ان بيان فكرة الغلط في القانون الاداري تستلزم بيان كيفية ظهور فكرة الغلط البين في فرنسا ومصـر ، ثم بيان معيار ذلك الغلط . ودوننا ذلك :
أولا: – ظهور فكرة الغلط البين
كان القاضي الاداري في فرنسا – بصفته قاضيا للمشروعية – يرفض النظر في الوقائع التي تمثل الأساس الذي تبني الادارة قرارها عليه ، ولا شأن له في مراقبة مدى صحتها ولا مراقبة ما اذا كانت ملائمة للقرار الاداري أم لا ، على أساس أن الغلط في الوقائع أو في تقديرها لم يكن يشكل خرقا للقانون . ولكن مع بداية القرن الحالي صار القاضي الاداري الفرنسي يتدخل تدريجيا” في تقويم الوقائع التي ينبني عليها القرار الاداري المطعون به، لكونه قاضي رقابة على تجاوز السلطة . وهكذا صار لهذا القاضي الحق في فرض الرقابة على قرارات الادارة الداخلة في سلطتها التقديرية ، بما في ذلك عدم توافر غلط من جانب الادارة في تطبيق القانون ، أو وجود غلط بين في تقدير وتقييم الوقائع (السبب) أو في تقدير القرار المناسب (1). وبناء على ما تقدم يعود ظهور فكرة الغلط البين في قضاء مجلس الدولة الفرنسي الى وقت قريب نسبيا بدا في حكمه الصادر في قضية (LAGRANGE ) في 15 شباط 1961، وقضية بلدية(Montfermeil ) في 9 ما يس 1962. وذهب المجلس أبعد من ذلك بتد خله في حالة حصول غلط في تقدير العقوبات الانضباطية ابتداء من حكمه الصادر في قضية (Lebon ) في 9 حزيران 1978(2). وجدير بالاشارة أن القضاء الاداري المصري قد سبق القضاء الاداري الفرنسي في مجال هذه الرقابة الأخيرة فقد أطلق القضاء الاداري المصري عام 1961 فكرة جديدة يراقب فيها مدى ملائمة القرار الاداري وحالة الغلط في المجال الانضباطي ، أطلق عليها تسمية (فكرة الغلو).ومن صورها، الغلط المفضي الى عدم الملاءمة بين درجة خطورة الذنب الاداري ونوع الجزاء ومقداره (3). فركوب متن الشطط في القسوة من جانب الادارة يؤدي الى أحجام عمال المرافق العامة عن تحمل المسؤولية خشية التعرض لهذه القسوة الممعنة في الشده، وان الافراط المسرف في الشفقة يؤدي الى استهانتهم باداء واجباتهم طمعا في هذه الشفقة المفرطة في اللين(4). ويمكن التنويه في هذا المقام الى خلو كتابات الفقه العراقي تماما الا من اشارات عابرة نادرة عن فكرة غلط الادارة البين في تقدير الوقائع وتكييفها وذلك يعود الى عدم توافر قضاء اداري في العراق حتى صدور القانون (106) لسنة 1989 الذي أنشأ أول مرة قضاء اداريا متخصصا للنظر في طعون ألافراد بالقرارات الادارية ،فضلا عن عدم التفات القاضي الاعتيادي قبل ذلك الـى هذه الفكرة(5).
ثانيا :– معيار الغلط البين
ان كل التقديرات الصادرة من جانب الادارة لا شك في احتمالها قدرا معينا من الغلط ، ذلك القدر الذي تركه المشرع لها عند قيامها بتقدير الظروف والوقائع (السبب ) ووقت التدخل والقرار الذي تتخذه بموجب سلطتها التقديرية ، لأن الذي يقوم بهذا التقدير ما هو الا انسان يتصرف باسم الادارة ولحسابها في نطاق الاختصاص والسلطة الممنوحه له . بيد أن هذا الغلط في التقدير ينبغي أن يظل في الحدود المعقولة التي تتناسب مع احتمالات الغلط ونسبته الملازمة لطبيعة البشر ولاتتجاوز هذا القدر (6). ولعل الصعوبة البالغة حتى في الفقه والقضاء الفرنسيين تكمن في عدم توافر معيار واضح ومحدد في معرفة متى يكون الغلط بينا ومعيبا للقرار الاداري ليتسنى للقضاء الاداري الاهتداء به . وصدقا فان من المتعذر وضع معيار واحد يمكن بهداه وعلى مداه أن يقيس القاضي غلط الادارة ، لان اسباب اتخاذ القرارات الادارية كثيرة ومتنوعه ومختلفه لا يمكن تصورها سلفا أو حصرا . وهكذا تعهد للقاضي وحده مهمة وضع معيار مناسب لكل حاله على حدة على وفق ظروفها ووقائعها ، بشرط ان يكون المعيار المتخذ قائما” على عناصر واعتبارات موضوعيه وليس على عناصر تقديرية ذاتيه (7). وعلى الرغم مما تقدم، يمكن للقاضي الاداري في سبيل تقدير غلط الادارة الاعتماد على عنصرين لايكون الغلط فيهما مبررا :-
الأول / مدى الغلط البين أو حجمه . وهو الغلط الجسيم الواضح الخطير الكبير الظاهر للعيان ، والذي لايحتاج الى خبرة المختصين لاكتشافه .
الثاني / عدم بذل الادارة العنايه اللازمه لتقليل هامش الغلط في التقدير . اذ ينبغي أن تطال الرقابه القرارات التحكميه وغير المنطقية التي لم تشبع دراسة وتمحيصا (8).
ونذهب مع من يرى أن اخضاع غلط الادارة البين في تقدير الوقائع للرقابةأمر فيه خدمة للمصلحة العامة،ويحمل الادارة على توخي الدقة في تحديد أسباب قراراتها ومدى ملاءمتها للصالح العام.ومن ثم تعد هذه الرقابة وسيلة مهمة لمنع تعسف الادارة وتحكم موظفيها ، ولضمان حقوق الأفراد وحرياتهم تجاهها . وفي النهاية تكون الادارة مضطرة لبيان الاسباب والوقائع التي بنت قرارها عليها ، ليتسنى للقاضي دراستها واستخلاص معيار الغلط الذي يخضع لرقابته من ثناياها (9).
__________________
1– د. ماهر صالح علاوي الجبوري – غلط الادارة البين في تقدير الوقائع معياره ورقابة القضاء عليه – بحث منشور في مجلة العلوم القانونية بجامعة بغداد – المجلد التاسع –العدد الاول والثاني – وحدة الطباعة في رئاسة جامعة بغداد –1990-ص189-191 .
2-رد مجلس الدولة الفرنسي في هذا الحكم طلب أحد المدرسين أراد فيه نقض العقوبة الانضباطية التأديبية التي فرضت عليه،وان رد الطلب بني على أساس أن العقوبة لم يشبها غلط بين.ينظر ذلك وتفاصيل القرارات الاخرى: المصدر السابق-ص196 و ص193.
3- يمكن أن نجد هذه الفكرة في المادة (249) الفقرة(آ) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي رقم (23) لسنة 1971. هذه المادة التي أجازت الطعن لدى محكمة التمييز في الحكم الذي بني على خطأ في تطبيق القانون أو تأويله أو في تقدير الأدلة أو تقدير العقوبة وكان الخطأ (الغلط) مؤثرا في الحكم .
4- أ.د. ماهر صالح علاوي الجبوري-غلط الادارة البين في تقدير الوقائع ومعياره ورقابة القضاء عليه-بحث منشور في مجلة العلوم القانونية في جامعة بغداد-المجلد/9-العددان/1،2-وحدة الطباعة في رئاسة جامعة بغداد-1990.
-ص198 ومابعدها.
5- المصدر السابق-ص207 و ص188.وللمزيد ينظر ص208.
6- ولذلك اشترطت المادة (249 / أ ) أصول جزائية عراقي ، للطعن تميزا في الاحكام أن يكون الخطأ جوهريا ، ومؤثرا” في الحكم . وقد جاء الخطأ هنا ليعبر في جوهره عن الغلط .
7 – د . ماهر صالح علاوي – المصدر السابق – ص 209 وص 212 .
8- المصدر السابق – ص 212 – 214
9- د.ماهر صالح علاوي الجبوري-القرار الاداري-دار الحكمة للطباعة والنشر/بغداد-1991-ص110 ومابعدها
المؤلف : مجيد خضر احمد عبد الله
الكتاب أو المصدر : نظرية الغلط في قانون العقوبات
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً