التأمين على مخاطر التجارة الإلكترونية
د. محمد عرفة
لقد تزايد حجم التجارة الإلكترونية في السنوات القليلة الماضية بشكل ملحوظ، حيث تشير تقارير منظمة التجارة العالمية إلى أن حجم التجارة الإلكترونية بلغ نحو 300 مليون دولار أمريكي في عام 2001، كما تُشير أحدث التقديرات إلى أن حجم التجارة الإلكترونية العالمية في السلع الاستهلاكية وحدها بلغ نحو150 مليار دولار في عام 2002، ومن المتوقع أن يقفز إلى500 مليار دولار حتى عام 2009. فقد خلقت شبكة الإنترنت سوقاً عالمية لتجارة السلع والخدمات لم يسبق له مثيل من قبل، الأمر الذي يُبشر بتدفق سيل من المنتجات والخدمات عبر الحدود الدولية.
وقدر تقرير صادر عن اتحاد المصارف العربية المستوى الإجمالي للتجارة الإلكترونية أو المعاملات التجارية التي أُجريت عبر شبكة الإنترنت والشبكات التجارية الخاصة بنحو تسعة مليارات دولار أمريكي في عام 1997، ثم وصل إلى 400 مليار دولار أمريكي في عام 2002، ومن المتوقع أن يصل إلى 500 مليار دولار في عام 2009.
وهذا يرجع إلى أن الشركات التجارية والمستهلكين في جميع أنحاء العالم عندما يقومون بتوسيع نطاق أنشطتهم التجارية عبر الإنترنت، يدفعهم إلى ذلك الفوائد والميزات التي تُحققها التجارة الإلكترونية، وأهمها تخفيض تكاليف الصفقات العالمية، وتخطي العقبات والحواجز الجغرافية التقليدية، وسهولة إبرام الصفقات من خلال الدخول في علاقات تعاقدية بين المشتري والبائع دون وساطة أفراد أو شركات، ما يُقلّل النفقات، ويسهل إجراء العملية التجارية؛ كما أن استناد التجارة الإلكترونية إلى شبكات المعلومات وتدفقها بشكل مستمر يُعزز الشفافية في الأسواق، وهذا من شأنه أن يُحيط طرفي العملية التجارية (البائع والمشتري) على الفور تقريباً بالأسعار والنوعية وشروط التسليم التي يعرضها المنافسون، وأخيراً يتميز التعامل في حقل التجارة الإلكترونية بسهولة التعامل مع البيانات المتوافرة على شبكة الإنترنت.
وعلى الرغم من هذا الاتساع والتطور في التجارة الإلكترونية إلا أن هناك نقصاً واضحاً في القوانين المنظمة لها، خصوصا فيما يتعلق بمسألة الاعتراف بالتوقيع الإلكتروني وغيرها من المسائل ذات الصلة بحجية الوثيقة الإلكترونية في الإثبات، والقواعد التي تكفل حماية المستهلك الذي يتعامل عبر شبكة الإنترنت من الغش التجاري. ذلك أن بعض المنظمات الدولية مثل لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي UNCID قد اهتمت بهذا الموضوع منذ عام 1982؛ ولكنها لم تتوصل إلا إلى وضع ما يُعرف بالقانون النموذجيLoi-type حول التجارة الإلكترونية في 12 حزيران (يونيو) 1996، والذي يُعد خطوة مهمة نحو وضع إطار تشريعي لها.
كما بذلت جهود وطنية من جانب بعض الدول لإصدار قوانين تنظم التوقيع الإلكتروني؛ ومع ذلك فإن الغالبية العظمى من الدول ما زالت تعاني نقصا واضحا في هذا المجال؛ فضلاً عن أنه لا توجد قواعد قانونية دولية أو إقليمية أو وطنية تنظم عملية تحويل الأموال إلكترونياً؛ ما يترتب عليه وجود إشكاليات كبيرة عند قيام شركات التأمين الدولية بالتأمين على الأصول ذات القيمة المالية التي يتم الاتجار فيها إلكترونياً، وهذا من شأنه أن يُهدد حق شركات التأمين في الرجوع على المتسبب طبقاً للمبدأ القانوني المعروف والمعمول به في مجال التأمين وهو مبدأ الحلول في الحقوق.
والحقيقة أن التجارة الإلكترونية مثل التجارة التقليدية تتعرض لمخاطر متعددة، ما يدفع المتعاملين في هذا النوع الجديد من التجارة إلى السعي لدى شركات التأمين الدولية للتأمين على المخاطر التي تواجههم. ومن أهم تلك المخاطر خطر عدم الوفاء بالحقوق أو ما يُعرف بخطر عدم دفع مقابل الشراء بواسطة كارت ائتمان لا يخص طالب الشراء في حال سرقته من مالكه أو في حال قيام أحد العاملين على برامج إدارة شبكة الإنترنت أو مشترك آخر بالحصول على رقم كارت ائتمان لشخص آخر واستغلاله في شراء بضائع لحسابه خصماً من حساب صاحب الكارت الحقيقي؛ حيث يُصبح هذا الأخير هو المسؤول قانوناً عن هذه العملية ولا يسئل البنك عن سرقة الكارت أو عن سوء استخدامه.
وتشير الإحصاءات الصادرة عن الاتحاد الوطني في الولايات المتحدة الأمريكية لحماية المستهلك National Consumer League إلى أن نحو ستة ملايين مستهلك أمريكي تعرضوا لعملية نصب نتيجة الاتجار على شبكة الإنترنت ودفع مقابل الشراء باستخدام كروت ائتمانية. كما أن هناك نوعاً آخر من المخاطر التي تواجه شركات التأمين في مجال التجارة الإلكترونية يتمثل في تلك المخاطر التي تتعلق بعدم توافر نظم الحماية الكافية التي تمنع وبنسبة 100 في المائة من تسرب أية معلومات تخص المشتركين لجهات أخرى خصوصا إذا تم تحميل برامج الشركات، وما تحتوي عليه من ملفات عن بيانات العملاء بواسطة برامج ربط على شبكة الإنترنت.
إذ إنه من المعلوم أن من أهم السلبيات للشبكة العنكبوتية في مجال التجارة الإلكترونية عدم توافر الضمان الكافي للبيانات وسريتها وخصوصيتها؛ فخطورة تسرب المعلومات أو التعدي على برامج المشاركين ما زال أمراً معترفاً به من قبل جميع شركات الحاسوب المتخصصة. ولهذا طالبت إحدى شركات الكمبيوتر في أحد المؤتمرات الدولية بضرورة تدخل شركات التأمين وبشكل عاجل لتوفير حماية تأمينية ضد خطر تسرب معلومات سرية على شبكة الإنترنت لأشخاص غير مصرح لهم بذلك.
وهناك خطر من نوع ثالث يتمثل في خطر احتمال البيانات التي تم تخزينها عن طريق خطأ غير مقصود من المستخدم أو خطأ من الجهاز نفسه أو خطر وجود فيروس. ونتساءل بعد أن اتسع نطاق التأمين في الآونة الأخيرة في السعودية: هل يُمكن لشركات التأمين العاملة في البلاد أن تؤمن على التجارة الإلكترونية؟
تناولت في المقال السابق موضوع التأمين على مخاطر التجارة الإلكترونية، حيث بينت فيه بعض أنواع المخاطر التي يُمكن التأمين عليها، وتساءلت فيه عن مدى إمكانية قيام شركات التأمين العاملة في السعودية بالتأمين على التجارة الإلكترونية؛ خاصة بعد أن اتسع فيها نطاق التأمين في الآونة الأخيرة، وبعد انتهاج السعودية سياسة التحرر الاقتصادية والانضمام إلى منظمة التجارة العالمية. وعطفاً على هذا المقال يُمكن القول في هذا الإطار إن شركات التأمين العاملة في السعودية، مثلها مثل أية شركات تأمين تعمل في أية دولة أخرى، تستطيع أن تؤمن على مخاطر التجارة الإلكترونية، ومن ثم تقدم حماية قانونية للمتعاملين في هذا النوع الجديد من التجارة الذي تمخض عنه القرن العشرين، وأضحى من أهم آليات التجارة الداخلية والدولية في القرن الحادي والعشرين الميلادي. ولكن هذه الشركات يجب أن تحدد بدقة نوع الأخطار التي يُمكن أن يتعرض لها المتعاملون في حقل التجارة الإلكترونية،
وهي أخطار يُمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أخطار تتعلق بالمكونات الإلكترونية وتشمل البيانات التي يتم تخزينها على ذاكرة جهاز الحاسوب، والتطبيقات التي تستخدم في تشغيل تلك البيانات، وقنوات الاتصال عبر الشبكة الدولية للاتصالات، وأجهزة الحاسوب، ونظم التشغيل؛ حيث تتعرض هذه الأصول لأخطار متعددة نذكر منها: عدم إمكانية الاتصال بالشبكة الدولية للتجارة الإلكترونية؛ إذ إن الحق في الاتصال بتلك الشبكة يُعد أحد الحقوق الأساسية للإنسان؛ بل إنه يُعد من الحريات العامة التي يصعب فرض قيود صارمة تحرم الإنسان منها، ما دام أن ممارسته لهذا الحق تندرج ضمن الضوابط الشرعية والقانونية، ولا تمثل إخلالاً بالنظام العام أو الآداب، ولا تتضمن اعتداء على الحقوق والحريات العامة للآخرين.
كما تتعرض هذه المكونات الإلكترونية ً لخطر آخر يتمثل في حدوث عطل في آلية التكامل بين منظومة التجارة الإلكترونية؛ من حيث كامل الوظائف الأساسية أو وسائل الاتصال؛ Infringement of integrity؛ وكذلك خطر اقتحام برامج الحماية للمعلومات المخزنة على الجهاز، وما يترتب عليه من حرمان المشترك من سرية معلوماته وملفاته، ويرتبط بهذا الخطر خطر آخر هو عدم إمكانية التوصل إلى دليل واضح عن أسباب فشل برامج الحماية للمعلومات وصعوبة تتبع القائم بعملية القرصنة Restriction of evidence. أما النوع الثاني من الأخطار فيتعلق بالبضائع والخدمات التي يتم شراؤها من خلال الاتصال بشبكة الاتصالات الدولية عبر الإنترنت، أي أنها تتعلق بعملية النقل المادي للأصول المشتراة، ومنها أخطار النقل البحري والجوي والبري والتي يمكن أن تتعرض لها أية بضائع يتم نقلها بأي من هذه الوسائل الثلاث؛ والتي يقوم أطراف عقد البيع التجاري الداخلي والدولي (البائع والمشتري) عادة بإبرام عقود تأمين على البضائع ذاتها ضد التلف أو الفقد؛ كما يقوم المشتري بالتأمين عليها عند وصولها إلى مخازنه.
ويتعلق النوع الثالث من مخاطر التجارة الإلكترونية التي يمكن التأمين عليها بالمسؤولية المدنية تجاه أطراف التعاقد وفقد الإيراد نتيجة لذلك، والتي تتمثل في أضرار مادية تلحق بالمشترك نتيجة انتهاك حق الحماية الفكرية الممنوح له عن براءات اختراع ونتائج الابتكارات الفنية الصناعية والتكنولوجية والتي يتم تحميلها على شبكة الاتصالات الدولية في صورة رسائل بين أطراف عقود التجارة الإلكترونية، وهو ما يحدث نتيجة التمكن من اختراق برامج الحماية والاطلاع على الملفات والحصول على المعلومات من قبل أشخاص متطفلين وقراصنة معلومات لا يحق لهم أصلاً الاطلاع عليها واستخدامها؛ بل إن هناك بعض المعلومات الشخصية عن المشترك يُمكن أن تتسرب عن طريق الشبكة الدولية للاتصالات مما يترتب عليه إصابته بأضرار مادية وأدبية. بل قد يصل الأمر إلى حد تعرض المشترك لحملات تشويه من خلال تلك الشبكة.
هذا فضلاً عن إمكانية تعرضه لخسائر مادية نتيجة وقوعه ضحية لعمليات نصب وابتزاز متعددة من خلال الشبكة الدولية. ومن الجدير بالذكر هنا أن الأخطار التي ذكرناها تعد أخطاراً حقيقية لا وهمية؛ والدليل على ذلك أن هناك العديد من عقود التأمين تم إبرامها مع شركات تأمين دولية لتغطية الأخطار التي تتمثل في فقد الإيراد، حيث أبرمها بعض المتعاملين كتغطية إضافية لوثيقة الحريق، وكذلك التأمين على المسؤولية التي تنشأ على عاتق أحد أطراف عقد التجارة الإلكترونية قبل شخص ثالث؛ حيث يتم تغطيتها ضمن وثيقة المسؤوليات، وأيضاً الخسائر المادية التي تلحق بالآلات والمعدات الإلكترونية يتم تأمينها ضمن وثيقة المعدات الإلكترونية؛ والتأمين على البضائع المنقولة يتم تأمينها عن طريق وثائق تأمين النقل طبقاً لشروط التغطية.
وبناء على ما سبق، ونظراً لطبيعة الأخطار التي تتعرض لها التجارة الدولية الإلكترونية وحداثتها، ونظراً لجسامة الخسائر التي يُمكن أن يتعرض لها المتعاملون فيها، أرى ضرورة تشجيع إقامة شركات إعادة التأمين، أو على الأقل تسهيل التعاون المباشر بين شركات التأمين والشركات الكبرى المتخصصة في إعادة التأمين؛ حتى يمكن إصدار وثائق تأمين تغطي مخاطر التجارة الإلكترونية، حيث تستطيع شركات التأمين أن تتقاسم مع شركات إعادة التأمين المحلية والدولية الخطر؛ لما يتوافر لهذه الأخيرة من إمكانية الاكتتاب في الأخطار الكبيرة التي تتطلب رؤوس أموال ضخمة وعددا كبيرا من المشتركين، يمكنها من تحمل النتائج المترتبة على تحقق الخطر.
ومن ثم تتولى شركات التأمين الوطنية أو فروع شركات التأمين المباشر العاملة في السعودية إجراء الدراسات العملية اللازمة للتعرف على مدى المخاطر الجديدة التي تظهر على مستوى العالم وتقييم جوانبها المختلفة بالاستعانة بخبراء؛ من أجل الوصول إلى الشروط والأسعار المناسبة لتأمين تلك الأخطار، وبما يكفل تحقيق قدرة هذه الشركات على الوفاء بالتزاماتها تجاه عملائها، وتحقيق حماية قانونية للمستهلك في التجارة الإلكترونية،
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً