إعادة نشر بواسطة محاماة نت
الجريمة نوع من النشاط البشري يفصله قانون العقوبات من مجموع الأنشطة البشرية لاعتدائه على مصلحة يراها جديرة بالحماية، فيقرر له عقاباً وتلجأ الدولة في سبيل مباشرة سلطتها في العقاب إلى نظرية المسؤولية الجزائية. ومن المتفق عليه أن قانون العقوبات يحدد الأوصاف المادية والإرادية اللازمة للنشاط الإجرامي وللعقاب. ولكن الذي يبدو محلاً للخلاف، موضع هذه الأوصاف من نظرية الجريمة ذاتها أو نظرية المسؤولية عنها. ولا تمثل الأوصاف المادية للجريمة أي خلاف فمكانها ما يسميه الفقه بالركن المادي للجريمة.. ولكن الصعوبة تبدو في تحديد الموضع الصحيح للأوصاف الذهنية المتعلقة بشخص الجاني، وهو ما يسمى بالركن المعنوي، والذي يقوم في جوهره على عنصرين يهتم قانون العقوبات بهما، وهما:
1ـ الحالة الساكنة لشخصية الفاعل عند نشاطه المجرم، أي الحالة العقلية والنفسية من حيث طبيعتها لحظة ارتكابه النشاط, أي مدى تمتعه بالإرادة الحرة المتمثلة في التمييز والاختيار.
2ـ الحالة الحركية النفسية لشخصية الفاعل تجاه عمله، أو بمعنى آخر الصلة النفسية بين الفاعل وعمله من حيث اتجاه إرادته نحو هذا النشاط، أو الكيفية التي اتجهت بها إرادته.
وينتظم الفقه في هذا الخصوص في اتجاهين رئيسين:
يتمثل أولهما في إدخال هذا الجانب الذهني ضمن أركان الجريمة ذاتها بحيث إذا تخلف عنصراه أو أحدهما فقد تخلفت الجريمة ذاتها. ويتمثل ثانيهما في إخراج هذا الجانب الذهني من عناصر الجريمة ووضعه بين أركان المسؤولية فقط، بحيث لا يؤثر تخلفه على قيام الجريمة وإن كان يؤدي إلى انعدام المسؤولية الجزائية عنها.
وفي هذا الصدد، يرى جانب من الفقه السوري أن معنويات الجريمة تتكون من جانبين: الركن المعنوي والمسؤولية الجزائية، ويتفقان في أنهما مرتبطان بالحالة العقلية والنفسية للشخص، ويختلفان في طبيعة كل واحد منهما. فالركن المعنوي؛ نشاط ذهني ونفسي متجه نحو فعل مجرم قانوناً, في حين أن المسؤولية الجزائية، تبعة على الإنسان أن يتحملها فيما إذا ارتكب جريمة يعاقب عليها القانون.
وارتكاب الجريمة مقدمة لا بد منها لتحمل التبعة، أي لتحمل النتائج المترتبة عليها؛ فبدون هذه الجريمة لا محل للقول بوجود المسؤولية الجزائية، والتي يشترط لتحققها الادراك وحرية الاختيار. أما إذا ارتكب الفعل وهو غير مدرك أو غير حر الاختيار، فتمتنع مسؤوليته الجزائية أو “يمتنع عقابه”، حسب تعبير التشريع السوري وموانع المسؤولية أو موانع العقاب التي أخذ بها المشرع السوري لفقدان الادراك أو الأهلية الجزائية، وهي الغلط المادي والقصر والجنون والسكر والتسمم بالمخدرات.
وما يهمنا في هذا الجانب هو تأثير الأمراض النفسية والعقلية على المسؤولية الجزائية حيث يتفق القانون السوري مع أغلب القوانين الوضعية على عدم معاقبة المجنون الذي يرتكب جريمة وهو في حالة انعدام الادراك (م 230 ق .ع)، إلا أن عدم ايقاع العقوبة لا يمنع من وضع المجنون في مأوى احترازي إذا تطلب الأمر ذلك.
ولكن ما هو المقصود بالجنون أو المرض العقلي في القانون؟
الجنون هو حالة عقلية تتصف بفقدان ملكة الادراك، وما يرافقها من اختلال وضعف وزوال القدرة على المحاكمة، وتوجيه الإرادة.. ومن الجنون ما يكون مطبقاً، وهو الجنون الكلي الدائم ومنه ما يكون متقطعاً، وهو الجنون الذي لا يستغرق وقت المجنون كله، بل يظهر في أوقات متقطعة لساعات أو أيام ثم يعود المجنون على أثرها واعياً مدركاً ومالكاً زمام إرادته، ومنه ما يكون جزئياً، أي يصيب جزء من دماغ الإنسان فيفقده جزءاً من ملكاته العقلية.
ويلحق بالجنون الأمراض العقلية والعصبية التي تُفقد المصاب بها الادراك أو القدرة على توجيه الإرادة. ومن هذه الأمراض الصرع والهستيريا واليقظة في النوم وازدواج الشخصية وتسلط الأفكار الخبيثة وغيرها من الأمراض النفسية والعصبية. وهذه الأمراض هي ما تعرف في الفقه القانوني الحديث بالتلقائية.
والعبرة حين القول بانعدام المسؤولية الجزائية ليس بالجنون بحد ذاته، أو المرض الذي يصيب الإنسان في عقله أو جهازه العصبي، وإنما العبرة في الحالة العقلية التي يكون عليها المريض أثناء ارتكاب الجريمة؛ فلا تنعدم مسؤولية الفاعل إلا إذا كان عند اقترافه جريمته في حالة فقدان وعي، وقد استقر الاجتهاد القضائي السوري على أن : “المرض العقلي يثبت بالخبرة وليس بالشهادة”.
وفي اجتهاد آخر تقول محكمة النقض السورية: “إن الأمراض العقلية من الأمراض الخفية التي تحتاج إلى خبرة فنية واسعة ودراية تامة لأن الجنون قد يكون غير مطبق ويظهر صاحبه أمام المحكمة بمظهر السوي”.
وختاماً، فإن التعامل القانوني ما يزال متردداً في القبول بالتلقائية أو الأمراض التي تندرج تحت مظلتها، من اليقظة أثناء النوم والصرع وغيرها الثابت في العلم الطبي، ولذلك نجده يحيل الاعتراف فيها وبأثرها إلى الخبراء، في حين أن الفقه الغربي وتحديداً الأنكلوسكسوني، قد قطع شوطاً واسعاً في هذا المجال. وحبذا لو اهتم المعنيون لدينا في سورية بتسليط الضوء على هذه الأمراض وأثرها على المسؤولية ليكون القضاة والرأي العام أكثر دراية وفهماً بها، وتقبلاً لوجودها في الأحكام القضائية، وعدم استهجانها.. مع الإشارة أنه إذا كانت المسؤولية الجزائية ترتفع عن المصاب بهذه الأمراض، فهو يظل مسؤولاً مدنياً عن فعله غير المشروع، ويكون متولي الرقابة عليه هو المسؤول بالتعويض، عملاً بالمادة 174 من القانون المدني.ش
اترك تعليقاً