المسؤولية عن تهدم البناء في القانون السوري
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
كانت الأضرار الناشئة عن تهدم البناء موضع بحث رجال القانون منذ القديم لأن الأبنية التي عيب بناؤها أو أهمل ترميمها تشكل خطراً على الغير. وقد مرت المسؤولية الناشئة عن تهدم البناء بتطورات مختلفة حتى أضحت على مرّ الزمن نظرية قائمة بذاتها تشغل أحكامها جزءاً هاماً من أحكام المسؤولية المدنية.
فمنذ عهد الرومان, والحوادث الناشئة عن تهدم البناء تحتل حيزاً هاماً من اهتمام رجال الفكر القانوني, لأن تهدم البناء لا يصيب مالكه بالخسارة فحسب، بل يتعداه إلى الغير, فيعرّض الجيران والمارة لأضرار التهدم وما ينتج من أخطار. لذلك سارع رجال القضاء الروماني إلى دراسة ما ينشأ عن سقوط البناء من أضرار. وكان المالك في ذلك العهد يترك أنقاض مبناه المتهدم للمجني عليه، وللمجني عليه أن ينذر صاحب البناء، بأن يصلح ما قد يكون مصدر ضرر له، أو أن يضع يده على المبنى ويقوم بترميمه إذا لم يقم صاحب البناء بذلك.
ولقد أهتم رجال القانون الفرنسي بحوادث سقوط الأبنية وتهدمها وعالج الفقيه دوما والفقيه بورجون المسؤولية الناشئة عن تهدم المباني وعملا على مواجهة الأضرار بإرغام المالك على دفع التعويض اللازم لمن تضرر من تساقط الأبنية وأصابه أذاه. وقد أفرد دوما في كتابه (القوانين المدنية) جزءاً خاصاً للأضرار التي تحدث نتيجة تهدم البناء، وأوجب مساءلة المرء عن الأضرار التي يسببها سقوط بنائه.
وقد اقتبس المشرّع الفرنسي في المادة 1386 من القانون المدني ما كان ينادي به دوما وبورجون بوجوب الاهتمام بمقاومة الأضرار الناشئة عن تهدم البناء. وكانا ينسبان النتائج الضارة التي تترتب على تهدم البناء إلى مالكه سواء أكان التهدم لنقص في الصيانة أو لعيب في البناء.
فالمالك بحسب القانون “مسؤول عن الضرر الذي يسببه انهدام البناء إذا كان نتيجة إهمال في صيانته أو عيب في بنائه”. والنص كما نرى يشدد المسؤولية على مالك البناء أكثر مما هو في القواعد العامة؛ فالمسؤولية مفترضة في جانب المالك كما يقول الفقهاء الفرنسيون متى أثبت المضرور أن ما أصابه من ضرر قد نشأ عن تهدم البناء؛ فالمصاب لا يعفى في الحقيقة من الإثبات كلية، إلا أنه يجد نفسه في موقف أفضل مما لو سيلجأ إلى المادة 1382 مدني فرنسي (والمقابلة للمادة164مدني سوري)، والتي تستلزم إثبات الخطأ الشخصي للمدعى عليه لتقوم المسؤولية.
غير أننا نرى, أن إثبات المضرور أن التهدم كان نتيجة عدم صيانة أو نتيجة عيب فيه لا يقل صعوبة عن إلزامه بإثبات الخطأ الشخصي في جانب مالك البناء. فإثبات العيب أو عدم الصيانة مسألة فنية يصعب على الإنسان العادي إثباتها. وخلاصة القول هنا أن القانون الفرنسي اتخذ من الإهمال في الصيانة أو العيب في البناء قرينة قانونية أقام مسؤولية المالك على أساسها.
أما القانون السوري فقد نص في المادة 178 من القانون المدني على أنه:
“1ـ حارس البناء ولو لم يكن مالكاً له, مسؤول عما يحدثه انهدام البناء من ضرر ولو كان انهداماً جزئياً ما لم يثبت أن الحادث لا يرجع سببه إلى إهمال في الصيانة أو قِدم في البناء أو عيب فيه.
2ـ ويجوز لمن كان مهدداً بضرر يصيبه من البناء أن يطال المالك باتخاذ ما يلزم من التدابير الضرورية لدرء الخطر, فإن لم يقم المالك بذلك جاز الحصول على إذن المحكمة في اتخاذ هذه التدابير على حسابه”.
ومن قراءة النص نجد أن المشرّع السوري تأثر بما أخذ به المشرع الفرنسي من جهة، وجعل المسؤولية محصورة في مالك البناء دون غيره من الناس، من جهة أخرى.
الشروط الواجبة توافرها لتحقق المسؤولية عن تهدم البناء:
طبقاً للفقرة الأولى من المادة 178مدني سوري لا تتحقق المسؤولية إلا إذا توافرت الشروط التالية:
الشرط الأول – حراسة البناء:
فالمشرّع السوري ألقى عبء المسؤولية عن تهدم البناء على كاهل الحارس وقت تهدم البناء دون مالكه، والحارس هو من كانت له السيطرة الفعلية على البناء، فيكون على هذا الأساس مكلفاً بحفظه وصيانته والتأكد من أنه ليس معيباً ولا قديماً قدماً يشكل خطراً على الغير. كما يكون المتصرف في شؤونه لحساب نفسه لا لحساب غيره، سواء ثبتت هذه السيطرة الفعلية بصورة شرعية أو غير شرعية وبحق أو بدون حق؛ فحارس البناء ليس بالضرورة هو المالك أو الحائز أو المنتفع, بل هو الذي له السيطرة الفعلية على البناء عند تهدمه.
والأصل أن المالك هو حارس البناء ما لم يثبت أن البناء لم يكن في حراسته عند وقوع الضرر. فإذا ما بيع البناء فحراسته لمالكه إلى أن يتم تسليمه، ويعتبر المشتري حارساً اعتباراً من تسلمه البناء سواء قبل تسجيل المبيع أم بعده. وتنتقل الحراسة للمنتفع فيكون مسؤولاً عما يحدثه تهدم البناء ولو كان المضرور هو المالك، والحال ذاته إذا كان الحارس هو الدائن المرتهن. أما المستأجر والمستعير فلا يعتبران حارسين, ولا يسألان عن تهدم البناء ولو أن المالك اشترط عليهما القيام بأعمال الترميم والصيانة، ذلك لأن السيطرة الفعلية على البناء تكون لمالكه دونهما مع حقه في الرجوع عليهما لإهمالهما العين المؤجرة أو المعارة.
أما إذا أقام المستأجر بناء على الأرض التي أستأجرها فإنه يعتبر حارساً له إلى أن تنتهي مدة الإيجار وتعود ملكية هذا البناء إلى مالكه وفقاً للاتفاق أو لقواعد الالتصاق. وإذا تعدد المالكون فهم جميعاً مسؤولون بالتضامن عما يحدثه تهدمه إذا لم تثبت أن حراسة البناء كانت لأحدهم دون الآخرين. أما إذا انفصلت ملكية الأرض التي شيّد البناء عليها عن ملكية البناء، كأن يكون البناء مملوكاً لصاحب القرار أو الدولة، فإن مالك البناء يعتبر حارسه، ولا يعتبر “غير المميز” حارساً فلا تجوز مساءلته عن الأضرار التي تحدث من تهدم البناء فالخطأ لا ينسب إلى غير المميز.
الشرط الثاني – أن يكون التهدم كلياً أو جزئياً:
إن البناء هو مجموعة من المواد شيدتها يد الإنسان وجعلتها وحدة متماسكة متصلة بالأرض اتصال قرار. فإذا تفككت هذه الأجزاء عن بعضها وانفصلت عن الأرض التي تتصل بها يكون البناء هنا قد دخل في مفهوم التهدم، ولا فرق بين أن يكون التهدم كلياً أو جزئياً. فيعتبر تهدماً لو سقط جدار أو سقط سقف أو انهارت شرفة أو تحطم سلم، ويستوي أن يكون البناء جديداً أو قديماً فيه عيب في التشييد أو خالياً من ذلك. والمرء ملزم أن يتعهد البناء الذي يملكه أو يقع تحت حراسته، فإن تراخى في ترميمه وأهمل إصلاحه فتهدم البناء كله أو بعضه وأصاب الغير بالضرر, كان مسؤولاً وعليه أن يعوّض المضرور عما لحقه من ضرر.
ومن اشترى بناء عليه أن يتحقق من صلاحيته وخلوه من العيب الذي يشكل خطراً على الغير وأن يسارع إلى إصلاحه وترميمه ليدرأ الخطر عن نفسه وعن غيره، فإن أهمل ما وجب عليه وحدث ضرر للغير، كان مسؤولاً عن إهماله وتقصيره ويلزمه تعويض المضرور.
الشرط الثالث – أن يكون التهدم ناشئاً عن إهمال في صيانة البناء أو قدماً فيه:
تشترط المادة 178 مدني سوري لتحقق المسؤولية عن تهدم البناء أن يكون سبب التهدم راجعاً لإهمال في صيانة البناء أو لقدم فيه. فمتى وقع التهدم وأحدث ضرراً كان الخطأ مفترضاً في جانب الحارس وبالتالي فالمشرّع يكون قد نقل عبء الاثبات ووضعه على عاتق المدعى عليه، بعكس المشرع الفرنسي الذي حمل المضرور عبء إثبات الإهمال أو القدم في البناء. وعلى الحارس بموجب القانون السوري لنفي المسؤولية عن نفسه أن يقيم الدليل على أن البناء لا يحتاج لصيانة أو إصلاح أو تجديد، فإن استطاع ذلك, انتفت المسؤولية، وإن فشلَ, قامت مسؤوليته ولا يجديه في دفعها إلا إثبات السبب الأجنبي أي نفي العلاقة السببية بين خطئه المفترض والضرر الذي أصاب الغير.
وإذا كانت المادة 178 مدني قد اشترطت وقوع التهدم فعلاً فأنها قررت قاعدة خاصة تتعلق بالتدابير الوقائية لدرء الخطر، فأجازت لمن كان مهدداً بخطر تهدم بناء، أن يتخذ ما يلزم من الإجراءات لمنع هذا التهدم بدعوة المالك للقيام بأعمال الترميم والصيانة, فإذا تراخى في ذلك، جاز للمهدد بالضرر أن يستأذن المحكمة باتخاذ هذه التدابير على حساب المسؤول. وهذا الحكم كما يتضح لنا، حكم وقائي أراد به المشرّع مواجهة وضع يكون البناء فيه مهدداً بالتهدم، وتوجه هذه المطالبة إلى المالك لأن الأصل هو الذي يسعى على سلامة ملكه وعليه أن يتحمل نفقات ذلك.
واليوم وفي ظل هذه الظروف الراهنة، نعتقد أنه يقع على عاتق البلديات والدوائر الفنية المختصة في المحافظات تفعيل هذه المادة وتعزيز ثقافة المسؤولية الخاصة بصيانة المباني والاعتناء بها حفاظاً على أرواح المواطنين وأموالهم.
اترك تعليقاً