أهمية استقلال السلطة القضائية وسيادة القانون

أهمية استقلال السلطة القضائية و سيادة القانون

عبد القادر العلمي

المحور الأول : استقلال السلطة القضائية
إن السلطة القضائية تكتسي أهمية خاصة باعتبارها أهم ضمانة لاحترام حقوق الإنسان وحماية مصالح الأفراد والجماعات، وباعتبارها الآلية المعهود إليها بضمان سيادة القانون، ومساواة الجميع أمام مقتضياته؛ ويترتب عن الثقة في استقلال ونزاهة القضاء دوران عجلة الاقتصاد بشكل فعال ومنتج، وتنشيط الاستثمارات، وتحقيق التنمية؛ وقد أكد ذلك إعلان القاهرة المنبثق عن المؤتمر الثاني للعدالة العربية، المنعقد في فبراير2003، والذي جاء فيه:«أن النظام القضائي المستقل يشكل الدعامة الرئيسية لدعم الحريات المدنية وحقوق الإنسان، وعمليات التطوير الشاملة، والإصلاحات في أنظمة التجارة والاستثمار، والتعاون الاقتصادي الإقليمي والدولي، وبناء المؤسسات الديموقراطية»، وهناك مقولة معروفة وهي أنه: إذا كان العدل أساس الحكم، فإن استقلال القضاء هو أساس العدل.

والاستقلال الكامل للسلطة القضائية يعني أنه لا يجوز باسم أي سلطة سياسية أو إدارية، أو أي نفوذ مادي أو معنوي، التدخل في أي عمل من أعمال القضاء، أو التأثير عليه بأي شكل من الأشكال، ولا يجوز لأي شخص أو مؤسسة من السلطة التنفيذية، ولو كان وزير العدل أو رئيس الدولة، أن يتدخل لدى القضاء بخصوص أي قضية معروضة عليه للبت فيهـا، أو ممارسة ضغط مباشر أو غير مباشر للتأثير على المحاكم فيما تصدره من أحكام قضائية، وألا يخضع القضاة وهم يزاولون مهامهم إلا لضمائرهم، ولا سلطان عليهم لغير القانون.

والدستور المغربي في الوقت الذي يجعل كلا من الجهاز التشريعي والجهاز التنفيذي في مستوى سلطة، فإنه لا يجعل القضاء في نفس المستوى، حيث ينص الفصل 82 على أن: «القضاء مستقل عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية»، في حين أن الكثير من الدساتير، في الدول الأوربية، وكذا العربية، تنص صراحة على أن القضاء سلطة،كما هو الحال في الدستور الفرنسي (الفصل64)، والدستور الإيطالي (المادة 10) والدستور اللبناني (المادة 20)، والدستور اليمني (المادة 147)، والدستور التونسي (الفصل 64)، والصيغة التي اعتمدتها هذه الدساتير، هي التي تنسجم مع (المبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية) التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1985.

وتحرص معظم الدساتير على التنصيص الصريح على استقلال السلطة القضائية، والدستور المغربي بدوره ينص على مبدأ الاستقلال، غير أنه يصعب القول بأن هناك استقلالا حقيقيا للقضاء في المغرب على أرض الواقع، لاعتبارات تتعلق بطبيعة العلاقات التقليدية بين السلط من جهة، وللحضور الوازن للسلطة التنفيذية في المجلس الأعلى للقضاء من جهة أخرى.

وكثيرا ما استعمل القضاء لتصفية حسابات سياسية، وعلى سبيل المثال حوكمت جريدة العلم لنشرها بعض الحقائق عن أحداث 14 دجنبر1990 الدامية بفاس بتهمة «التهويل ونشر أخبار زائفة» رغم أن الحقيقة لم تكن خافية، وتأكدت مؤخرا بشكل رسمي، وحوكمت جريدة لوبينيون بسبب نشرها بيانا لجمعيتين حقوقيتين، حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بدعوى «التهويل وتزييف الحقائق»، وثبت رسميا بعد ذلك أن ما نشر كان من صميم الحقائق، وفي هذين المثالين وغيرهما من الأمثلة الكثيرة كان يُزج بالقضاء في الصراع السياسي، ويوضع سيفا على رقاب اللذين يفضحون التجاوزات والممارسات المشينة لمسؤولي سنوات الجمر والرصاص؛ وكان يحدث ذلك رغم أن الدستور ينص على استقلال القضاء.

ولا زالت بعض المحاكمات والأحكام القضائية في المغرب تثير استغراب الحقوقيين والمهتمين بشؤون القضاء، فضلا عن المعنيين المباشرين بها، ويحدث ذلك بصفة خاصة في قضايا لها علاقة بالحياة السياسية، أو بالأمن العام، أو تتعلق بممارسات بعض المسؤولين في الدولة، أو في المتابعات التي تطال بعض الصحف، مما يجعل استقلال القضاء المغربي موضع تساؤل كبير لدى الرأي العام على الصعيدين الوطني والدولي.

ورغم أن السلك القضائي في المغرب، يضم الكثير من القضاة الأكفاء والنزهاء، فإن ما يجري في المحاكم، وما يقترفه عدد من المرتشين والمنحرفين، يسيء إلى سمعة القضاء بصفة عامة، ولا يمنح الاطمئنان للمتقاضين على مصالحهم وحقوقهم، ولا يبعث على ثقة المواطنين، والمستثمرين المغاربة والأجانب، وما ينجم عن ذلك من انكماش اقتصادي، واستفحال للبطالة.

ويضاف إلى كل ذلك عدم التزام بعض الجهات الإدارية بأحكام وقرارات القضاء، والمشاكل المتعلقة بالجسم القضائي، كالوضعية المادية والمعنوية للقضاة، والنقص في الإمكانيات الموضوعة رهن إشارتهم في المحاكم، وتراكم الملفات وكثرة عددها بالمقارنة مع عدد القضاة الموكول إليهم البت فيها، والنقص في التكوين بالنسبة لكتاب الضبط…كل ذلك يؤثر بشكل سلبي على سير العدالة.

وبالرجوع إلى ظهير11 نونبر1974المتعلق ب (النظام الأساسي لرجال القضاء) يلاحظ أن عنوانه غير مستساغ باعتبار أن هناك كذلك نساء قاضيات، كما أن مقتضيات هذا النظام لم تصدر كقانون عن السلطة التشريعية، رغم أن الدستور يجعل سن هذا النظام من اختصاص البرلمان، وذلك فضلا عن كونه لا يوفر الضمانات الكافية لرجال ونساء القضاء ضد النقل أو العزل، ويمنح لوزير العدل سلطة واسعة في هذا المجال، ولا يسمح للقضاة بتكوين أو الانضمام لهيئات نقابية تتولى الدفاع عن حقوقهم المهنية، ووزير العدل هو الذي يقترح كاتب المجلس الأعلى للقضاء، ويقترح من يعوضه في حالة غيابه، والعقوبات التأديبية على الملحقين القضائيين تصدر عن لجنة يرأسها وزير العدل، كما تصدر عقوبات القضاة بقرار لوزير العدل، ولائحة الترقي يعدها ويحصرها سنويا وزير العدل، مما يجعل الحياة المهنية للقضاة تحت رحمة وزارة العدل، أي بين يدي السلطة التنفيذية، الأمر الذي يتنافى مع مبدأ استقلال القضاء المنصوص عليه في الدستور.

وتجدر الإشارة إلى أنه في كل من مصر والأردن ولبنان، يترأس المجلس الأعلى المشرف على سير شؤون القضاة، رئيس محكمة النقض (أو محكمة التمييز كما تسمى في بعض القوانين العربية)، ولا يتكون المجلس في الدول المذكورة إلا من القضاة، بينما في المغرب يترأس المجلس الأعلى للقضاء الملك، وينوب عنه وزير العدل.

