إن الأصل هو استقلال الدعوى الجنائية عن الدعوى المدنية في سقوطها بمرور الوقت، ذلك أن موضوع الدعوى في كل منهما يختلف عنه في الأخرى، فبينما هو حق الدولة في معاقبة الجاني في الدعوى الجنائية، فهو حق خاص بالتعويض عن الضرر في الدعوى المدنية، ولهذا كانت المدة التي تسقط بمرورها الدعوى الجنائية تختلف بحسب الجريمة الواردة فيها، فدعوى الحق العام في الجنايات تسقط بمرور عشر سنوات، وفي الجنح تسقط بمرور ثلاث سنوات وفي المخالفة بمرور سنة واحدة(1). وكان الواجب يقضي بالتفرقة بين مدد سقوط الدعوى الجنائية والمدة التي تسقط فيها الدعوى المدنية، لولا أن المشرع في بعض الدول التي أخذت بالتقادم رأى أن يربط في الحكم تماماً بين الدعاوى الجنائية والدعاوى المدنية الناشئة عنها من حيث سقوطهما معاً بمرور الوقت، تطبيقاً لمبدأ (التضامن) بين الدعويين، لا مبدأ الاستقلال في الموضوع والأحكام.
وهذا ما تبعه المشرع الفرنسي عندما نص في المادة (10) من قانون الإجراءات الجنائية الصادر في 23 ديسمبر 1980 على أن: “تنقضي الدعوى المدنية طبقاً للقواعد المقررة في القانون المدني، ولا يجوز رفع هذه الدعوى أمام القضاء الجنائي بعد انقضاء مدة تقادم الدعوى الجنائية”، وبذلك يكون المشرع الفرنسي قد تخلى عن قاعدة الارتباط المطلق في التقادم، وأخذ بمبدأ استقلال الدعوى المدنية عن الدعوى الجنائية في تقادمها في حالة اختيار المدعي المدني الطريق المدني لرفع دعوى التعويض، واستثناءاً من ذلك احتفظ المشرع الفرنسي بوحدة التقادم بين الدعويين إذا أقيمت الدعوى المدنية أمام القضاء الجنائي، وذلك بالاستناد إلى كون الدعوى المدنية ليست إلا دعوى تابعة للدعوى الجنائية، وتقادم الدعوى الجنائية يحول بطبيعة الحال دون نظر دعوى التعويض الناشئة عن الجريمة من قبل القاضي الجنائي، إذ أنها لن تجد السند اللازم لاختصاص القاضي الجنائي في نظرها(2). وقد اتبع ذات المسلك المشرع المصري، فبعد أن قرر باستقلال الدعوى المدنية عن الدعوى الجنائية في مجال التقادم، وهذا ما نصت عليه المادة (259) إجراءات مصري على أنه “تنقضي الدعوى المدنية بمضي المدة المقررة في القانون المدني، ومع ذلك لا تنقضي بالتقادم الدعوى المدنية الناشئة عن الجرائم المنصوص عليها في الفقرة الثانية من المادة (15) من هذا القانون والتي تقع بعد تاريخ العمل به”(3). إلا انه عاد واستثنى من الاستقلال حالة كون الدعوى المدنية ناشئة عن جريمة حسب نص المادة (172) من القانون المدني المصري رقم 31 لعام 1948 التي نصت على أن: “1- تسقط بالتقادم دعوى التعويض الناشئة عن العمل غير المشروع بانقضاء ثلاث سنوات من اليوم الذي علم فيه المضرور بحدوث الضرر وبالشخص المسؤول، وتسقط هذه الدعوى في كل حال بانقضاء خمس عشر سنة من يوم وقوع العمل غير المشروع، 2- على أنه إذا كانت الدعوى ناشئة عن جريمة وكانت الدعوى الجنائية لم تسقط بعد المواعيد المذكورة في الفقرة السابقة، فإن دعوى التعويض لا تسقط إلا بسقوط الدعوى الجنائية”، وبهذا يكون المشرع المصري قد ساير إلى حد ما المشرع الفرنسي وأخذ بقاعدتي الاستقلال والتضامن وهذا ما سيتم بحثه وفقاً للترتيب الآتي:
