نظرة قانونية حول تفسير الدستور
في وداع المجلس العالي لتفسير الدستور
د. ليث كمال نصراوين
بعد أن دخل قانون المحكمة الدستورية حيز التنفيذ قبل أيام قليلة، أعلن رسميا عن انتهاء حقبة المجلس العالي لتفسير الدستور التي امتدت قرابة الستين عاما، وذلك استنادا لأحكام الفقرة الثالثة من المادة (122) من الدستور التي تنص صراحة على اعتبار المجلس العالي لتفسير الدستور ملغى حكما في حال وضع قانون المحكمة الدستورية موضع التنفيذ. إن أبسط ما يمكن قوله في رثاء المجلس العالي لتفسير الدستور أنه قد اجتهد في اثبات نفسه كهيئة دستورية مستقلة لها اختصاص على قدر كبير من الأهمية، إلا أن المشرع الدستوري كان دائما يقف له في المرصاد في محاولة للنيل منه وإسقاطه. ففشل المجلس العالي في آداء مهامه الدستورية يعود بالدرجة الأساسية إلى المشرع الدستوري الذي تفنن في ابتداع النصوص والأحكام الدستورية التي تحط من شأن المجلس وقدرته على ممارسة أعماله ووظائفه الدستورية.
فقد أسند المشرع الدستوري للمجلس العالي في بداية نشأته مهمتين على درجة عالية من الأهمية لكنهما مختلفتان وغير مترابطتين هما مهمة تفسير نصوص الدستور ومهمة محاكمة الوزراء عما يسند إليهم من جرائم ناتجة عن تأدية وظائفهم. فلا علاقة دستورية أو قانونية بين تفسير نصوص الدستور التي يمكن اسنادها إلى المجلس العالي لتفسير الدستور و محاكمة الوزراء التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تخرج عن اختصاص القضاء النظامي باعتباره صاحب الولاية العامة في النظر في جميع الدعاوى المدنية والجزائية المقامة ضد الأفراد العاديين أو ضد الدولة ومؤسساتها، وهو ما أثر سلبا على مباشرة المجلس العالي لمهامه وواجباته الدستورية.
وما زاد الأمر سوءا أن المشرع الدستوري قد عجز عن تزويد المجلس العالي بالوسائل والأدوات القانونية التي تمكنه من ممارسة مهامه كجهة جنائية لمحاكمة الوزراء. فقد نصت المادة (60) من الدستور قبل التعديل على أن ينظم المجلس العالي بنفسه طريقة السير في محاكمة الوزراء وذلك إلى أن يصدر قانون خاص لهذه الغاية. فرغم مضي السنين الطوال، إلا أن المشرع الدستوري لم يبادر إلى إصدار مثل هذا القانون الذي ينظم إجراءات محاكمة الوزراء أمام المجلس العالي، ما تسبب في عجز المجلس عن أداء مهامه كجهة تحقيق ومحاكمة للوزراء، فلم يقدر على ممارسة هذا الدور الدستوري سوى مرة واحدة فقط عام 1993، وكان القرار الصادر ببراءة الوزير المعني عن التهم المسندة إليه.
كما تسبب المشرع الدستوري في وضع العراقيل أمام المجلس العالي لتفسير الدستور وذلك عندما قام عام 1958 بتعديل المادة (57) من الدستور حول تشكيل المجلس العالي بأن أسند مهمة رئاسة المجلس إلى رئيس مجلس الأعيان بعد أن كانت برئاسة رئيس أعلى محكمة نظامية، وهو الأمر الذي ترتب عليه إضفاء الصبغة السياسية على تشكيلة المجلس على حساب الطابع القضائي الذي يفترض أن يتوافر به باعتباره جهة تفسيرية للنصوص الدستورية. فكان لهذا التعديل أثر سلبي في اصطباغ قرارات المجلس العالي التفسيرية بالطابع السياسي، ولا أدل على ذلك من القرارات التفسيرية المتعارضة الصادرة عن المجلس العالي حول نقابة المعلمين الأردنيين. فقد سبق وأن افتى المجلس العالي لتفسير الدستور عام 1994 بعدم دستورية إنشاء نقابة للمعلمين من خلال تفسير أحكام المادة (120) من الدستور، إلا أنه قد عاد عن اجتهاده تحت وطأة الضغوط الشعبية والسياسية عام 2011 وقرر دستورية إنشاء نقابة للمعلمين مستندا إلى نص دستوري مغاير هو المادة (16) من الدستور. مثل هذا الانقلاب التفسيري للمجلس العالي قد جاء بناء على توجيهات وأوامر حكومية بهدف الخروج من مأزق موجة إضراب المعلمين واحتجاجاتهم المتكررة، إلا أنه بالمقابل قد حط كثيرا من قدر المجلس ومكانته الدستورية.
ومن الأمثلة الأخرى على إساءة معاملة الجهات الحكومية للمجلس العالي لتفسير الدستور أنهم قد استخدموه في بعض الحالات لغير الغايات الدستورية التي أنشئ من أجلها. فقد طلبت إحدى الحكومات من المجلس العالي البت في دستورية نص في مشروع قانون الانتخاب حول الترشح بأسلوب القوائم المغلقة، وهو ما أخرج المجلس العالي عن نطاق عمله التفسيري وحوله إلى جهة رقابة دستورية سياسية على مشروعات القوانين. وبعد أن اختلط مفهوم تفسير الدستور بالرقابة على دستورية القوانين، تولد الشعور لدى المشرع الدستوري بضرورة إنشاء جهة قضائية واحدة يسند إليها مهام تفسير الدستور والرقابة على دستورية القوانين والأنظمة.
وأمام هذه الظروف والمعطيات فقد جاءت التعديلات الدستورية الأخيرة لتضع حدا لمسيرة المجلس العالي بأن قررت إنشاء محكمة دستورية أنيط بها مهمتا تفسير نصوص الدستور والرقابة الدستورية. وكرد فعل على ذلك الإقصاء، فقد قام المجلس العالي في أواخر فترات حياته بعمل سيذكره به التاريخ بالخير، حيث أصدر ما مجموعه (12) قرارا تفسيريا خلال فترة العام والنصف العام الماضية، أكد من خلالهم المجلس قدراته وإمكانياته التفسيرية التي كان يمكن لها أن تستمر لو أنه تلقى الدعم والمساندة الضرورية من كل من المشرع الدستوري والنظام الحكومي في الدولة.
ويبقى التساؤل الأكبر فيما يتعلق بالدور التفسيري الجديد للمحكمة الدستورية الذي لم يعالجه قانون المحكمة الدستورية حول مدى أحقية المحكمة الدستورية في إعادة تفسير نص دستوري سبق وأن فسره المجلس العالي لتفسير الدستور. فخلال فترة حياته، أصدر المجلس العالي أكثر من (50) قرارا تفسيريا تضمنت إزالة الغموض واللبس عن بعض النصوص الدستورية، حيث كان للقرار التفسيري الصادر قوة النص الدستوري وأصبح جزءا لا يتجزأ من الدستور، بالتالي فلا يجوز إعادة تفسيره لعدم وجود سند دستوري يبيح ذلك. كما أنه في حال ما أعادت المحكمة الدستورية تفسير نص دستوري سبق أن تم تفسيره وتوصلت إلى نتيجة مغايرة لقرار المجلس العالي فإن ذلك يعد تعديلا في أحكام الدستور ولكن بطريقة غير دستورية وتخالف أحكام المادة (126) من الدستور. في المقابل، فإنه لا يدخل ضمن باب العدالة الدستورية أن يتم إنشاء محكمة دستورية وأن يقيد عملها التفسيري بعدد كبير من القرارات التفسيرية والنصوص الدستورية المفسرة التي لا يجوز لها الاقتراب منها، وهو ما سيحرم المحكمة الدستورية من الولاية العامة في تفسير نصوص الدستور.
كما أن الحاجة لأن تقوم المحكمة الدستورية بإعادة تفسير نصوص الدستور المفسرة تنبع من أنها جهة تفسيرية قضائية بحت على خلاف المجلس العالي الذي كان يمتاز بالطابع السياسي في تشكيله والصبغة غير القضائية في تفسيره لنصوص الدستور.
اترك تعليقاً