ولضمان الاستقلال التام للقضاء، وتحصينه في مواجهة الضغوط والمغريات، وضمان نزاهته وفعاليته، لابد من اعتباره سلطة قائمة بذاتها، وتوفير الشروط المادية والمعنوية الضرورية لحسن سير العمل القضائي، وتوفير الضمانات الكافية لتنفيذ الأحكام والقرارات القضائية في مواجهة كل الجهات التي يُحكم ضدها على قدم المساواة، وإسناد كل ما يتعلق بتسيير الجهاز القضائي، إلى هيئة عليا تتكون من القضاة أنفسهم، ولا تتدخل في شؤونها أي سلطة أخرى، ولا أي جهة من خارج القضاء، وتتولى هذه الهيئة البت في الوضعيات الإدارية والمادية للقضاة بجميع مستوياتهم، واتخاذ القرارات المتعلقة بترقياتهم، أو بتغيير أماكن عملهم، أو بتأديبهم عندما يثبت لها ما يدعو إلى ذلك، دون أن يكون لأي سلطة أخرى حق التدخل أو التأثير أو التوجيه، لا في تسيير الجهاز القضائي، ولا فيما يزاوله القضاة من عمل، وما يصدرونه من أحكام. كما يجب أن تسهر نفس الهيئة على أن توفر للقضاة الظروف الملائمة، والوسائل المادية والمعنوية التي تصون كرامتهم، وتحصنهم في مواجهة أي إغراء أو تأثير يمكن أن يمارس عليهم من لدن ذوي النفوذ، أو المال، أو الجاه.

ولذلك فإن الإصلاحات المنشودة في موضوع استقلال القضاء في هذه المرحلة، لا تنحصر في تعديلات دستورية لتأكيد المبدأ، وإنما ينبغي أن تشمل تغييرات جوهرية للقوانين المتعلقة بالجسم القضائي، وتوفير الضمانات والوسائل الضرورية لترجمة المبدأ إلى واقع.

المحور الثاني: سيادة القانون

وإعمال مبدأ سيادة القانون من الضمانات الأساسية لاحترام حقوق الإنسان، فالقانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة، كما ورد في الفصل الرابع من الدستور المغربي، ويصدر عن السلطة التشريعية المنتخبة من طرف الشعب، ويجسد مبدأ السيادة للأمة، لأنه من المفروض أن يعكس رغبتها واختيارها لطريقة العيش التي تريدها، وهو أداة لتنظيم المجتمع، وضمان تساكن وتعايش مكوناته المختلفة، وحماية مصالح وحقوق وحريات الأفراد والجماعات داخله، غير أنه لا يكفي أن توجد ترسانة هائلة من القوانين لإقامة التوازن بين المصالح المتعارضة، وتحقيق العدل والإنصاف بين الناس، وضمان حسن سير مؤسسات الدولة لما فيه مصلحة عموم الشعب، وفق ما تقتضيه قواعد المجتمع الديمقراطي، وإنما لابد من توفر أربعة شروط أساسية وهي:

أ ـ أن تكون مضامين القوانين تنظم الحياة في المجتمع على أسس عادلة، بدءا من الدستور الذي يجب أن ينظم مؤسسات الدولة على قواعد ديمقراطية، ويقيم التوازن بين السلط، ويضمن الحقوق والحريات الأساسية للإنسان، ثم القوانين التي تنظم مختلف المجالات، والتي ينبغي أن تؤمن الحماية من جميع أشكال الظلم والتعسف والحيف والشطط، أو سوء المعاملة، من طرف أشخاص عاديين، أو ذوي النفوذ، أو من قبل أشخاص معنويين، مثل الدولة ومؤسساتها..

ب ـ أن تسري القوانين في مواجهة الجميع بشكل متساوٍ، ودون أي ميز، بسبب الجنس، أو اللون، أو المعتقد الديني، أو الانتماء السياسي أو النقابي، أو بسبب النفوذ السلطوي، أو العلاقات العائلية أو الشخصية مع ذوي المراتب العليا في هرم الدولة، أو بسبب الجاه والمال، أو الإرشاء وتقديم الهدايا للمسؤولين.

والمساواة أمام القانون من المبادئ الأساسية المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حيث جاء في مادتـه السابعـة أن «الناس جميعا سواء أمام القانون، وهم يتساوون في حق التمتع بحماية القانون دونما تمييز.» ويتم التنصيص الصريح على هذا المبدأ في معظم الدساتير، (الفصل الخامس من الدستور المغربي، والمادة 6 من الدستور الأردني، والمادة 7 من الدستور اللبناني، والمادة 40 من الدستور المصري، والمادة 3 من الدستور الإيطالي… ).

