قانون التحكيم الجديد.. خطوة للأمام وإعادة نظر
د. منال السيد
يعتبر التحكيم وسيلة بديلة عن القضاء لتسوية المنازعات، وبموجبه يبرم طرفان أو أكثر اتفاقًا على تسوية منازعاتهم الحالية أو التي قد تقوم في المستقبل عن طريق شخص ثالث غير القضاء الوطني في الدولة، ويكون حكم المحكم الذي يلجأ له الأطراف ملزمًا. وفكرة التحكيم ليست فكرة حديثة وليدة الدول الغربية كما يعتقد البعض بل أن التحكيم ظهر في عصور ما قبل الإسلام وحث عليه الاسلام وورد في القرآن الكريم. وفي العصر الحديث ينتشر التحكيم بشكل واسع في المجال التجاري بشكل عام والتجاري الدولي بشكل خاص، غير أن ذلك لا يمنع إبرام اتفاق تحكيم في غير المسائل التجارية.
ويلاحظ بأن إبرام الأطراف لاتفاق التحكيم يؤدي لنتيجة جدًا مهمة وهي التنازل عن حق اللجوء لقضاء الدولة، فإذا نشأ نزاع يتعلق باتفق تحكيم فإنه لا يجوز لأي الطرفين اللجوء للقضاء لتسويته.
إن السبب الذي يدعو الأطراف للتنازل عن حقهم الجوهري في اللجوء للقضاء هو مميزات التحكيم وأهمها السرعة والتحرر من قواعد الإجراءات في القضاء، وحرية الأطراف في اختيار المحكم الذي يفصل في النزاع بحيث يكون مختصًا في طبيعة النزاع كما ويمكنهم اختيار شخص محايد من دولة أخرى خاصة في حالة النزاع بين طرفين من جنسيتين مختلفتين أو بين تاجر ودولة أجنبية، كما ويتميز التحكيم بالسرية بعكس القضاء الذي من أهم خصائصه علانية المحاكمة.
ولطالما عنت مملكة البحرين بالتحكيم بوضع قواعد تعترف بنفاذ اتفاق التحكيم ووجوب تنفيذ قراراته، إلى جانب انضمامها للاتفاقيات الدولية ذات الصلة مثل اتفاقية نيويورك للاعتراف بقرارات التحكيم الأجنبية. كما سعت لأن تكون مركزًا مهمًا للتحكيم من خلال تأسيس غرفة البحرين لتسوية المنازعات بموجب المرسوم بقانون رقم (30) لسنة 2009، ومن ثم تبنى قواعد القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي الصادر عن الأمم المتحدة بموجب القانون رقم (9) لسنة 2015.
ويعد تبني البحرين للقانون النموذجي خطوة إضافية للأمام تحسب للمملكة، حيث أن التحكيم يشتمل على مجموعة من المبادئ الراسخة دوليًا، ومن أهم أسس نجاح قانون معين للتحكيم هو أن ينسجم مع هذه المبادئ والتي نظم القانون النموذجي جزءًا كبيرًا منها. وحتى اليوم تبنت 75 دولة نصوص القانون النموذجي منها بريطانيا وأمريكا وكندا واليابان وتونس ومصر. بالرغم من ذلك يبدو أن تبني القانون النموجي التابع للأمم المتحدة لم يخضع للتمحيص الكافي مما جعله ينطوي على عيوب تشريعية لا يمكن إغفالها
وضحنا في المقال السابق مفهوم التحكيم، وأن ما قام به المشرع البحريني في عام 2015 من تبني للقانون النموذجي للتحكيم الصادر عن الامم المتحدة يعتبر خطوة محل إشادة، غير أن هناك بعض العيوب الجوهرية لابست القانون مما يدعو معه لاعادة النظر فيه شكلاً وموضوعًا.
من ناحية الشكل، يبدو أن القانون المذكور وُضع وضعًا دون مراجعة كافية، بحيث تم نسخه ولصقه كما هو في الجريدة الرسمية البحرينية، فتم لصق أجزاء لا تمت للقانون البحريني بصلة، مثل تعريف لجنة الأمم المتحدة، وهذا منبت الصلة تمامًا بالقانون البحريني. كما أن هناك مجموعة من القرارات والتوصيات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة لا علاقة لها بالقانون وردت في قانون التحكيم أيضًا كما هي، بالإضافة لعناوين الأمم المتحدة بما في ذلك أرقام الهاتف والفاكس والبريد الإلكتروني فجميعها وردت في القانون البحريني ونُشرت بالجريدة الرسمية. لذا، يمكن القول بأن إصدار قانون التحكيم رقم 9 لسنة 2015 تم بواسطة نسخ ولصق.
من ناحية الموضوع، بينّا في المقال السابق بأن التحكيم هو عبارة عن اتفاق بين طرفين أو أكثر لتسوية نزاع معين خارج أروقة قضاء الدولة، وإن إبرام اتفاق التحكيم يعني تنازل الأطراف عن حقهم في اللجوء للقضاء، وهذا مبدأ تعترف به جميع الدول. لذا ونظراً لهذه النتيجة الحساسة، تنص قوانين التحكيم في جميع الدول على وجود مسائل معينة لا يجوز أن يتفق الأطراف على تسويتها عن طريق التحكيم (مثل الجرائم والزواج والجنسية) وإلا كان اتفاق التحكيم باطلاً. والحكمة من وضع هذا القيد هو طبيعة هذه المسائل التي تمس كيان الدولة الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي، فيتوجب أن ينفرد قضاء الدولة بالنظر فيها والرقابة والإشراف عليها.
وتفهمًا من قانون الأمم المتحدة (والذي نسخه القانون البحريني نسخاً)، تنص إحدى مواده على أنه يجوز إلغاء قرار التحكيم أو رفض تنفيذه «إذا ما كان موضوع النزاع لا يقبل التسوية بالتحكيم وفقاً لقانون هذه الدولة». والهدف من هذا النص هو أن تحدد كل دولة في قانونها المسائل التي ترى وفقاً لسياستها بأنها لا يجوز التحكيم فيها. إلا أن قانون التحكيم البحريني، ولأنه جاء على هيئة نسخ ولصق كامل، نقل هذه العبارة دون تحديد المسائل التي لا يجوز التحكيم فيها، بعكس القانون السابق الملغي الذي كان يمنع التحكيم في المسائل المتعلقة بالنظام العام والحالة الشخصية. وإغفال هذا النص يعد فراغ تشريعي كبير وينطوي على آثار قانونية جسيمة، فهذا يعني جواز التحكيم في جميع المسائل، كمدى توافر أركان الجريمة أو تحقق الزواج أو وقوع الطلاق أو اكتساب الأهلية أو الجنسية. وهي مسائل لا يصح أن تنظرها أي جهة أخرى غير قضاء الدولة.
هذا بالإضافة للعيب في ذات النص حيث نسخ القانون العبارة الصادرة عن الأمم المتحدة: إذا ما كان موضوع النزاع لا يقبل التسوية بالتحكيم وفقاً لقانون «هذه الدولة» فما هي هذه الدولة التي وردت بالعبارة؟ كان الحري أن تكون «وفقاً للقانون البحريني». ويتنوع هذا الاغفال في العديد من نصوص القانون وذلك بسبب عملية النسخ واللصق التي تمت كما أسلفنا.
أغفل القانون عدة مسائل موضوعية أخرى كالأهلية الواجب توافرها في أطراف التحكيم والتي تعد أحد أسباب البطلان وفقاً لنصوص القانون نفسه، وشروط المحكم وتحديد المحكمة المختصة في العديد من المسائل.
لذا، ندعو لإعادة صياغة القانون بنصوص واضحة من خلال الاهتداء والاستفادة والاستئناس بالقانون النموذجي وهو السبب الذي وضع من أجله، عوضاً عن عملية النسخ واللصق التي تمت.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً