مقال قانوني حول منهجية ومنطق علم القانون

منهجية ومنطق علم القانون

إعادة نشر بواسطة محاماة نت

يخضع كل علم في تحقيقه وإثباته إلى منهجية معينة تنير للباحث طريق الوصول إلى الحقيقة التي يسعى إليها عبر التقيد بمجموعة من التوجيهات والضوابط تحكم عمله سعياً للوصول إلى نتيجة مرجوة، ومن خلال استخدام أدوات للبحث لابد من الإحاطة بها وطريق لابد من سلوكه عند استعمال تلك الأدوات. فغاية المنهجية أن يحسن المرء توجيه فكره عند البحث عن الحقيقة في علم من العلوم؛ فقد تتساوى المعلومات والقدرات عند الأفراد أحياناً، ورغم ذلك فإنهم قد لا يتساوون في الاهتداء إلى الحقيقة التي يبحثون عنها، إذ يمكن أن تختلف وتتنوع أراءهم وأحكامهم في الموضوع ذاته، وعندها لا يمكن القول إن هذا التنوع سببه فقط كون البعض أكثر فطنة أو إدراكاً أو معرفة بالموضوع المبحوث فيه، بل إن سبب ذلك يعود لاختلاف المنهج الذي يحكم تفكير كل منهم، وتوفره عند البعض وفقدانه عند البعض الآخر.

فالمنهج قد يدفع المرء إلى التركيز على أشياء وزوايا من شأنها أن تنير جوانب من بحثه تختلف عن الأشياء والزوايا التي يركز عليها من لا يمتلك مثل ذلك المنهج. وإذا كانت العقول الكبيرة مؤهلة للقيام بأسمى الفضائل، إلا أنها معرضة للوقوع بأكبر الرذائل.

ولعل في المنهج الذي اعتمدته السلحفاة في سباقها مع الأرنب خير دليل على ذلك؛ فالذي يهديه منهجه إلى صراط مستقيم يمكنه ولو بخطى وئيدة أن يبلغ هدفه قبل غيره ممن يسابق الريح ولكنه ضل تلك الطريق؛ فالمنهج يزود صاحبه بحجة أقوى تنم عن فكر منظم يتصف بالوضوح، ويعطيه قدرة أكبر على الإقناع؛ المنهجية تعتبر مسلّمة لا يمكن لأي باحث تجاهلها؛ ولا بد لغير الممتهن من الرجوع إليها، وفي نفس الوقت لا يسع الممتهن إلا أن يفيد منها. وقد توصل ديكارت إلى مجموعة من القواعد في توجيه الفكر تتصف بعموميتها، وتلك القواعد هي:

القاعدة الأولى: عدم أخذ أي أمر على أنه حقيقة إلا إذا تجلت حقيقته بصورة واضحة، وهذا يفترض تجنب التسرع والأحكام المسبقة.

القاعدة الثانية: تجزئة الصعوبات موضوع البحث ـ أي بحث ـ إلى أكبر قدر ممكن من الجزئيات فيسهل حلها.

القاعدة الثالثة: توجيه الفكر بشكل منظم بدءاً بالمواضيع والأشياء الأبسط للفهم، ثم الارتقاء درجة درجة نحو الأشياء والمواضيع ومن ثم المعارف الأكثر تعقيداً.

القاعدة الرابعة: إحصاء كل الأمور بشكل كامل ثم إجراء مراجعة شاملة وعامة حتى لا يغفل أو يهمل شيء.

وإذا كان يصح اعتماد تلك القواعد في مختلف العلوم، فلا شك أنها تنطبق على علم القانون حيث تحتمل كلمة قانون معنيين يكمّل بعضهما البعض:

المعنى الأول: يدل على مجموعة معينة من القواعد القانونية تنظِّم جانباً معيناً من جوانب الحياة الاجتماعية واردة بأرقام متسلسلة وبترتيب معين ضمن قانون صادر عن السلطة التشريعية كقانون السير أو قانون العقوبات أو قانون الايجار.

المعنى الثاني: يدل على جميع القواعد القانونية التي تنظم العلاقات الاجتماعية وتحكم سلوك الأفراد في المجتمع، فيظهر كقواعد سلوكية اجتماعية مقرونة بجزاء، الأمر الذي يفرض على الأفراد الانصياع إليها وإلا تعرضوا للجزاء، ومن ثم عندما يقال أن القانون يضع حلاً لقضية معينة، فيعني ذلك أن هناك قاعدة قانونية تنظم تلك القضية مع غيرها من القضايا المماثلة وتضع لها حلاً قانونياً.

وينتج عن المعنيين المتقدمين لكلمة “قانون” أن القانون وليد الحياة الاجتماعية ويتطلب الإحاطة بأنواع مختلفة من المعرفة والعلوم؛ فالقانون هو ثمرة الحياة الاجتماعية؛ أي أنه نتيجة حتمية لعيش الإنسان ضمن المجتمع؛ فعندما كان يعيش الإنسان في الحياة البدائية لم يكن هناك حاجة لقواعد قانونية تنظم حياته وتحدد له سلوكه، ولكن بعد أن انتقل من الحالة البدائية إلى الحالة الاجتماعية، كان لابد من وضع قواعد سلوكية للأفراد تؤمن انتظام الحياة في المجتمع. وقد تطورت تلك القواعد بتطور الحياة الاجتماعية، فأصبح القانون ملازماً لحياة الفرد في كل مظاهر نشاطه.

وإذا كان الإنسان أحياناً لا يعير وزناً للقانون، إلا أنه يبقى على احتكاك دائم به لأنه يلازم حياته اليومية، وفي كل عمل يقوم به من قيادة السيارة (قانون السير) إلى العمل الذي يتعاطاه (قانون العاملين الأساسي أو قانون العمل أو قانون التجارة)، أو داخل منزله وعلاقته مع أفراد عائلته (قانون الأحوال الشخصية أو قانون الملكية أو قانون الايجار).

من هنا يظهر القانون كحقيقة ملازمة لحياة الإنسان ضمن المجتمع، ولكنها حقيقة تنظم حياة الإنسان وتفرض عليه التزام سلوك معين يتحقق من خلاله التآلف والانسجام داخل المجتمع؛ وبعبارة أخرى، فإن الحاجة إلى القانون لا تتجلى إلا عند عيش الإنسان ضمن المجتمع؛ فالإنسان ككائن اجتماعي ميال بطبعه إلى العيش في مجتمع وإلى علاقات اجتماعية مع بقية أقرانه.. والحياة الاجتماعية تُبرز بذاتها فكرة القانون وذلك لعدة أسباب منها: يمنع حكم القوي ويمنع العنف ويعترف لأفراد المجتمع بحقوقهم، ومن ثم يتجه لحماية تلك الحقوق عن طريق إيجاد حلول للنزاعات التي يمكن أن تنشب بين أفراد المجتمع؛ فالنزاعات ضمن المجتمع هي في صلب معنى القانون؛ لذلك يتطلب علم القانون الإحاطة بأنواع مختلفة من المعرفة والعلوم؛ فكل قانون وكل قاعدة من القواعد القانونية تحتوي بذاتها على مجموعة من المعطيات المستمدة من صميم الحياة الاجتماعية وعلى حلول يتضمنها القانون لذلك الجانب من جوانب الحياة.

والحقيقة، أنّ فهم تلك المعطيات لا يقتصر على فهم القاعدة القانونية والحلول التي تقررها القواعد، بل يتطلب أيضاً فهم الأحداث اليومية المرتبطة بالقاعدة القانونية سواء ظهر الارتباط في مرحلة تكوين القاعدة أو مرحلة تطبيقها. ولا شك في أن تكوين القاعدة القانونية وتطبيقها يعتبران مؤشران على المستوى الثقافي والحضاري للمجتمع الذي ولدت فيه القاعدة. وإذا كانت القاعدة القانونية توفر بذاتها أنواعاً كثيرة من المعرفة، إلا أنها تبقى مرتبطة بالعلوم المختلفة برابطة وثيقة لأن كل تطور يطال بقية العلوم، كالفلسفة والطب والهندسة والمعلوماتية، لابد أن يترك بصماته على القانون.

وفي هذا السياق، يقول الفقيه “فرنسوا جيني” في كتابه عن مصادر القانون والمنهج لتفسيره: هناك وجهان في كل نوع من أنواع المعرفة؛ الوجه الأول، هو المبادئ والوجه الثاني، هو التطبيقات. فالمبادئ تنتمي إلى العلم، أما التطبيقات فتجسد الفن بوضع هذا العلم موضع التطبيق. وهذا التمييز بين العلم والتطبيق الذي تخضع له كل أنواع المعرفة يضفي بظلاله ويهيمن على كل الأبحاث والدراسات القانونية؛ إذ هناك نوعان من القانون؛ النوع الأول هو القانون المحض والنوع الثاني هو القانون في وجهه التطبيقي؛ والقانون المحض هو القانون المثالي الذي يرتكز على ثوابت الطبيعة البشرية ومقومات الحياة الاجتماعية التي تنصب على التمييز بين العدالة والظلم بالمطلق، أي بصرف النظر عن حدود الزمان والمكان..

وهذا هو علم القانون. أما القانون في وجهه التطبيقي، فهو يهتم بحل المشاكل ضمن حدود الزمان والمكان، وهنا يظهر القانون بمظهر القانون الوضعي والمكتوب، والذي يتناسب مع الغايات التي حتّمت وجوده وهو الذي يعطي الحلول للمشاكل المعقدة والمتنوعة والمنبثقة من حياة الإنسان ضمن المجتمع. وإذا كانت الحياة القانونية تُختصر فيما مضى بعبارات الفطنة أو الحس السليم أو العادة أو الخبرة التي تتوافر عند رجل القانون، فإن جهوداً كبرى بُذلت من قبل بعض جهابذة القانون لإثبات أن علم القانون يخضع لمنهجية تحكمه أسوة ببقية العلوم.

فالقانون هو بحث دائم عن المعرفة وممارسة يومية يتعاطاه من يضع القاعدة القانونية, من يدرسها, من يفسرها, من يطبقها، من يبحث عن الحلول التي تتضمنها, ومن ثم هناك أعمال متنوعة تتعلق بالقانون وتختلف باختلاف موضوعها والغاية منها.

فهناك الأعمال التي تنصب على حل نزاع قانوني سواء طرح النزاع على الطالب بشكل مسألة عملية، أو طرح على المحامي لإعطاء النزاع مجراه القانوني للوصول إلى الحل، أو طرح على القاضي للفصل فيه. وهؤلاء يحاولون أثناء الدراسة تلمس المنهجية التي تمكنهم من إنجاز العمل، علَّ المنهجية تهديه إلى الطريق القويم عبر ربط العناصر الواقعية للنزاع بالقاعدة القانونية وفقاً لمنهجية علمية توصلاً للحل المنشود عن طريق القياس المنطقي المعروف في علم المنطق الشكلي، حيث يستطيع الباحث أن يصل إلى القاعدة الكبرى ـ النص القانوني ـ ويطبقها على القاعدة الصغرى ـ الواقعةـ ليصل إلى الرأي الذي يحسم به الدعوى أو النزاع القانوني.

وشأن علم المنطق في قيامه بهذه الوظيفة شأن علم أصول الفقه الذي يتكون من المناهج التي تبين للفقيه الطريق الذي يلتزمه في استخراج الأحكام من أدلتها وترتيب الأدلة من حيث قوتها؛ فالمنهجية والمنطق كلاهما ميزان يضبط العمل ويعصمه من الخطأ في الفكر ويمنعه من الخطأ في الاستنباط، وعن طريقهما يتبين الاستنباط الصحيح من الاستنباط الباطل.

وفي ضوء ما تقدم، نرى إدخال علم المنطق والمنهجية العلمية كأحد العلوم الأساسية التي تدرّس في كليات الحقوق، باعتبار أن هذين العلمين لا غنى عنهما لتدريب العقل على أصول التفكير السليم، وهما من العلوم التي تساعد على التطبيق السليم للعلوم القانونية في دنيا الواقع.

شارك المقالة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر بريدك الالكتروني.