أولاً: استقلال الدعوى المدنية عن الدعوى الجنائية
وفقاً لنص المادة (10) من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي، فإن من يرتكب خطأ مدنياً لا تسقط دعواه إلا بعد ثلاثين سنة، وطبقاً لنص الفقرة الأولى من المادة (172) مدني مصري فإن الدعوى المدنية تسقط بمضي ثلاثة سنوات من يوم العلم بحدوث الضرر وبالمسؤول عنه، وتسقط بأي حال من الأحوال بمضي خمس عشر سنة، وهذه المدة ذاتها قد اعتمدها المشرع العراقي في نص المادة (429) من القانون المدني العراقي رقم 40 لعام 1951. فما يستفاد من هذه النصوص أن مدة سقوط الدعوى المدنية تختلف عن مدة سقوط الدعوى الجنائية، فهي أطول من المدة اللازمة لانقضاء الدعوى الجنائية، حيث سبق وأن أشرنا إلى أن مدة تقادم الدعوى الجنائية هي عشر سنوات في الجنايات وثلاث سنوات في الجنح وسنة في المخالفات، والسبب في ذلك هو أن سقوط الدعوى المدنية مبني على قرينة التنازل عن الحق نتيجة إهمال صاحبه في المطالبة به أما سقوط الدعوى الجنائية مبني على السرعة في الإجراءات الجنائية تحقيقاً للاستقرار القانوني. وما يفرض هنا هو أن ترفع الدعوى المدنية إلى المحكمة الجنائية تبعاً لدعوى جنائية ثم تنقضي الدعوى الأخيرة بمضي المدة المقررة في القانون لسقوط الدعوى الجنائية بالتقادم، فهنا الدعوى المدنية لا تنقضي وإنما تستمر المحكمة الجنائية في نظرها أو تحيلها إلى المحكمة المدنية للفصل فيها، طالما أن المدة المقررة لانقضائها في القانون المدني لم تنتهي بعد(4)، وإذا انقضت الدعوى الجنائية قبل رفع الدعوى المدنية، فلا يكون أمام المدعي إلا أن يطالب بحقه المدني أمام المحكمة المدنية(5). فقاعدة استقلال الدعوى المدنية عن الدعوى الجنائية تجد أساسها في الطبيعة المختلطة للدعوى المدنية التبعية، لكونها دعوى ذات موضوع مزدوج مدني وآخر جنائي، حيث تسعى إلى الحصول على تعويض الضرر الناشئ عن الجريمة أو الاشتراك في طلب توقيع العقاب على الجاني، فإذا تغلب الهدف الأول على الثاني كانت الدعوى المدنية التبعية، دعوى ذات غاية تعويضية، أما إذا تغلب الهدف الثاني على الأول كانت دعوى مدنية ذات غاية جنائية وبالاستناد إلى ذلك فإن قاعدة استقلال الدعوى المدنية عن الدعوى الجنائية تجد تبريرها في الطبيعة التعويضية للدعوى المدنية التبعية، لأن هذه الدعوى وإن كانت تابعة للدعوى الجنائية لاشتراكهما في وحدة المصدر وهو الجريمة، إلا أنها من ناحية أخرى دعوى تعويض وليس من المقبول أن يكون من ارتكب فعلاً معاقباً عليه جنائياً ومدنياً أفضل حالاً ممن يرتكب فعلاً معاقباً عليه مدنياً فقط، لهذا فإن الدعوى المدنية تنقضي بالمدة المقررة في القانون المدني لكونها أطول حتى ولو تقادمت الدعوى الجنائية(6).
ثانياً: التضامن بين الدعوى المدنية والدعوى الجنائية.
لقد أرجع الفقه هذه القاعدة إلى رغبة المشرع في أن يجعل من المجني عليه مساعداً أميناً للادعاء العام، وحثه على أن يقيم دعواه أمام سلطة الاتهام، وأن يقدم إليها الأدلة التي توفرت لديه، وذلك بتهديده بانقضاء دعواه إذا ما ظل سلبياً(7). وإذا كان هذا هو الأصل في قانون تحقيق الجنايات الفرنسي حسب نص المادتين (637-640)، لكن المشرع بعد ذلك قيده بعض الشيء في قاعدة الارتباط بالتقادم في نص المادة (10) من قانون الإجراءات الجنائية، فحصر وحدة التقادم في حالة إقامة الدعوى المدنية أمام القضاء الجنائي فحسب(8)، أما المشرع الجنائي المصري فالأصل عنده هو استقلال الدعوى المدنية عن الدعوى الجنائية من حيث التقادم ولكنه استثنى من ذلك دعوى التعويض في الفقرة الثانية من المادة (172) مدني مصري، حيث لا تسقط هذه الدعوى إلا بسقوط الدعوى الجنائية في حالة سقوط الدعوى المدنية بالتقادم واستمرار الدعوى الجنائية. وما يفرض هنا هو استمرار الدعوى الجنائية لما يزيد على الخمسة عشر سنة، ففي هذه الحالة لا تسقط الدعوى المدنية بالتقادم المدني، بل تبقى أمام المحكمة الجنائية ولا تسقط إلا بسقوط الدعوى الجنائية، وهذا ما يعد بمثابة بعث للحياة من جديد في الدعوى المدنية، وبعبارة أخرى توجد جاذبية بين الدعويين يترتب عليها أن إجراءات السير في الدعوى الجنائية تؤدي إلى وقف تقادم دعوى التعويض المدني(9)، فعلى الرغم من اختلاف قواعد ونظم تقادم الدعوى الجنائية عن الدعوى المدنية إلا أن تبعية الدعوى المدنية لها وما تتمتع به الدعوى الجنائية من ذاتية خاصة كان له الأثر الأكبر في انعكاس ذلك على الدعوى المدنية، الأمر الذي دفع بالمشرعين الفرنسي والمصري إلى وضع نص خاص بهذه الحالة، فقررا بعدم تقادم دعوى التعويض المدنية المرفوعة تبعاً للدعوى الجنائية طالما بقيت هذه الأخيرة منظورة أمام المحكمة الجنائية. وما يسوغ ذلك هو أنه ليس من مقتضيات العدالة أن يحرم المضرور من المطالبة بالتعويض عما لحقه من ضرر بسبب الجريمة، بينما يحتفظ المجتمع بالحق في المطالبة بعقاب المتهم عن ذات الجريمة، فضلاً عن أن سكوت المضرور عن المطالبة بالتعويض لا يفسر بأنه تنازلاً منه عن حقه وإنما يكون في الغالب هو عجز المضرور عن إثبات الجريمة وانتظاره للادعاء العام أن يقوم بذلك(10). وما تجدر الإشارة إليه هو أن دعوى التعويض المدني الناشئة عن الجريمة هي وحدها التي تستفيد من هذا الاستثناء(11)، وما عدا هذه الدعوى فإن التقادم المدني هو الذي يسري عليها، فدعوى الطلاق نتيجة ارتكاب الزنا، ودعوى الرجوع في الهبة المترتبة على اعتداء الموهوب له على حياة الواهب تسري عليها مدة التقادم الواردة في القانون المدني، حتى ولو استمر نظر الدعوى الجنائية المتبوعة مدة تزيد على خمسة عشر سنة. ومن كل ذلك يفهم لدينا بأن للمضرور من الجريمة أن يدعي مدنياً سواء أمام المحكمة الجنائية أو أمام المحكمة المدنية بحقه فهو يستفاد في كلا الحالتين من الاستثناء الوارد في الفقرة الثانية من المادة (172) مدني مصري(12)، ولكن يجب أن لا يذهب الذهن إلى انقضاء الدعوى المدنية بانقضاء الدعوى الجنائية حتى وان انقضت الأخيرة قبل انقضاء الأولى بالمدة المقررة في القانون المدني، بل يعني أن الدعوى المدنية لا تتقادم قبل الدعوى الجنائية إذا كانت تابعة لها ومتعلقة بالتعويض عن الضرر الذي لحق المضرور من جراء الفعل الجرمي، سواءاً ثم تحريكها أمام المحكمة الجنائية تبعاً للدعوى الجنائية، أو حركت أمام المحكمة المدنية حيث تخضع لقاعدة (الجنائي يوقف المدني).
_____________
1- ينظر: د. سليمان عبد المنعم، د. جلال ثروت، أصول المحاكمات الجزائية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت 1996، ص340.
2- لمزيد من التفصيل ينظر: د. حمدي الملاح، ذاتية الدعوى الجنائية، أطروحة دكتوراه، كلية الحقوق/جامعة القاهرة، 2003.، ص293.
3- وهذا ما يستوحى ضمناً من نص المادة (28) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي حيث نصت على أنه: “إذا انقضت الدعوى الجزائية أو اوقفت لسبب قانوني قبل الفصل فيها فللمدعي المدني الحق في مراجعة المحكمة المدنية”، فعلى الرغم من عدم أخذ المشرع الجنائي العراقي بالتقادم كأصل عام، لكنه قد فصل بين تقادم الدعوى الجنائية والدعوى المدنية في الحالات التي أجاز فيها التقادم، فالتمعن بالنص أعلاه يبين بأن الدعوى الجنائية إذا انقضت وقد يكون انقضاؤها بالتقادم، في هذه الحالة يجوز للمدعي بالحق المدني مراجعة المحكمة المدنية لأحكام التقادم المنصوص عليها في القانون المدني.
4- ينظر: د. رضا حمدي الملاح، المرجع السابق، ص295.
5- وهذا ما نصت عليه المادة (29) من قانون أصول المحاكمات الجزائية حيث نصت بأن “لا تسمع الدعوى المدنية إذا رفعت أمام المحاكم الجزائية بعد مضي المدة المقررة في القانون”.
6- ينظر: د. رضا حمدي الملاح، المرجع السابق، ص295-296.
7- ينظر: د. رضا حمدي الملاح، المرجع السابق، ص292.
8- ينظر: د. رضا حمدي الملاح، المرجع السابق، ص293.
9- لمزيد من التفصيل ينظر: د. ادوار غالي الذهبي، أثر الدعوى الجنائية في وقف تقادم الدعوى المدنية، مجموعة بحوث قانونية، دار النهضة العربية، القاهرة 1978، ص313.
10- ينظر: د. رضا حمدي الملاح، المرجع السابق، ص297.
11- ينظر: د. ادوار غالي الذهبي، أثر الدعوى الجنائية في وقف تقادم الدعوى المدنية، المرجع السابق، ص314-315.
12- وقد أخذ بهذا القضاء المصري، على عكس القضاء الفرنسي الذي قيد ذلك برفع الدعوى المدنية أمام القضاء الجنائي طبقاً للمادة (10) من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي، ينظر نقض مدني في الطعن رقم 313 سنة 51ق، جلسة 6/3/1985، مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض المصرية في 50 سنة، المجلد الرابع 1987، قاعدة رقم 455، ولمزيد من التفصيل ينظر: د. ادوار غالي الذهبي، المرجع السابق، ص309-321.
المؤلف : فاضل عواد محميد الدليمي
الكتاب أو المصدر : ذاتية القانون الجنائي
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً