الاصل، تطبيقا لمبدا القانون الجنائي، جميع الاشخاص الموجودين على اقليم الدولة يخضعون لقانون تلك الدولة ولاختصاصها القضائي، سواء كانوا من المواطنين ام من الاجانب المقيمين في اقليم الدولة او الزائرين لها. ومع ذلك هناك أشخاص لا يخضعون لقانون الدولة ولا لاختصاصها القضائي بالرغم من وجودهم على اقليمها، حيث استثناهم من ذلك، اما التشريع الداخلي للدولة او العرف الدولي والاتفاقات بين الدول. وكان استثنائهم هذا يرجع الى اعتبارات تتصل بمقتضيات المصلحة العامة او بالعلاقات المتبادلة بين الدول. وقد سلك المشرع العراقي نفس هذا المسلك، حيث جاءت المادة (11) من قانون العقوبات العراقي تقول (لا يسري هذا القانون على الجرائم التي تقع في العراق من الاشخاص المتمتعين بحصانة مقررة بمقتضى الاتفاقات الدولية او القانون الدولي او القانون الداخلي). مما يترتب عليه انه لو ارتكب شخص من هؤلاء جريمة على اقليم الدولة لا تجوز محاكمته لعدم خضوعه للاختصاص القانوني والقضائي للدولة. وهؤلاء الاشخاص هم /
أولا – أشخاص استثناهم التشريع الداخلي
فقد يعفي التشريع الداخلي للدولة، لاعتبارات تتصل بالمصلحة العامة، بنص صريح فيه بعض الاشخاص من الخضوع لقانون العقوبات، وهؤلاء الاشخاص – هم /
أ – أعضاء مجلس قيادة الثورة
نص الدستور المؤقت للجمهورية العراقية على تمتع السيد رئيس مجلس قيادة الثورة (رئيس الجمهورية) والسيد نائب رئيس مجلس قيادة الثورة والسادة أعضاء مجلس قيادة الثورة بالحصانة التامة تجاه قانون العقوبات، وذلك لاعتبارات تتصل باهمية السلطات والواجبات الملقاة على عاتقهم ولخطورة المسؤوليات المنوطة بهم وتمكينا لهم من مباشرة الاختصاصات التي قررها الدستور لهم. وفي ذلك تقول المادة (40) من الدستور المذكور / (يتمتع رئيس مجلس قيادة الثورة ونائبه والاعضاء بحصانة تامة، ولا يجوز اتخاذ أي اجراء بحق أي منهم الا باذن مسبق من المجلس) ومع ذل كفقد قرر الدستور في المادة (45)، استثناء من مبدأ الحصانة التامة الوارد في المادة (40) مارة الذكر، مسؤولية السادة رئيس ونائب رئيس واعضاء مجلس قيادة الثورة امام المجلس نفسه، عن خرق الدستور او عن الحنث بموجبات اليمين الدستورية او عن أي عمل او تصرف يراه المجلس مخلا بشرف المسؤولية التي يمارسها، ويكون ذلك طبقا لقواعد يضعها المجلس حول تشكيل المحكمة والاجراءات الواجب اتباعها فيها (1).
ب – أعضاء المجلس الوطني
منح الدستور المؤقت للجمهورية العراقية أعضاء المجلس الوطني حصانة تجاه قانون العقوبات بالنسبة للجرائم الناتجة عما يبدونه من آراء ومقترحات أثناء ممارستهم مهام وظائفهم (2). واساس ذلك ضمان اريد به اطلاق حرية أعضاء مجلس الامة في التعبير عن ارائهم وأداء واجباتهم النيابية على الوجه الاكمل. ولذلك فهي مقيدة بنوع معين من الجرائم وهي الجرائم القولية والكتابية كالسب والقذف والاهانة وبماكن معين، وهو حيث يكون المجلس متجمعا في جلسة عامة او في لجة من اللجان (3).مما يعني انه اذا اعتدى احد أعضاء مجلس الامة على عضو آخر بالضرب او بالايذاء أثناء انعقاد المجلس او في احدى لجانه لا يسري هذا الإعفاء عليه. وكذلك اذا كانت الاقوال المكونة لجريمة الشتم او القذف قد ارتكبت خارج المجلس او احدى لجانه. والاعفاء هذا يقتصر على أعضاء مجلس الامة وبالتالي هو لا يشمل أعضاء المجالس المحلية كمجالس الإدارة او المجالس البلدية او غيرها من الهيئات النيابية الأخرى.
