إعادة نشر بواسطة محاماة نت
كثر الحديث في الآونة الأخيرة بالإعلام عن الحكم الذاتي والفيدرالية والإدارة اللامركزية مع اقتراب استئناف مفاوضات جنيف بين الدولة السورية وممثلي المعارضات السورية. فما هو المدلول القانوني لهذه المصطلحات وما هي أوجه الشبه والاختلاف بينها؟
أولاً- الحكم الذاتي:
يعتبر مصطلح الحكم الذاتي ذو تاريخ طويل في التفكير الإنساني الفلسفي والقانوني مما أكسبه شيئاً من الغموض والتعقيد نتيجة للمعاني والأدوار التاريخية التي مر بها وللإزدواج في مدلوله بين الجانب السياسي والجانب القانوني حيث يجب أن نميز الفهم القانوني عن الفكر السياسي للموضوع، وندرك مدى التفاعل والترابط بينهما؛ فالحكم الذاتي يعرف في السياسة الدولية أنه: “صيغة قانونية لمفهوم سياسي تتضمن منح نوع من الاستقلال الذاتي للأقاليم المستعمرة لأنها أصبحت من الوجهة السياسية والاقتصادية جديرة بأن تقف وحدها مع الدولة المستعمرة صاحبة السيادة عليها”.. أما في القانون الداخلي فيعرف مفهوم الحكم الذاتي أنه: “نظام لا مركزي مبني على أساس الاعتراف لإقليم مميز قومياً أو عرقياً داخل الدولة في إدارة شؤونه تحت إشراف ورقابة السلطة المركزية”. وفي هذا الصدد تنحصر أهمية موضوع الحكم الذاتي في مدى استطاعة الحكم الذاتي ضمن إطار قانوني أن يكون أساساً لحل المشكلات والأزمات الداخلية ذات الطابع السياسي داخل الدولة وبالأخص مشكلة عدم التكامل الوطني. فهو في نظر القانون الداخلي شكل من أشكال النظم اللامركزية إلا إنه لا يدخل ضمن أي نوع من أنواعها التي تعارف الفقه عليها؛ فالحكم الذاتي لا يرتقي إلى درجة الفيدرالية ولا يهبط إلى مستوى اللامركزية الإدارية الإقليمية، وإنه والحال هذه يشكّل نظاماً خاص ذو طبيعة قانونية مستقلة؛ فهو صيغة للحكم والإدارة، بمعنى أن هيئاته تمارس الوظيفة التشريعية فضلاً عن الوظيفة الإدارية.
ومن مظاهر نظام الحكم الذاتي الداخلي فكرة القومية والتكامل الوطني وذلك بإعتباره حلاً متقدماً للمسألة القومية ولهذا النظام ثلاثة عناصر؛ يتعلق الأول بفكرة الإقليم، ويرتبط الثاني بالاستقلال الذاتي، ويتمثل الثالث في الرقابة المركزية. ومن أوائل الدول التي اهتمت بدراسة مفهوم الحكم الذاتي الاتحاد السوفيتي السابق، إذ علق لينين على الحكم الذاتي أهمية بالغة كأساس لحل مسألة القوميات داخل الدولة السوفيتية عندما وضع عنوان مذكراته عن حل مسألة القوميات “حول مسألة القوميات أو الحكم الذاتي”. ويذهب الفقيه السوفيتي دينسوف إلأى أن الحكم الذاتي الإقليمي هو “التسوية المناسبة لتنظيم الدولة على أساس رغبة الجماهير في حال عدم التعبير عن رغبتها بالانفصال، أو كونها غير قادرة على التعبير عن تشكيل دولة مستقلة”. ويذهب الفقيه الإيطالي جيرميني إلى القول: “يقصد بالحكم الذاتي في الحقبة التاريخية المعاصرة التنظيمات ذات السلطة العليا بمعنى أن تمنح الدولة ـ عن طريق قوانين خاصة بها ـ الهيئات الإقليمية التي تشكل جزءاً من نظامها بعضاً من سلطاتها العامة”. ويرى الدكتور عبد الحميد متولي أن مبدأ الحكم الذاتي يتلخص في “مباشرة جمهور الشعب لسلطته في مختلف الميادين”.
ومما تقدم نستطيع القول أن البحث في تعريف الحكم الذاتي أمر ينطوي على صعوبات بالغة لأن هذا المفهوم يصعب تحديده لاستناده إلى فكرة نسبية تتغير بتغير الزمان والمكان والنظام القانوني الذي يتبناه، لذلك نجد فريقاً من الفقهاء ينظرون إليه ليس باعتباره نظاماً قانونياً أو كياناً سياسياً مستقلاً بذاته، بل باعتباره نظرية أو قاعدة تعبّر عن الفكرة التي تكمن وراء أي نظام لا مركزي يسعى لتحقيق نوع من الاستقلال. وهو بذلك أساس أو عنصر للامركزية أياً كان شكلها ونظامها القانوني باعتباره يفصح عن ميل واتجاه نحو تقليص السلطات المركزية في الدولة وتوسيع السلطات الإقليمية المهتمة بالشؤون المحلية أو الذاتية..
وهو بهذه المرونة وعدم الاستقرار يتميز عن النظم الفيدرالية واللامركزية الإدارية الإقليمية؛ إذ لا يوجد الحكم الذاتي في أشكال قانونية جامدة ولا يأخذ على الإطلاق شكلاً ثابتاً يصلح للتطبيق في أي من الدول على اختلاف ظروفها وأوضاعها، بل تتغير أشكاله بتباين هذه الظروف واختلافها من دولة إلى أخرى.. كما يكون للقواعد القانونية التي تنظم الحكم الذاتي دوراً هاماً في تحديد مساره وإن كان أقرب إلى مصطلح اللامركزية التي تعمل جاهدة إلى رد الاختصاصات إلى الهيئات المحلية التي تمارسها السلطة المركزية، وهو في نفس الوقت، عكس مفهوم المركزية التي تنكر سلطة تلك الهيئات الإقليمية. ولما كانت الظاهرة العامة للنظم اللامركزية أياً كان شكلها، وسواء أكانت لا مركزية سياسية أو لامركزية إدارية ـ إقليمية أو مرفقية ـ تتميز بوجود عنصرين رئيسيين هما الاستقلال الذاتي للهيئات اللامركزية ووجود علاقة قانونية تكفل نوعاً من الرقابة المركزية على هذه الهيئات وأعمالها. وإذا ما أخذنا بنظام الحكم الذاتي الداخلي وجدناه يعني الاعتراف بوجود عنصر آخر وهو الإقليم الذي لا يخضع في حقيقته للمعايير التي تقوم عليها عناصر النظام اللامركزي.. وبهذا يمكن القول أن جوهر الحكم الذاتي يقوم على توافر ثلاثة عناصر هي:
1ـ ضرورة وجود بقعة جغرافية تحدد على أساس قومي تمارس هيئات الحكم الذاتي سلطتها (وظيفة الحكم والإدارة) وتحديد اختصاصات هيئات الحكم الذاتي عليها.
2ـ توافر الاستقلال الذاتي لهيئات الحكم الذاتي وهذا يقتضي تحديد الوسيلة التي تُعتمد في اسناد السلطات المحلية لها إما عن طريق الانتخاب أو التعيين وإن كان الانتخاب هو الضامن لاستقلال هيئات الحكم الذاتي. فإذا كانت الديمقراطية النيابية تقتضي أن يقوم الشعب باختيار نوابه في المجلس التشريعي المركزي فإنها تقتضي بداهةً أن يقوم سكان إقليم الحكم الذاتي أيضاً بانتخاب هيئاتهم الإقليمية لعدم وجود فارق شاسع بين الصورتين. وهذا بخلاف المجالس المحلية في اللامركزية الادارية الإقليمية التي ليس لها سوى اختصاصات إدارية محدودة. وهنا لا بد من الإشارة إلى الاستقلال المالي وذلك على أسس تحدد اشتراك هيئات الحكم الذاتي مع الحكومة المركزية في إدارة وتحديد وتحصيل موارد الضرائب وفقاً للقانون وسلطة فرض رسوم وضرائب إقليمية مع تخويلها حق إصدار تشريعات وأوامر لتحصيل الأموال العامة في حدود الإقليم. ويرى أغلب الفقهاء أن السلطة المركزية تستطيع عن طريق الإعانات المالية أن تتدخل في شؤون الإقليم وتوسع إختصاصاتها على حساب سلطات الإقليم وبالتالي يتقلص الاستقلال الذاتي للإقليم.
3ـ وجود رقابة للسلطة المركزية على هذه الهيئات تحقق المحافظة على وحدة الدولة وإقليمها وحماية المصالح الوطنية العامة.. وهذه الرقابة المركزية تقضي ألا تكون الأعمال القانونية لهيئات الحكم الذاتي مخالفة للقواعد الدستورية والمبادئ العامة. وبناء على ذلك، يكون للسلطة المركزية حق الطعن في التشريعات الإقليمية بطعن سياسي أمام البرلمان المركزي إذا تعلق الأمر بالملائمة؛ أي حالة مخالفة التشريعات الاقليمية للمصالح الوطنية العامة. وقد تكون الرقابة عن طريق التعيين حيث يحق لرئيس السلطة المركزية تعيين وعزل رؤساء الوحدات الادارية في الإقليم أو من خلال الرقابة على الأعمال. وتتمثل في الإقرار أو الإلغاء أو عن طريق الرقابة القضائية ممثلة بالقضاء الإداري وذلك لدفع هيئات الحكم الذاتي إلى احترام مبدأ الشرعية والإلتزام بنصوص الدستور والقوانين المركزية وعدم مخالفتها، وكذلك تحاشي ما يهدد الوحدة القانونية والسياسية للدولة.
ثانياً- النظم المشابهة لنظام الحكم الذاتي الداخلي: (الدولة الفيدرالية)
لم يتفق الفقه العربي على مصطلح موحد يقابل المصطلح الإنكليزي STATE FEDERAL فهناك من يطلق عليها الدولة الاتحادية أو الاتحاد المركزي أو الدولة الفدرالية أو الاتحاد الفيدرالي أو الدولة التعاهدية. وفكرة الفيدرالية باعتبارها أساساً للحكم عن طريق اتحاد عدد من الولايات أو الأقاليم أو الدول تتعايش معاً دون انفصال ودون وحدة، هي فكرة قديمة للغاية تعود إلى العهد الإغريقي غير أن النظام الفيدرالي بشكله القانوني الحالي مفهوم حديث لا يتعدى نظام الحكم الفيدرالي للولايات المتحدة الأمريكية الذي ظهر إلى الوجود عقب مؤتمر فلادليفيا عام 1787 وهي بهذه الصورة يمكن تعريف الدولة الفيدرالية أنها:
“دولة واحدة تتضمن كيانات دستورية متعددة لكل منها نظامها القانوني الخاص واستقلالها الذاتي وتخضع في مجموعها للدستور الفيدرالي باعتباره المنشئ لها والمنظم لبنائها القانوني والسياسي وهي بذلك عبارة عن نظام دستوري وسياسي مركب”.
ومن استعراض الخصائص الأساسية للدولة الفيدرالية يمكن حصرها في ثلاث مظاهر هي:
1ـ مظهر الاتحاد في الدولة الفيدرالية:
إن فكرة الاتحاد تعتبر الأساس الذي ترتكز عليه الدولة الفيدرالية والغاية التي ترمي إليها الولايات أو الدول عندما تأخذ بفكرة الفيدرالية لبناء الدولة الجديدة وتظهر هذه الفكرة بوضوح في كيان النظام الفيدرالي ولاسيما في التنظيم القانوني والسياسي في شكل ـ وحدة الشعب والجيش والإقليم والجنسية ـ وفي طبيعة العلاقة بين الحكومة المركزية وحكومات الولايات الأعضاء، وكذلك في السياسة الخارجية للدولة الفيدرالية. ومن المسلم به أن قيام الهيئات الدستورية للدولة بصورة عامة عملية صعبة ودقيقة. وهذه العملية تتخذ طابعاً خاصاً عند بناء الدولة الفيدرالية وذلك لما لها من طبيعة قانونية متميزة (وحدة الإقليم وثنائية الهيئات العامة)؛ فهي على الصعيد التشريعي تستلزم الأخذ بنظام المجلسين الذي يتلاءم وطبيعة الدولة الفيدرالية، ويطلق على أحد المجلسين اسم المجلس الأعلى ويمثل الولايات الأعضاء.. وتتساوى الولايات غالباً في نسبة التمثيل في هذا المجلس تطبيقاً لمبدأ التمثيل المتساوي الذي يمنع طغيان أحدها على الآخر بسبب التفوق السكاني أو الاقتصادي.
ويطلق على المجلس الآخر المجلس الأدنى، وهو مجلس منتخب عن طريق الاقتراع العام وتوزع مقاعده على أساس عدد السكان لكل ولاية ويمثل الشعب في الدولة الفيدرالية بأكمله. وعلى صعيد السلطة التنفيذية في الدولة الفيدرالية، فهو يختلف باختلاف شكل نظام الحكم ومدى تطبيقه لمبدأ فصل السلطات. ومن المعروف أن الأشكال الرئيسية للحكم في الدول المعاصرة هي النظام الرئاسي ونظام حكومة الجمعية والنظام البرلماني. ومن الثابت أن أعضاء السلطة التنفيذية هم الذين يقومون بالوظيفة الإدارية على نطاق إقليم الدولة الفدرالية وذلك تأكيداً لمظهر الوحدة فيها. ويتم ذلك إما بأسلوب الإدارة المباشرة وإما بأسلوب الإدارة غير المباشرة، والتي تسمى الإدارة الاتحادية الوسطى، وفيها لا تملك الحكومة المركزية إدارات خاصة تابعة لها في الولايات.. ولذلك تقوم بأداء نشاطها الإداري عن طريق الهيئات التنفيذية للولايات وتحت إشراف ورقابة الحكومة الفيدرالية مما يقلل نفقات التنفيذ، أو عبر الأسلوب المختلط. ويتم بموجبه تنفيذ القرارات الفيدرالية من قبل الموظفين الفيدراليين بالاشتراك مع موظفي الولايات ويكون لموظفي الحكومة المركزية تنفيذ المسائل الهامة التي تحتاج إلى سرعة التنفيذ.. وما عداها يوكل أمر تنفيذها إلى الولايات ويلمس مثل هذا التعاون في خدمات بوليس الولايات المتحدة الأمريكية؛ فهناك بوليس فيدرالي لتنفيذ القوانين الفيدرالية، وهناك بوليس تابع للولايات لتنفيذ قوانينها. وعلى الصعيد القضائي نجد أن أغلب الدساتير الفيدرالية تنص على تنظيم القضاء الفيدرالي وتقرر السلطة التشريعية المركزية بقانون فيدرالي شكله ودرجات محاكمه واختصاصاته ويطلق عليه في الغالب المحكمة العليا.. وأما على صعيد العلاقات الدولية مع الدولة الفيدرالية فيلاحظ فناء الشخصية القانونية الدولية للولايات وظهور الدولة الفيدرالية في نطاق القانون الدولي العام بطابع الوحدة والمركزية.
2ـ مظاهر الاستقلال الذاتي في الدولة الفيدرالية:
يتجلى الاستقلال الذاتي للولايات الفيدرالية بوجود هيئات دستورية خاصة بها مستقلة عن الهيئات المركزية بحيث لا تستطيع أن تعينها أو تعزلها أو توجهها ما دامت تباشر اختصاصها وفقاً لهذا الاستقلال وعلى هذا الأساس تتمتع كل ولاية من الولايات الأعضاء باستقلال دستوري وتنظيم ذاتي يتجسد في وجود سلطة تأسيسية تقوم بوضع الدستور الإقليمي باستقلال تام دون حاجة إلى تصديق الحكومة المركزية، وتتمتع الولايات بسلطات مختلفة مثل التشريع والإدارة والقضاء وتباشرها عن طريق هيئاتها الدستورية والتنفيذية والقضائية.
3ـ مظاهر الاشتراك في الدولة الفيدرالية:
يبدو هذا المظهر في قيام كل ولاية بممارسة سلطات الدولة بالاشتراك مع الحكومة المركزية واشتراكهما معاً في تكوين الإدارة العليا للدولة الفيدرالية وذلك عن طريق اسهامها في وضع القوانين والقرارات المركزية بواسطة مجلس الولايات الفيدرالي، وعن طريق مشاركة الولايات الأعضاء في بناء كيان الدولة، وذلك عبر تزويد هيئاتها ومؤسساتها ودوائرها المركزية بالموظفين والعاملين من كل أبناء الولايات ويتم توزيع الاختصاصات في الدولة الفيدرالية عبر إحدى الطرق التالية:
1ـ الاختصاصات المطلقة حيث ينص الدستور الفيدرالي على اختصاصات السلطة الفيدرالية أو اختصاصات حكومات الولايات.
2ـ حصر اختصاصات الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات.
3 ـ الاختصاصات المشتركة حيث تلجأ بعض الدساتير إلى تحديد اختصاصات أحد الطرفين ثم تحدد مجموعة من المسائل يشترك الطرفان في تنظيمها ومباشرتها.
ويلاحظ الفقه أن هناك اتجاهاً في سياسة الدولة الفيدرالية لاسيما في الولايات المتحدة الأمريكية نحو المركزية وتوسيع سلطاتها على حساب استقلال الولايات عبر تبني مبدأ التدخل وإتباع السياسة التركيزية، وذلك بسبب الحروب والأزمات المالية والتطورات الصناعية والنمو الاجتماعي.
ثالثاً- اللامركزية الإدارية الإقليمية:
إن نظام اللامركزية الإدارية الإقليمية هو أحد أساليب التنظيم الإداري ويقصد به تعدد مصادر النشاط الإداري في الدولة على أساس توزيع بعض اختصاصات الوظيفة الإدارية بين الحكومة المركزية وبين الهيئات الإدارية المتعددة، فيكون لكل منها استقلالها في مباشرة اختصاصاتها الإدارية وفي الإطار الذي تحدده السلطة المركزية والذي يعرف باسم الرقابة الوصائية. وتتحدد هذه الاختصاصات إما على أساس جغرافي إقليمي وتسمى الأجهزة التي تباشرها الهيئات الإدارية الإقليمية أو المحلية، وإما على أساس اقتصادي وظيفي ويطلق عليها اسم الهيئات اللامركزية الإدارية المصلحية أو المرفقية. وتقوم اللامركزية الإدارية الإقليمية على أساس وجود نوع معين من المصالح الوطنية يمكن إدارتها محلياً في إقليم معين أو أكثر إلا أن إدارة هذه المصالح وتنفيذها ـ من قبل مواطني الإقليم ـ تتوقف بدورها على الاعتراف للوحدات الإقليمية بالشخصية القانونية لتتوافر لديها القدرة الكافية على تحقيق هذه المصالح.
ومما يلاحظ أن المشرّع لتحقيق هذا الغرض اعتمد على نظرية الشخصية المعنوية التي يوصل عن طريق منحها للوحدات الإقليمية إلى تحقيق الاستقلال الذاتي لها وتتمثل هذه الشخصية في قيام شخص قانوني جديد غير الدولة وإن كان داخلاً في حدودها. وقد درج فقهاء القانون العام على القول بوجود نوعين من المصالح في الدولة؛ قومية عامة وهي التي تهم سكان الدولة في مجموعهم، ومصالح محلية خاصة تهم إقليم أو أكثر، وذلك دون تميز بين متعددة القوميات وبين الدول ذات القومية الواحدة. والغرض من قيام نظام اللامركزية هو أن تتولى سلطات محلية الشؤون الإقليمية التي تشمل إدارة المرافق والمشروعات وتنظيمها في حدود الوحدة الإقليمية، إلا أن هذا الاستقلال ليس تاماً ولا مطلقاً، بل هو مقيّد من جانب بإشراف ورقابة السلطة المركزية، ومن جانب آخر يقتصر اختصاصات السلطات المحلية على جزء من الوظيفة الإدارية ولا تشمل الوظيفة التشريعية. والعنصر الأساسي الذي يميز اللامركزية هو الأخذ بفكرة الإدارة الذاتية، وهذا العنصر لا يتوافر حيث يتحقق الاستقلال تجاه السلطة المركزية التي تمارس رقابتها عليها لضمان صيانة الوحدة السياسية للدولة فضلاً عن التحقق من مشروعية أعمال هذه الهيئات وملاءتها والعمل على وحدة الاتجاه الإداري في الدولة وهذه الرقابة قد تكون إدارية من خلال حق التعيين والحل أو من خلال الرقابة على الأعمال التي تتجلى في صور مختلفة منها الإقرار والإلغاء والرقابة على التنفيذ.
مقارنة بين نظام الحكم الذاتي والأنظمة اللامركزية المشابهة له:
على الرغم من أن أغلب فقهاء القانون العام يميزون بين اللامركزية الإدارية الإقليمية وبين نظام الفيدرالية لكن لا نجد دراسة مقارنة بين نظام الحكم الذاتي الداخلي وبين الفيدرالية، علماً أن المقارنة بينهما لا تقل أهمية عن المقارنة بين اللامركزية الإقليمية والفيدرالية، حيث يتشابه نظام الحكم الذاتي والنظام الفيدرالي، ويتضح في أن كلاً منهما يهدف إلى أن يكون جزءاً من اختصاصات الهيئات الدستورية العليا في الدولة، للهيئات الإقليمية؛ فهما يقومان على أساس عنصرين متناقضين هما (الاستقلال الذاتي) و(الوحدة)، وهذا الترابط بين هذين العنصرين يشكل وحده المفهوم الحقيقي لكلا النظامين؛ فهما نتاج التوفيق بين رغبتين متعارضتين؛ وجود دولة واحدة من ناحية، والمحافظة على الاستقلال الذاتي للإقليم من ناحية أخرى. ولكن الاختلاف بينهما يتجلى من الناحية السياسية، حيث تنشأ الدولة الفيدرالية بإحدى طريقتين؛ التفكك أو بطريق الانضمام.
أما فكرة الحكم الذاتي فليس لها دور في نشوء الدولة إذ يقتصر دورها على منح إقليم معين داخل الدولة استقلالاً ذاتياُ في نطاق الوحدة القانونية والسياسية للدولة فلا يتحول معه شكل الدولة الموحدة البسيطة إلى دولة اتحادية، ثم أن قانون الحكم الذاتي المنظم لها ليس إلا قانونا عاديا ينظم هيئات الحكم الذاتي واختصاصاتها في حدود وحدة الدولة. ومن الناحية التشريعية تتبع الدساتير الفيدرالية نظام المجلسين، أما في نظام الحكم الذاتي، فإن الهيئة التشريعية تتكون من مجلس واحد يمثل سكان الدولة في مجموعها، وطبيعة الرابطة القانونية بين هيئات اللامركزية القائمة على أساس نظام الحكم الذاتي تختلف عن طبيعة رابطة الولايات بالحكومة الفيدرالية، ويتمثل هذا الاختلاف في عدم خضوع الولايات لرقابة السلطة المركزية في الدولة الفيدرالية بنفس القدر الذي تخضع له هيئات الحكم الذاتي؛ فسلطات الرقابة المركزية تستهدف المشروعية في أعمال هذه الهيئات وهو ما لا يوجد في النظام الفيدرالي.
وبمقارنة الحكم الذاتي مع اللامركزية الإقليمية أو المحلية نجد أنهما يؤديان إلى تحقيق نوع من الاستقلال الذاتي للوحدات الإقليمية داخل الدولة الواحدة، لكن الاختلاف بينهما كبير، ويمكن لحظه في النقاط التالية:
1ـ من ناحية الغرض: الحكم الذاتي هو ظاهرة سياسية تلجأ إليه الدول متعددة القوميات لحل مشاكلها الداخلية، أما اللامركزية الإقليمية فالغرض منها تحقيق الديمقراطية في الإدارة أو التخفيف من أعباء السلطة المركزية؛ فهي بالأصل ظاهرة إدارية.
2ـ نطاق الاختصاصات: إن الاختصاصات التي تمارسها هيئات الحكم الذاتي تختلف عن تلك التي تباشرها الهيئات المحلية في نظام اللامركزية الإقليمية؛ فبينما لا تتعدى اختصاصات الأخيرة عن شؤون إدارية بحتة، نجد الأولى تمارس أغلب اختصاصات الدولة حيث يكون لها دستورها الخاص ولديها تشريع مستقل وجهاز تنفيذي وإداري خاص، لذلك فإن الهيئات الدستورية التي تكون في نظام الحكم الذاتي ليست مجرد إدارة محلية.
وفي الختام يتبن لنا أن نظام الحكم الذاتي لا يمثل نظاماً قانونياً صالحاً كأساس في حل المسألة القومية، وقد أثبت عجزه عن الوصول إلى حل ملائم لقضايا الشعوب، أو وضع حد لقضية التناقض بين السلطة المركزية والأقاليم المتميزة في الدولة الواحدة لما يشوبه من ضعف وعدم الوضوح، والأزمات التي واجهته دفعت بالفقهاء والباحثين للإحجام عن دراسته والغوص فيه لعقمه ولغموض مصيره ومستقبله، وكان البديل هو التركيز على اللامركزية الإقليمية المحلية الموسعة التي تعدّ في الوقت نفسه ضماناً لمبدأ المشروعية وسيادة القانون. ورغم شيوع تجربة الحكم الذاتي في تشريعات العديد من الدول التي أسهمت ظروفها التاريخية والاجتماعية في وجود قوميات متباينة، ومحاولتها التخفيف من الصورة الاستعمارية لمفهوم الحكم الذاتي بتصويره فكرة مستمدة من مبدأ حق تقرير المصير القومي وتنظيمها في إطار قانوني لتكون أساساً لحل مسألة القومية ومشكلة التكامل، إلا أن تطبيقاته المعاصرة تثبت عدم نجاحه في تحقيق الغرض المتوخى منه، وهو حل مسألة القوميات وتحقيق الاستقرار السياسي في الدولة.. والدليل على ذلك أن هذا النظام أخذ به في اسبانيا بمقتضى دستور الجمهورية الثانية سنة 1931، وانتهى بسقوط هذه الجمهورية، ولكنه لم يستطع وضع حل حاسم لمسألة الباسك حيث لا يزال الصراع والعنف المسلح دائرين في هذه المقاطعة.. كما لم تثبت صلاحيته في حل المسألة الكردية في العراق أو مسألة جنوب السودان أو مشكلة المسلمين في الفلبين..
اترك تعليقاً