الدولة بمؤسساتها وأجهزتها المختلفة، وستعيق عمل مجلس النواب عن ممارسة الدور المأمول منه في الرقابة والتشريع.
لذا وفي ظل المعطيات السابقة فإننا نرى أن الثقة بالنسور هي الخيار الأفضل للمرحلة الحالية، وأن الأزمة السياسية التي كانت ستدخل بها الدولة من جديد من جراء حجب الثقة عن الحكومة ستكون أكثر ضررا وتأثيرا من أية أضرار يراها بعضهم من منح الثقة للنسور وإعطائه فرصة ثانية لتنفيذ ما يدور في خاطره من برامج وأهداف كلنا نتفق معه حولها من حيث المبدأ، وإن كنا نعارضها من حيث الأسلوب والآلية ونطالب بالبحث عن حلول أخرى لسد العجز المالي للدولة من دون الاعتماد على جيب المواطن.
وخير ما يجب أن يستهل به النسور ولايته الثانية أن يقوم بترتيب بيته الداخلي وذلك من خلال الوصول إلى تشكيلة متوالفة من الوزراء المتجانسين القادرين على تحمل تبعات المرحلة. وقد يتطلب هذا الأمر أن يقوم الرئيس بزيادة عدد الوزراء في حكومته للتخلص من رشاقتها غير المرغوب فيها، أو أن يصرف النظر تماما عن هذا الموضوع ويرضى بما اختاره لنفسه من وزراء، فلا تبقى العضوية في مجلس الوزراء ورقة الضغط التي يلوح النسور باستعمالها في مواجهة النواب خاصة أنه قد ثبت فشلها خلال مناقشات الثقة. فالنسور نفسه قد تسبب بالأزمة مع النواب عندما أعلن وقبل أن يجف عرق وزرائه من أداء اليمين الدستورية أمام جلالة الملك أنه بصدد إجراء تعديل وزاري على حكومته رغبة منه في ضخ دماء نيابية في السلطة التنفيذية بعد أن يتثبت من مؤهلات النواب وكفاءاتهم للانضمام إلى الحكومة.
إن الكرة الآن في مرمى النسور الذي يملك فرصة ذهبية لإطالة عمره في الدوار الرابع وذلك من خلال فرض ولايته العامة على إدارة شؤون الدولة، وأن يعمل على إعطاء الطبقة المتوسطة والفقيرة جل اهتمامه، وذلك من خلال سرعة إنجاز قانوني المالكين والمستأجرين والضمان الاجتماعي اللذين ترنو إليهما عيون الأردنيين كافة. فإذا ما أخرج النسور هذين القانونين إلى بر الأمان وحاز على رضا شعبي عليهما، فإن ذلك سيعطيه مجالا رحبا في المناورة وتمرير أي قرارات اقتصادية أخرى بغية إرضاء جهات خارجية لا نملك إلا أن ننصاع لها ولإملاءاتها الدولية.
خلاصة القول
إن السادة النواب قد أساؤوا فهم الحكومة الدستورية من تقديم الحكومة لبيانها الوزاري ومناقشته والتصويت عليه، فحولوا معركتهم ضد شخص رئيس الوزراء معتبرين إسقاطه فرصة لإعادة إحياء الثقة الشعبية في المجلس النيابي، في الوقت الذي يمكنهم من تحقيق مرادهم بطرق وآليات أكثر نفعا وفائدة للصالح العام أهمها المشاركة مع الحكومة في إخراج القوانين الأكثر شعبوية، وعلى الصعيد النيابي مراجعة النظام الداخلي للمجلس كمتطلب أساسي لتغيير قواعد اللعبة البرلمانية، ومأسسة دور الكتل النيابية بما يساهم في الدفع نحو تشكيل حكومات برلمانية هي الهدف الأسمى للإصلاح السياسي والدستوري في الأردن.
اترك تعليقاً