جـ – الخصوم في الدعاوى
اعفت غالبية قوانين العقوبات الحديثة، بنصوص صريحة الخصوم في الدعاوى من الخضوع لها بالنسبة لما قد يبدو منهم، تحريرا أو شفويا، من أقوال تكون جرائم في الاصل، أثناء المدافعة عن حقوقهم اما المحاكم، وذلك حماية لحق الدفاع اما القضاء الذي يتطلب اطلاق حرية الدفاع للمتقاضين بالقدر الذي تقتضيه مدافعتهم عن حقوقهم. وقد نهج المشرع العراقي نفس هذا النهج، حيث نصت المادة (36) من قانون العقوبات العراقي في فقراتها الأولى بأنه (لا جريمة فيما يسنده احد الخصوم او من ينوب عنهم الى الاخر شفاها او كتابة من قذف او سب أثناء دفاعه عن حقوق امام المحاكم وسلطات التحقيق او الهيئات الأخرى وذلك في حدود ما يقتضيه هذا الدفاع). والحصانة هذه، كما يظهر من النص مقتصرة على الجرائم القولية التي تقع أثناء المدافعة القضائية وبسببها. مما يعني انه اذا اعتدى احد الخصوم على خصمه بالضرب أثناء المدافعة القضائية او بالسب الذي ليس من شأنه المدافعة، يخضع لقانون العقوبات لعدم انطباق النص المتقدم عليه.
ثانياً – أشخاص استثناهم العرف الدولي
جرى العرف الدولي والاتفاقيات بين الدول، لاعتبارات سياسية تتصل بالعلاقات المتبادلة بين الدول، على اعفاء بعض الاشخاص، بحكم مركزهم، من الخضوع لقانون العقوبات للدولة التي يكونوا على أقليمها، وبالنسبة لما يرتكبونه من جرائم فيها. وهؤلاء الاشخاص هم عادة / (4).
أ – رؤساء الدول الأجنبية
تقتضي قواعد القانون الدولي بان يتمتع رؤساء الدول الأجنبية، ملوكا كانوا ام رؤساء جمهوريات ام غيرهم بالاعفاء من الخضوع لقانون العقوبات للدولة التي يكونوا على اقليمها اعفاء كاملا سواء كانوا قد حلوا في اقليم الدولة بصفة رسمية او شخصية او حتى متنكرين تحت اسم مستعار. ويرجع هذا الإعفاء الى ما يجب لرؤساء الدول من الاحترام لمركزهم السامي بالإضافة الى كونهم يمثلون دولا ذات سيادة واخضاعهم لقانون الدولة الأجنبية ينطوي على مساس الدولة التي يمثلونها. فان ارتكب احدهم جريمة في اقليم الدولة الأجنبية فليس لهذه الدولة الا ان تطلب منه مغادرة اقليمها حالا او خلال مدة تحددها له. ويشمل هذا الاعفال، عدا شخص رئيس الدولة الأجنبية، جميع من هم في معيته، كزوجته وخدمته وباقي أفراد عائلته وحاشيته المرافقين له. وهو لا يشمل رئيس الوزراء ابتداء، انما يجوز ان يشمله فيما اذا كان ضمن حاشيته رئيس الدولة (5).
ب – المعتمدون السياسيون
لا يخضع المعتمد السياسي لقانون العقوبات للدولة المعتمد هو لديها وعفاؤه هذا مطلق سواء اتصل الفعل بعمله الرسمي او لم يكن متصلا به. فان ارتكب جريمة ما للدولة صاحبة الاقليم ان تطلب من دولته سحبه او هي تأمره بمغادرة اقليمها حالا او اخلال مدة تعينها له (6). ولأجل ان لا يفلت مجرم من العقاب، جرت اغلب الدول، تضامنا منها في مكافحة الاجرام، على النص في قانون العقوبات على معاقبة موظف السلك الدبلوماسي الوطني على الجرائم التي يرتكبها في خارج وطنه ما تمتع بالحصانة الدبلوماسية. وفي ذلك تقول المادة (12) من قانون العقوبات العراقي في فقراتها الأولى / (ويسري كذلك (ويقصدون قانون العقوبات العراقي) على ما ارتكب في الخارج من موظفي السلك الدبلوماسي العراقي جناية او جنحة مما نص عليه في هذا القانون ما تمتعوا بالحصانة التي يخلوهم اياها القانون الدولي العام). مما يعني انه اذا ارتكب موظف السلك الدبلوماسي العراقي جريمة في الخارج ولم يخضع لقانون الدولة التي ارتكب الجريمة على اقليمها لتمتعه بالحصانة الدبلوماسية فانه يخضع لقانون العقوبات العراقي ولاختصاص المحاكم العراقية، وكأنه ارتكب الجريمة في العراق شرط ان تكون الجريمة المرتكبة في الخارج مما يعاقب عليها قانون العراق وان يعتبرها اما جناية او جنحة. وعلة الإعفاء هذا هي ضمان استقلال الممثل الدبلوماسي حتى يستطيع ان يؤدي مهمته على الوجه الاكمل فضلا عن انه يمثل دولة أجنبيه ليس للسلطات المحلية سيادة عليها. ويتمتع بهذا الإعفاء كل من كانت له صفة التمثيل السياسي لبلاده مهما كان اللقب المعطى له ويتبعه في التمتع بالاعفاء زوجته وأولاده وأفراد اسرته المقيمون معه وخدمه الخصوصيون، كما يتمتع بالاعفاء الموفدون في بعثات خاصة كالأعياد الرسمية وحفلات التتويج وتقديم الأوسمة لرئيس الدولة وكذلك مندوبوا الدول في الهيئات الدولية الدائمة، كهيئة الامم المتحدة ومحكمة العدل الدولية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للانشاء والتعمير وجامعة الدول العربية وهو ما تنص عليه الاتفاقات الخاصة بكل منها. والاعفاء مقصور على مندوبي الدول الأجنبية وبالتالي فلا يتمتع به مندوبو الدولة نفسها. ويترتب على حصانة الممثل الدبلوماسي حصانة دار الممثلية السياسية بل ودار الممثل الدبلوماسي نفسه، اما القناصل فحيث انهم لا يمثلون دولهم في الشؤون السياسية انما يقدمون عادة بحماية المصالح التجارية والصناعية لدولهم إضافة الى رعاية مصالح رعاياها في الدول الأجنبية، لذلك جرى العرف الدولي على ان لا يتمتع القناصل بنفس ما يتمتع به المعتمد الدبلوماسي من حصانة مطلقة انما تكون حصانتهم مقيدة وذلك بعدم خضوعهم لقانون العقوبات بالنسبة للجرائم التي يرتكبونها أثناء تأديتهم وظيفتهم الرسمية او بسببها فقط. ويتمتع بنفس ما يتمتع بنفس هذا الإعفاء موظفوا الممثلية الدبلوماسية الاداريون والفنيون (7).
جـ – القوانين الحربية الأجنبية
لا تخضع القوات الحربية الأجنبية برية كانت ام بحرية او جوية لقانون العقوبات للدولة التي هي في اقليمها، ذلك لأنها تمثل سيادة الدولة التي تتبعها بالإضافة الى ما يقتضيه النظام العسكري من خضوع أفراد القوات المسلحة لرؤسائهم. كل ذلك شرط ان تكون تلك القوات قد دخلت اقليم الدولة بتصريح واذن منها. وليس هذا الإعفاء للقوات المسلحة الأجنبية مطلقا، انما هو مقيد بحالات ثلاث هي حالة وقوع الجريمة أثناء قيامهم بعملهم الرسمي او أثناء وجودهم في الصفوف او داخل المناطق المحددة لهم. مما يترتب عليه انه اذا ارتكب احدهم جريمة في غير الحالات الثلاث فانه لا يتمتع بالاعفاء وبالتالي يخضع للقانون والقضاء الجنائي الاقليمي.
_________________________________
1-انظر المادة 43 من الدستور المؤقت – الدكتور سيد صبري مبادئ القانون الدستوري ص187 – الدكتور حامد سلطان، أصول القانون الدولي ص121
2-انظر المادة 50 من الدستور المؤقت للجمهورية العراقية والمادة 130 من الدستور المصري الصادر عام 1956 وكذلك أغلب الدساتير الحديثة.
3-انظر جارو، المرجع السابق جـ 1 ن 176 – الدكتور عثمان خليل عثمان، النظام الدستوري المصري، ص312.
4-وقد نص قانون العقوبات العراقي على ذلك صراحة في المادة (11) مارة الذكر
5-انظر جارو، المرجع السابق ج1 ن179 – الدكتور حامد سلطان، المرجع السابق ن 72 ص124 – علي بدوي، الاحكام العامة في قانون العقوبات ص176.Ronsseau Droit interntional Punlique.N 425 P.334
6-انظر المادة (11) عقوبات عراقي وكذلك القانون رقم 20 لسنة 1962 الخاص بتصديق اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية.
7-انظر القانون رقم 20 لسنة 1962 مار الذكر.
المؤلف : علي حسين خلف + سلطان عبد القادر
الكتاب أو المصدر : المبادئ العامة في قانون العقوبات
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً