بيع الخدمة الحرة وإشكالياته
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
انتشرت في سورية خلال السنوات الماضية ظاهرة الأسواق التجارية الكبيرة والتي تعرف (بالمولات)، وشاعت في المدن الكبرى حيث يترك للزبائن حرية التجول في أرجاء المول وأخذ ما يشاؤون من موجوداته لمعاينتها وإعادتها إلى مكانها عند الاقتضاء، فإذا عزموا على شرائها، وجب عليهم تقديمها إلى الصندوق في مخرج المحل، حيث يسددون ثمنها.
ولكن في هذا النوع من البيوع يحتفظ البائع بالملكية حتى الوفاء بالثمن، وهو اتفاق ضمني يستلزمه البيع نقداً بحسب طبيعته. وإذا كان البيع في الأصل معجل الوفاء ـ أي الثمن مستحق الأداء وقت العقد ـ فإن ثمة بيوع مؤجلة الوفاء يتأخر فيها الوفاء بالثمن دقائق معدودة عن التعاقد، فلا يجيز البائع للمشتري أن يتصرف بالمبيع (سواء بإتلافه أو اختلاسه) قبل الوفاء بالثمن، فيعلّق تملكه المبيع على أداء الثمن؛ فإذا تصرف المشتري بالمبيع قبل ذلك، اعتبر سارقاً وأمكن فرض عقوبة السرقة عليه “لأخذه مال الغير المنقول دون رضاه” (م 621/ ق .ع).
وقد عرضت هذه الحالة بكثرة في محلات “بيع الخدمة الحرة”، ونظراً لسهولة السرقة في هذه المحلات بإخفاء روادها بعض ما يأخذونه منها دون تقديمه للصندوق عند خروجهم، فقد عمدت النيابة العامة إلى ملاحقتهم بجرم السرقة، وقضى الاجتهاد الفرنسي بعقوبة الجرم المذكور.. وإن كان بعض الفقهاء ينتقد هذا الرأي، معتبراً أن الفاعل في هذه الحالة إنما يأخذ ماله الخاص لا مال غيره، إذ يُعتبر مشترياً بمجرد تناوله من مكانه، وفي ذلك الوقت يقترن إيجاب البائع الضمني (بعرضه الشيء للبيع بثمن معين) بقبول المشتري (الذي يتناول هذا الشيء).
ولما كان اقتران الايجاب بالقبول ينقل الملكية حكماً إلى المشتري في ذلك الوقت، فإن المشتري الذي يخرج بعد ذلك دون الوفاء بثمنه يعتبر مالكاً امتنع عن الوفاء بالتزام مدني مترتب في ذمته لا سارقاً يأخذ مال غيره.
ولا يخفى ما في هذا النقد من تجاهل للواقع:
أ ـ فالفاعل الذي يحمل الشيء في هذه الحالة ليخفيه ويخرج به دون الوفاء بثمنه، لا يقصد الشراء أصلاً إنما ينوي أخذ مال غيره، فلا مجال لافتراض إبرام عقد البيع ما لم يكن أحد الطرفين (المشتري) ينوي إبرامه أصلاً.
ب ـ أما صاحب المحل فإيجابه الضمني لا ينصب على البيع إلا مشروطاً بوقوع الوفاء بالثمن عند الخروج بالشيء؛ فإذا تخلف الشرط المذكور اعتبر ايجابه لاغياً وغير منتج لأي أثر. أما إجازته للفاعل أن يأخذ الشيء المعروض أمامه فليست تسليماً للمبيع ـ إذ أن التسليم يتناول الحيازة التامة بركنيها المادي والمعنوي ـ وفي هذه الحالة، فإن تناول الشيء مجرد تسيلم مادي مؤقت لا يسمح للحائز بإخراج هذا الشيء من المتجر قبل الوفاء بثمنه؛ فكأنما يحتفظ البائع صاحب المحل فعلاً بحيازة الشيء كما يحتفظ صاحب الدار بحيازة أثاثه رغم إجازته لخدمه بحيازتها داخل الدار، وصاحب المتجر بموجودات متجره، وإن أجاز لتابعيه حيازتها لمقتضيات عملهم؛ فإذا تصرفوا بها لحسابهم الشخصي ارتكبوا جرم السرقة لأخذهم مال غيرهم.
وعليه، فالفاعل الذي يخرج من المحل في هذه الحالة وهو يخفي شيئاً لم يسدد ثمنه إنما يتصرف بملك غيره ويحوّل حيازته الشيء من حيازة مادية بحتة إلى حيازة تامة، فيرتكب جرم السرقة كما يلتزم برد الشيء والتعويض على مالكه.. على أن ذلك لا يعني أن نقل الحق المبيع إلى المشتري في البيوع المذكورة مؤجل إلى ما بعد التعاقد، وإنما لا يتم العقد في هذه الحالة إلا عند الوفاء بالثمن أسوة بالبيع نقداً بصورة عامة؛ فكل من الوقائع الثلاث ـ انعقاد البيع وانتقال الملكية والوفاء بالثمن ـ تتم في وقت واحد، وانتقال الحق المبيع إلى المشتري هو مقترِن بالوفاء بالثمن وموقوف عليه، ولكنه ليس متراخياً لما بعد العقد بل مقارناً أيضاً لوقوعه.
ختاماً، ونظراً لعدم وجود نص صريح في قانون العقوبات يحسم هذا الخلاف الفقهي، فإن القضاء في سورية ـ عند عرض هذه الحالة عليه ـ يكون ملزماً بتطبيق نص المادة 643 من قانون العقوبات التي تنص:
“كل سرقة أخرى غير معيّنة في هذا الفصل تستوجب عقوبة الحبس مع الشغل من شهر إلى سنة والغرامة حتى مائتي ليرة”.. وحبذا لو أن المشرع يتدخل بنص خاص يعالج مثل هذه الحالات حسماً للجدل والخلاف؛ فالأصل هو البراءة ولا جريمة إلا بنص.
اترك تعليقاً