ج ـ أن يتم احترام القوانين على أرض الواقع، فلا تكون مجرد نصوص شكلية، ولا يتم تعطيلها، أو عدم تطبيقها إلا بكيفية انتقائية، وإنما ينبغي أن تسري على جميع الحالات المشابهة.

د ـ أن توجد الوسائل الكفيلة بتطبيق القوانين، وأن يتم حل الخلافات والمنازعات، باللجوء إلى سلطة قضائية مستقلة ونزيهة، وجديرة بالثقة، وأن تكون قراراتها وأحكامها ملزمة لجميع الفرقاء، ولا تقبل التعطيل أو التماطل في تنفيذها من طرف المحكوم ضدهم، ولو كانوا يمثلون الدولة، أو إحدى مؤسساتها، وألا تستعمل آلية العفو لتعطيل الأحكام القضائية في مواجهة ذوي الجاه والنفوذ.

والقوانين ليست جامدة، وإنما هي قابلة دائما للتغيير، لمواكبة التطورات والمستجدات التي تعرفها مختلف مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومن المفروض أن يكون دور السلطة التشريعية في هذا المجال يعكس حيوية المجتمع وسيرورته وتطوره، إلا أن تغيير القوانين السائدة، وإصدار تشريعات جديدة، وتطبيقها في المجالات التي شرعت من أجلها، لا يمكن أن يتم إلا في نطاق الشروط السالفة الذكر، وإلا وقع الإخلال بمبدأ سيادة القانون.

ومن المعلوم أنه لا يبقى أي معنى للحديث عن سيادة القانون، والمساواة أمام أحكامه، مع انتشار المحسوبية والرشوة واستغلال النفوذ، وحينما تسود ظاهرة عدم المساءلة، والإفلات من العقاب، بالنسبة لمن يتلاعبون بالمال العام، أو يتورطون في إفساد الحياة السياسية، أو تثبت مساهمتهم في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وحينما توزع الامتيازات خارج إطار القانون، أو تتعامل المصالح العمومية بالمحاباة مع ذوي الجاه والنفوذ، أو غير ذلك من أشكال التمييز بين المواطنين…

ولذلك فإن الإصلاحات المطلوبة لإقامة دولة الحق والقانون لا يمكن حصرها في مراجعة الدستور، أو صياغة دستور جديد، وإنما يجب أن تكون ذات أبعاد سياسية وإدارية واقتصادية واجتماعية وثقافية، مع تدابير قانونية وعملية، تستهدف تخليق الحياة العامة، وتعزيز قيم المواطنة، وترجمة مبدأ المساواة في التعامل اليومي للمرافق العمومية المختلفة مع المواطنين، وإعمال القوانين في مواجهة الجميع.

خاتمة

وما نريد أن نستخلصه في الختام، هو أن المغرب في حاجة إلى ولوج عهد جديد، تكون ميزته إقامة ديموقراطية حقيقية، لا تنحصر في ترديد مجموعة من الشعارات، وكتابة بعض المبادئ في الدستور، وإقامة واجهات شكلية، وإنما ديموقراطية تتبلور من خلالها سيادة الشعب، ودولة المؤسسات التي تكون فيها السلطة القضائية مستقلة وبعيدة عن أي تأثير، لتضطلع بدورها كضمانة أساسية لاحترام حقوق الإنسان، وحماية الحريات الفردية والجماعية، وإقامة العدل في المجتمع، في ظل المساواة وسيادة القانون.
إن المغرب في حاجة إلى طي مرحلة الانتقال التي امتدت سنوات طويلة وولوج عهد الديموقراطية، وفق قواعدها الجوهرية، ومقوماتها الأساسية المتعارف عليها، ومن أهمها فصل السلط واستقلال ونزاهة السلطة القضائية، واحترام سيادة القانون؛ وبذلك سيتمكن المغرب من تدارك ما ضاع من الزمن، ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وربح رهان التنمية الشاملة والمستدامة.

شارك المقالة

2 تعليق

  1. شكرا

  2. شكرا😊😊

اترك تعليقاً

لن يتم نشر بريدك الالكتروني.