إعادة نشر بواسطة محاماة نت
يقصد بتطبيق التشريع إجراء حكم القاعدة القانونية على الحالات الواقعية التي تخاطبها، وهذا يقتضي أولاً تحديد الحكم القانوني في القاعدة ثم تبيان الحال النموذجية التي وضعت بالنظر إليها ومعرفة عناصرها الجوهرية أو الأوصاف المكونة لها، ثم التحقق من مطابقة الحال الواقعية مع تلك الحال النموذجية، أو إجراء حكم هذه على تلك؛ وهذا المعنى العام يشمل تفسير التشريع، كما يشمل تطبيقه؛ فالتفسير هو الاستدلال على الحكم القانوني أو على الحال النموذجية التي وضع لها الحكم في واقع ألفاظ نص القانون؛ أما تطبيق التشريع بالمعنى الخاص فيأتي بعد التفسير أو هو قياس الحال الواقعية على الحال النموذجية للتحقق من اتفاقها مع النص في عناصرها الواقعية وإجراء حكم الثانية على الأولى.
وهكذا تبدأ الخطوة الأولى بالتعرف على معنى الحكم ثم التحقق من توافر هذه الشروط والأوصاف في الحال الواقعية المطلوب تطبيق الحكم عليها؛ أي التحقق من مطابقة الحال الواقعية على الحال النموذجية. وفي ذلك يقول الدكتور حامد سلطان بأن تطبيق القاعدة القانونية يقتضي؛ أولاً، نشوء واقعة أو رابطة معينة؛ وثانياً، وجود قاعدة قانونية تستند إليها الواقعة أو الرابطة؛ وثالثاً، تحديد معنى هذه القاعدة القانونية ونطاقها تحديداً دقيقاً توطئة لتحديد الآثار التي تترتب على الاستناد إليها. ويعطي الدكتور عدنان القوتلي للتفسير وظيفة أكثر ديناميكية وحيوية؛ إذ أنّ التفسير لديه ليس فقط تعيين معنى النصوص ومداها ونتائجها، بتوضيح ما أبهم من ألفاظها وتكميل ما اقتضب منها؛ بل توسيعها وتكييفها والتخريج على أحكامها والتوفيق بين أجزائها ومفاهيمها واستخراج ما أمكن من نتائجها.
ولا شك بأن الفهم الكافي والسائغ لحقيقة الواقعة في حال ثبوتها وإنزال التكييف القانوني الصحيح عليها يؤدي إلى صحة التقاء الواقع بالقانون التقاءاً صحيحاً، ومن ثم صحة الحكم الصادر فيها؛ فالفهم الصحيح لواقع الحال يعد مفتاح التطبيق الصحيح للقانون عليها. وإذا كانت القوانين في معناها العام تبدو عادلة إلا أنها في تطبيقها على الوقائع قد تتصف بعدم العدالة وهذا يزيد من عبء المهمة على رجل القانون المكلف تطبيقه، حيث يتعين عليه أن يقنع الخصوم والرأي العام بأن تطبيقه للقانون على الواقعة يتصف بالعدالة. ولكي يستطيع أن يقوم بهذا الدور لابد أن يعلم أن لتطبيق القانون منهاجاً يجب السير عليه وله قواعده الخاصة التي يتعين اتباعها. وهذا ما يعرف بفن القضاء والذي يقصد به كيفية التطبيق الصحيح والعادل للقانون على الواقع.
لذلك يجب على المكلف تطبيق القانون أن يعي جيداً العناصر المادية والقانونية للواقعة واستخلاص صورتها الصحيحة عن الظروف المحيطة بها؛ فمثل هذه الظروف قد يترتب عليها التغيير في الواقعة التي تكون الأساس القانوني للحكم الذي ينتهي إليه فلا يتسرع في استخلاصه لحقيقة الواقعة المعروضة عليه، وإنما يجب عليه أن يتريث في ذلك ويقوم باستقراء كافة جزئياتها لكي يصل من خلالها إلى تركيب صورة صحيحة لها متآلفة ومتسقة بين أجزائها، وتتفق مع الواقع الثابت ومؤدياً إليها وفقاً لقواعد العقل والمنطق. لذلك فإن فنية التكييف تفرض على المولج تطبيق القانون أن يفحص جزئيات الواقعة فلا يحكم بالثبوت أو النفي إذا كان ينطبق عليها تكييف قانوني آخر.
فالتكييف القانوني للواقعة يُعدّ الترجمة لمفهوم واقعي بواسطة مفهوم قانوني؛ وهو كما يقول أحد الفقهاء نبض الحياة بالنسبة للقانون، وعن طريقه تدخل الواقعة دنيا القانون لكي تتحدد في صورة الجريمة التي يعاقب عليها القانون. وبذلك فإنه يحمي مبدأ الشرعية الجنائية الموضوعية بحصر حالات التجريم والعقاب في إطار النصوص القانونية؛ وبالتالي لا يكفي لرجل القانون أن يعلم به فقط؛ فشأنه في ذلك شأن باقي أفراد المجتمع، وإنما يجب عليه أن يغوص بفهمه في أعماقه لكي يستطيع أن يحدد المصالح والحقوق التي يحميها القانون، وأن يفهم العام والخاص والأصلي والاحتياطي من نصوصه، وأن يعلم دلالة ألفاظ كل نص من نصوصه، وأن يطبق الأحكام العامة التي تكون واجبة التطبيق على جميع نصوصه، والأحكام الخاصة التي يقتصر تطبيقها على بعض النصوص دون البعض الآخر.
من هنا نجد أن الفقه الإسلامي، اشترط فيمن يتولى منصب القضاء أن يعرف الطرق التي توصله إلى فهم معان النصوص من دلالاتها؛ مثل دلالة العام والخاص والمطلق والمقيد؛ فالنصوص التشريعية التي وردت في القرآن الكريم ليست مقصورة في دلالتها على الأحكام التي تفهم مباشرة من ألفاظها ومعانيها، بل هناك أحكام يمكن الاستدلال عليها من خلال فهم النص وروحه؛ ولذلك فإن النص ينقسم في دلالته إلى دلالة المنطوق ودلالة المفهوم؛ وتنقسم دلالة منطوقه إلى دلالة العبارة ودلالة المفهوم المخالف.
ولكي يتحقق للقاضي هذا الفهم فإن أولى القواعد المنطقية التي يجب عليه أن يسير على هديها تكمن في الفهم السائغ لنصوص القانون الذي يطبقه، وهذا لا يأتي إلا بتفسير نصوصه تفسيراً صحيحاً بحيث يستطيع أن يفهمها الفهم الصحيح الذي يتفق مع معناها؛ فلا يجوز له من خلال تفسيره الانحراف عن المعنى الظاهر أياً كان الباعث على ذلك؛ لأنه لا اجتهاد إزاء صراحة نص القانون الواجب تطبيقه.
ولقد ذهب الفقه الإسلامي إلى أن حكم النص الظاهر ثبوت ما إنتظمه والحكم بما يدل عليه عملاً وأن يراعي تراكيب ألفاظ اللغة وأن يفسره في مجموعه وأن يتقيد بمعناه الاصطلاحي؛ فإذا كان النص محل التطبيق واضحاً في معناه ودلالة ألفاظه فإنه لا يثير أية مشكلة في تفسيره؛ أما إذا كان غامضاً فهنا لا بد أن يبذل جهده لكي يقف على حقيقة المعنى الذي يتطابق مع إرادة المشرع، والعلة من تقريره وطبيعة المصلحة التي يحميها، وأن يرجع إلى أصل نشأة النص وكيف كان ميلاده، وذلك بالرجوع إلى الأعمال التحضيرية التي تمخض عنها ويمكنه أن يستعين في ذلك بالرجوع إلى النصوص القديمة التي كانت مطبقة قبله وأحكام القضاء التي قالت بتفسير النص محل التطبيق.
وإذا كانت محكمة النقض تشرف على تطبيق وتفسير القانون عند النظر بالأحكام المرفوعة إليها من محاكم الأساس؛ يبقى السؤال عن الجهة صاحبة الاختصاص بالنظر في قرارات الموظفين وتصرفاتهم عند تطبيق القانون وتفسيره؟
إن مجلس الدولة أو ما يعرف بالقضاء الإداري هو المرجع المختص للنظر في تقدير ملاءمة تفسير القواعد القانونية وحسن تطبيقها من قبل الموظفين والإدارات العامة. وقد جعل من الخطأ في تفسير القانون أو تطبيقه سبباً للتعويض إذا ما ترتب على هذا الخطأ ضرر. وذلك من خلال رقابة المشروعية التي يفرضها على قرارات الإدارة عن طريق دعوى الإلغاء؛ فالقضاء الإداري في سورية ألغى مرسوماً بالاستملاك لاستناده إلى سبب غير النفع العام؛ وقراراً يقضي بتوظيف الناجح الثاني في المسابقة قبل الناجح الأول مستنداً إلى أن الناجح الثاني من أهالي المنطقة؛ وهو بذلك ألغى القرارات المطعون فيها لاستنادها إلى سبب غير صحيح قانوناً لتفسير النص القانوني تفسيراً خاطئاً.
لكن الصعوبة تتجلى بشكل واضح إذا كان القرار الإداري يستند إلى عدة أسباب بعضها صحيح من الناحية القانونية والمادية، والبعض الآخر خاطئ. وهنا قدم القضاء الفرنسي حلولاً متطورة بحيث ميّز بين الأسباب الأساسية والأسباب التابعة في موضوع الخطأ القانوني أو المادي. وانطلاقاً من هذا التمييز، فإن الأخطاء القانونية المادية أو المتعلقة بالأسباب التابعة، لا تبرر إلغاء القرار المستند مع ذلك إلى أسباب رئيسية صحيحة؛ وعلى النقيض من ذلك فإذا كان أحد الأسباب الرئيسية غير صحيح قانوناً أو مادياً، فيمكن الطعن بالقرار عن طريق دعوى الإلغاء.
وختاماً، نقول أنه إذا كان المشرّع ترك للإدارة قسطاً كبيراً من الحرية في مباشرة نشاطها إلا أن ذلك لا يعني أن الإدارة أو موظفيها يستطيعون خرق مبدأ المشروعية وتفسير القانون كما يحلو لهم، لأنهم مقيدون في تصرفاتهم بما استهدفه القانون من الصالح العام؛ فإذا انحرفت عن هذه الغاية، فإن تصرفات الإدارة وموظفيها تكون مشوبة بعيب استعمال السلطة والانحراف بها عن هدفها الأسمى وهو سيادة القانون.
اترك تعليقاً