هناك ضابطا واحدا يجمع جميع مسببات موانع المسؤولية وهو ان يكون من شان هذه المسببات ان يفقد الجاني ادراكه (شعوره) او ارادته (اختياره) بصفة مطلقة وقت ارتكاب الجريمة، اما فعلا، كما في حال الجنون والعاهة العقلية وحالة السكر عن غير اختيار وحالة الاكراه وإما حكما وافتراضا كما في حالة صغر السن وحالة الضرورة. ولكن هناك حالات كثيرة لا يفقد فيها الجاني ادراكه او ارادته على هذه الصورة المطلقة، اما لثبوت تمتعه ببعض الادراك او الإرادة وقت ارتكاب الجريمة، واما لعدم توافر بعض الشروط التي يتطلبها القانون الافتراض فقد الأهلية بسبب نقص الادراك او الإرادة ولان كان من الميسور حصر أسباب انعدام الادراك او الإرادة انعداما تاما على نحو ما فعلت اغلب التشريعات الجنائية الحديثة، فليس هذا ممكنا بالنسبة الى أسباب نقص الادراك او الإرادة.
ومع ذلك يمكن القول بأن اهم هذه الأسباب ما كان مرجعه حداثة السن او الامراض العصبية او النفسية التي تصيب القوى العقلية او الارادية دون ان يكون من شانها اعدام الادراك او الإرادة بصفة مطلقة. فلا شك في أنه من الجائز القول بان المجرم الحدث الذي تجاوز سن السابعة دون ان يبلغ بعد سن الرشد يتمتع ببعض الادراك ولكن لا يمكن القول بأنه يتمتع بهذه الملكة كاملة شأن المجرم البالغ. كذلك الحال بالنسبة لطائفة من يقال لهم انصاف المجانين وهي تضم عددا كبيرا من المصابين بأمراض عصبية او نفسية من شانها ان تؤثر في قواهم الارادية فتضعف من قدرتهم على الاختيار (الإرادة) ولكنها لا تفقدهم هذه القدرة بصفة مطلقة كحالة ما يقال له الجنون الاخلاقي او (السايكوباتية) حيث تضعف مقاومة الشخص لنزعة جامحة فيه تدعوه الى ارتكاب كل ما يرضي هذه النزعة غير عابئ باي وازع اخلاقي وحالة العواطف الجامحة كالحب الشديد او البغض الشديد. فقد تسيطر على الشخص بدرجة تضعف كثيرا من قدرته على ضبط نفسه واختيار مسلكه.
وإذا كان القول بامتناع المسؤولية الجنائية عند فقد الادراك او الإرادة بصفة مطلقة، مما يتمشى مع منطق فكرة المسؤولية الاخلاقية فان مما يتمشى مع منطق هذه الفكرة أيضاً القول بانه في حالة نقص تلك الملكات، لا انعدامها ينبغي ان تنخفض درجة مسئولية الجاني بنفس القدر الذي تنقصه درجة الاثم او الخطأ تبعا لنقص الادراك او الإرادة. وهذه هي فكرة المسؤولية الجزائية، أي المسئولية التي ترتب درجات بحسب مقدار او درجة اهلية الجاني لتحمل التبعة الجنائية. والصعوبة هنا تظهر في معرفة متى يكون الجاني ناقص الاهلية لا كاملها ولا معدومها ثم في تحديد درجة هذا النقض حتى يمكن قياس درجة مسؤوليته وهل تكون النصف او الربع او السدس او غير ذلك؟ ذلك لأنه يصعب في كثير من الاحيان تعيين الحد الفاصل بين الاهلية الكاملة والاهلية الناقصة نقصا طفيفا او بين عديم الاهلية وبين من يتمتع بالقليل منها. ومع ذلك فانه اذا كان من المتعذر اتباع نظرية المسؤولية الجزائية مفهومه على المعنى الذي تقدم بيانه فلا شيء يمنع من فهمها على معنى آخر أيسر منالا واكثر اتفاقا مع عمل القاضي الجنائي. وهو ان نقص المسؤولية بسبب نقص الادراك او الإرادة يستتبع نقصا في درجة الاثم او الخطأ الذي هو أساس المساءلة الجنائية واستحقاق العقاب. وبالتالي ينبغي عدالة ان لا يسال الجاني ناقص الاهلية الا مسؤولية مخففة يقدرها القاضي بحسب ظروف كل حالة على حدتها.
وهكذا تظهر المسؤولية المخففة في حدود ما يقدره القاضي بحسب كل حالة كصورة عملية تطبيقية لفكرة المسؤولية الجزئية. وقد اخذ قانون العقوبات العراقي بفكرة المسؤولية الجزئية في المادة (60) منه حيث قال (…… أما اذا لم يترتب على العاهة في العقل او المادة المسكرة او المخدرة او غيرها سوى نقص او ضعف في الادراك او الإرادة وقت ارتكاب الجريمة عند ذلك عذرا مخففا)(1)، وكذلك في المواد (66 الى 77) الخاصة بمسؤولية الاحداث المخففة. على ان فهم المسؤولية المخففة في معنى تخفيف العقوبات بالنسبة الى ناقصي الاهلية كاستبدال السجن بالحبس او غيره او الحكم بالعقوبات السالبة للحرية لمدد قصيرة يؤدي الى نتائج خطرة على المجتمع المقصود اصلا بالحماية عن طريق مباشرة حق العقاب. ذلك لان الجناة ناقصي الاهلية كالجناة عديمي الاهلية من أخطر طوائف المجرمين ما دام الفرض فيهم انهم ضعيفوا القدرة على مقاومة نزعات الشر والاجرام. مما يعني انه من غير المقبول عقلا ان يخص هؤلاء المجرمين الخطرين بمعاملة لينة حيث قد تؤدي هذه الى تماديهم في الاجرام.
وهذا ما وجه من نقد الى نظرية المسؤولية الاخلاقية المؤسسة على الاثم الخطأ. مما حمل عددا من انصارها على محاولة سد هذا النقص عن طريق الاستعانة ببعض مستحدثات المدرسة الوضعية فكان من أهم ما نصحوا باتباعه نظام (اجراءات الوقاية) بحيث يستعاض بهذه الاجراءات عن العقوبات بالنسبة لعديمي الاهلية بينما تطبق على ناقصي الاهلية بالإضافة الى العقوبات. فتحقق بذلك في آن واحد فكرة العدالة وفكرة حماية الجماعة. وكان المشرع العراقي من بين المشرعين الذين استجابوا الى هذا الاتجاه فالنظام وضعه للجانحين الاحداث ومعاملتهم الخاصة، وهو احدى طوائف ناقصي الاهلية ما نصت عليه المادة (60) مارة الذكر والمادة (105) من قانون العقوبات العراقي الخاصة بالحجز في مأوى علاجي للمصابين بأمراض عقلية بالنسبة لطائفة المجانين وأصناف المجانين، وهي طائفة أخرى من ناقصي الاهلية، لدليل مصداق على ما نقول (2).
_________________________________
1-انظر بنفس المعنى كذلك المادة (11) من قانون العقوبات السويسري لسنة 1937.
2-انظر الدكتور احمد راشد، ن688 وما بعدها ص571 وما بعدها.
المؤلف : علي حسين خلف – سلطان عبد القادر الشاوي
الكتاب أو المصدر : المبادئ العامة في قانون العقوبات
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً