مقال قانوني حول التعويض عن الضرر الطبي المعنوي

التعويض عن الضرر الطبي المعنوي

إعادة نشر بواسطة محاماة نت

تُعدّ المسؤولية المدنية انعكاساً حقيقياً لقيم المجتمع وتطوره وتعبيراً عن مدى نضج الوعي الاجتماعي والأخلاقي فيه. وجرت العادة في كتب الفقه القانوني على تقسيم عناصر المسؤولية إلى ضرر وخطأ ورابطة سببية بينهما. وفي هذا الإطار يعد الضرر الركن الأساسي في المسؤولية المدنية حيث يجب إثباته قبل ركني الخطأ والسببية. والضرر على نوعين؛ هما ضرر مادي ناشئ عن المساس بحق مالي أو مصلحة مشروعة كحق الملكية؛ وضرر معنوي ناشئ عن الإخلال بمصلحة أو حق غير مالي. وقد يجتمع الضرر المعنوي مع الضرر المادي في آن واحد؛ فالاعتداء على جسم الإنسان يتحقق به الضرران معاً، وإنْ تناول جانب من الفقه هذه الحالة للقول بقبول التعويض عن الضرر المعنوي في اجتماعه مع الضرر المادي فقط.

وفي الوقت الذي كان يخامر أذهان البعض منذ القدم إمكانية التعويض عن الضرر المعنوي مادياً، لم يكن ذلك التعويض مقبولاً في غير إطار الاعتذار والأسف. ورغم ذلك، فقد انقضى الخلاف وأصبح قبول التعويض عن الضرر المعنوي مادياً، مبدأ تُجمع عليه كل الشرائع، وإن كان تحديد طبيعة التعويض ووظيفته ما بين الوظيفة الاصلاحية والعقابية محلّ خلاف منذ القدم، وقبل وجود سلطة عامة. فالقانون المدني السوري نص في المادة 223 على أنه:

“1ـ يشمل التعويض الضرر الأدبي أيضاً ولكن لا يجوز أن ينتقل إلى الغير إلا إذا تحدد بمقتضى اتفاق أو طالب الدائن به أمام القضاء.

2ـ ولا يجوز الحكم بتعويض إلا للأزواج والأقارب إلى الدرجة الثانية عما يصيبهم من ألم من جراء موت المصاب”.

فما هو الضرر المعنوي بشكل عام والطبي المعنوي بشكل خاص؟

لم يعرّف القانون مفهوم الضرر وترك ذلك للفقه والقضاء؛ فعرفه الدكتور عبد الرزاق السنهوري بأنه: “ذلك الضرر الذي قد يصيب الجسم فيما يلحق به من ألم وتشويه وقد يصيب الشرف والاعتبار والعرض، وقد يصيب العاطفة والحنان والشعور”. وعرفه الدكتور سليمان مرقص بأنه: “كل مساس بحق أو مصلحة مشروعة يسبب لصاحب الحق أو المصلحة أذى في مركزه الاجتماعي أو في عاطفته أو شعوره، ولو لم يسبب له خسارة مالية”. وعُرّف الضرر في الفقه الإسلامي بأنه “إلحاق مفسدة بالآخرين، أو هو كل إيذاء يلحق بالشخص سواء في نفسه أو ماله أو جسمه أو عرضه أو عاطفته، أو يتسبب له بخسارة مالية، سواء بالنقص أو التلف أو بنقص المنافع أو زوال بعض الأوصاف”.

وانتُقِد تعريف الضرر بأنه “الإتلاف” لأنه لا يشمل الجراحة التي لا تفقد كل المنفعة ولا بعضها، ويجب فيها التعويض ولو بأجرة الطبيب وثمن الأدوية، ولا يشمل غير الجراحة مما لا يُفقد الشيء منفعته كلها أو بعضها.

وفي ضوء هذا الانتقاد يمكننا تعريف الضرر الطبي المعنوي بأنه: تلك الآلام والصعوبات والمعاناة الناتجة عن خطأ طبي يمس سلامة جسم المريض فيصيبه بعجز أو يسبب له ألماً نتيجة التشوهات أو قصور الأعضاء عن أداء وظائفها أو الناتج عن إفشاء الطبيب لسر المريض.

فالألم الناتج عن تشوهاتٍ سببتها الجراحات التجميلية الخاطئة، أو الآلام الجسدية الناشئة عن عمليات نقل الدم الملوث والتي تؤدي إلى الإصابة بفيروس نقص المناعة، تعتبر أضراراً معنوية، توجب التعويض نظراً لما تحدثه للمصاب من آلام وصعوبات في ممارسة حياته بشكل طبيعي، وهذا ما أقره قانون الصحة العامة في فرنسا الصادر عام 1991 بالمادة 47 منه؛ بأن حق التعويض للضرر الجسدي هو حق أساسي وجوهري يضمن الحماية الكاملة لجسم الضحية، ويكون ذلك من خلال التعويض، والتعويض الكلي لا يقتصر على الضرر الجسدي فقط.

لكن الصعوبة تبقى في تحديد طبيعة التعويض عن الضرر الطبي المعنوي ومقداره والمعيار المعتمد في قياس الضرر وتحديده؛ إذ يبدو الأمر غاية في الصعوبة بالنظر إلى غياب القواعد الخاصة التي تحكمه، مما يقتضي اللجوء إلى القواعد العامة في القانون المدني، حيث ترك القانون في المادة 222 منه للقاضي الحرية المطلقة في تقدير التعويض، بخلاف التعويض عن الضرر المادي الذي تتقيد حريته في تقديره، مما يجعل تقدير التعويض يختلف باختلاف الأشخاص والمحاكم، علاوة على أن تقويمه بالمال أمر غير دقيق، وفيه بعد عن العدالة.

وهذه المآخذ يجب ألا تقف حائلاً دون تقرير التعويض العادل بعد أن أقرّ المشرّع التعويض عن الضرر المعنوي عموماً، والطبي خصوصاً، في قوانين عدة؛ منها القانون المدني وقانون تنظيم المهن الطبية؛ فلا يتحلل المتسببون بالأخطاء الطبية من المسؤولية المدنية التي تشترط للتعويض عن الضرر المعنوي أن يكون محققاً ومباشراً وشخصياً، وأن يكون المطالِب به هو المضرور نفسه أو زوجه أو أقاربه من الدرجة الثانية فقط.

ويرى البعض أنه عند تقدير الجوانب المختلفة للضرر المعنوي الذي يلحق بالمضرور من عملية تجميل خاطئة أو نقل دم ملوث مثلاً، أن يأخذ القاضي عند تقدير التعويض بالمعيار الشخصي، وليس بمعيار الرجل المعتاد المطبق في قواعد المسؤولية المدنية بشكل عام، فينظر القاضي إلى ما أصاب المضرور شخصياً، وما يعانيه من ألم وفقاً لظروف المضرور الشخصية واستعداداته النفسية؛ إذ أن العدالة والمنطق يقتضيان جبر الضرر، وفي هذه الحالة لا يستطيع القاضي الفصل بين شعوره الشخصي، وشعور المضرور تجاه المسؤول عن الضرر، ويكون حراً في تقدير التعويض عن الضرر المعنوي وليس مقيداً.. كما هو الحال في الضرر المادي.

ففي جراحة التجميل التي ينتج عنها ضرراً معنوياً يخلق للمصاب حزناً وألماً نتيجة التشويه أو الخياطة الرديئة، مثلاً، يستوجب التعويض للمصاب، ويقدّر ذلك حسب مكان الضرر ومدى الآلام التي تسبب بها طبيب التجميل الذي وإن كان كغيره من الأطباء لا يضمن نجاح العملية، إلا أن العناية المطلوبة منه أكثر منها في أحوال الجراحات الأخرى باعتبار أن جراحة التجميل لا يقصد منها شفاء المريض من علة جسدية، وإنما إصلاح تشويه قد لا يعرض حياة المريض لأي خطر.

لذلك اتجهت غالبية الفقه عند تقدير التعويض عن الضرر المعنوي، وتحديداً الطبي منه، إلى القول بفكرة العقوبة الخاصة بدلاً من التعويض في هذا النوع من الضرر، انطلاقاً من سلطة القاضي المطلقة في تقدير التعويض التي تجاوزت المبدأ الأصيل في القانون؛ من أن التعويض لا يكون إلا بمقدار الضرر. ويتلافى بذلك الصعوبة في تخيل نفسيات المضرورين من أجل معرفة الألم الذي يقاسونه بداخلهم جراء أخطاء الأطباء. ويكون تقديره للتعويض بالنظر إلى شعوره شخصياً تجاه المسؤول عن الخطأ.

وهنا يبدو الأمر سهلاً على القاضي وأفضل من البحث عن مدى الضرر لدى المضرور الذي يطلب عقاباً للمتسبب في هذه الآلام، وليس تعويضاً مادياً بالمعنى الدقيق. والعقوبة في هذه الحالة تقدر بمقدار جسامة الخطأ.

إلا أن هذا الرأي انتقد من قبل الفقه على أساس أن العقوبة على الخطأ لا تُفترض، بينما التعويض عن الضرر يكون حتى في المسؤولية بلا خطأ، إضافة إلى تنافي هذه الفكرة مع الأخلاق واستنادها إلى فكرة الثأر والانتقام التي لا تقرها الشرائع الحديثة.

وختاماً، نجد أن التعويض عن الضرر الطبي المعنوي ما يزال محلاً للجدل والخلاف ليس لجهة النص المقرر له، وإنما لجهة كيفية تقدير التعويض المناسب، الذي يختلف من شخص إلى آخر، ويقتصر حق المطالبة فيه على الزوج وأقارب الميت إلى الدرجة الثانية وهم أبوه وجده وجدته وأمه وأولاده وأحفاده وأخوته وأخواته. ولا يعطي القانون تعويضاً لهؤلاء جميعاً إن وجدوا، بل يعطي التعويض لمن أصابه منهم ألم حقيقي بموت المصاب، كما يقضي الاجتهاد القضائي السوري والذي حدد مقدار التعويض بالحد المألوف، وبما تقضي به محاكم القطر في القضايا المماثلة، وبما يتناسب مع وضع المصاب الاجتماعي والعائلي وسنه.

Share

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.