التدخل الإنساني ومشكلة السيادة
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
التدخل الإنساني” أو التدخل لأغراض إنسانية” هو مفهوم قديم حديث في آن واحد. وإذا كان ليس هنا مقام التفصيل في كيفية نشأة هذا المبدأ وتطوره في العصر الحديث، إلا أنه قد يكون من المهم الإشارة إلى حقيقة أن هذا المبدأ ظهر بالأساس في إطار ما عرف بحماية حقوق الأقليات وبعض الجماعات العرقية الأخرى، وكان ذلك بالتقريب في منتصف القرن التاسع عشر. وقد تم النظر إلى مبدأ التدخل الإنساني في ذلك الوقت باعتباره إحدى الضمانات الأساسية التي ينبغي اللجوء إليها لكفالة الاحترام الواجب لحقوق الأفراد الذين ينتمون إلى دولة معينة ويعيشون على أرض إقليم دولة أخرى.
أما الآن، وبالتحديد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وقيام منظمة الأمم المتحدة، فقد أضحت المسألة الخاصة بالحماية الدولية لحقوق الإنسان بصرف النظر عن الانتماءات الوطنية أو العرقية أو الدينية أو السياسية أو غيرها تمثل أحد المبادئ الأساسية للتنظيم الدولي المعاصر. والحق، أنه إذا كانت الضمانات الدولية لحقوق الإنسان التي قررتها المواثيق والاتفاقيات الدولية ذات الصلة ـ ومنها الضمانة المتمثلة في إمكان تدخل المجتمع الدولي لكفالة الاحترام الواجب لهذه الحقوق ـ ظلت كمبدأ عام بعيدة عن مجال التطبيق الفعلي خلال العقود الأربعة الأولى من حياة الأمم المتحدة، خلا أنها ضمانة متعلقة “بإمكانية التدخل الإنساني“، فإنها أضحت مؤخراً على قائمة الإجراءات التي يتم اللجوء إليها لفرض مثل هذا الاحترام.
ولعل من أصعب المهمات التي اعترضت الفقه في القانون الدولي وضع تعريف دقيق لما يعبّر عنه بالتدخل على المستوى الدولي. فهناك من عرّفه بأنه “تدخل دكتاتوري من طرف دولة في شؤون دولة أخرى قصد المحافظة على الوضعية الحالية أو تغييرها بهدف المساس بسلامة التراب الوطني والاستقلال السياسي لهذه الدولة”.
ويحظر القانون الدولي تدخل أية دولة في الشؤون الداخلية لدولة أخرى، إذ أنّ كل دولة حرة في اختيار وتطوير نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، دونما تدخل من جهة أخرى. غير أن سيادة الدولة مقيدة بأحكام القانون الدولي وخاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان وارتكاب جرائم الحرب وجرائم إبادة الجنس البشري. فالدولة ليست مطلقة التصرف في ميدان العلاقات الدولية، إذ هي تخضع للقانون الدولي، الذي هو مفروض على الدول بناء على اعتبارات تعلو على إرادتها، والذي يورد قيودا على تصرفات الدول، ويحكم علاقاتها مع بعضها البعض ومع الهيئات الدولية.
ولأجل هذا أصدرت الجمعية العامة في سنة 1988 القرار 131/43 المتعلق “بالمساعدة الإنسانية لضحايا الكوارث الطبيعية والحالات الاستعجالية المشابهة”. واعتبرت الأمم المتحدة ضمن هذا القرار “أن بقاء الضحايا بدون مساعدة يمثل تهديداً لحياة الإنسان ومساساً بالكرامة الإنسانية”. ومن ثم فإن الاستعجال يحتم سرعة التدخل مما يجعل حرية الوصول إلى الضحايا شرطاً أساسياً في تنظيم عمليات الإسعاف. وهذا يقتضي أن الوصول إلى الضحايا لا ينبغي أن تعرقله لا الدولة المعنية ولا الدول المجاورة، إلا أن القرار أكد على السيادة والوحدة الترابية والوحدة الوطنية للدول. كما اعترف بأنه يقع على عاتق الدول أن تعتني بضحايا الحوادث الطبيعية والحالات المشابهة التي تقع فوق إقليمها. وهو ما لم يُحترم ـ على سبيل المثال ـ في قرار ايصال المساعدات إلى المناطق السورية، ومع اللاجئين السوريين، وبالتأكيد فإن التدخل الإنساني لا يؤثر بشكل كبير على السيادة عندما يقتصر على التزويد بالمواد الغذائية والطبية أو حتى إيفاد بعض المدنيين لمعالجة أوضاع الكوارث المستعصية، إلا أن الأمر يختلف عندما يتعلق بتدخل قوة مسلحة لمنع بعض خروق حقوق الإنسان وهو ما كان ينادي به وزبر خارجية فرنسا السابق برنار كوشنير والرئيس التركي أردوغان.. فالوضع اليوم في سورية، يذكرنا بالحرب على كوسوفو التي شكّلت مرحلة جديدة في تاريخ العلاقات الدولية، أدت إلى إعادة تشكيل النظام الدولي، أو الدخول على العكس من ذلك في مرحلة جديدة من الفوضى في العلاقات الدولية.
وتذرّع قادة حلف شمال الأطلسي بأن حرب كوسوفو هي حرب أخلاقية لأن الهدف منها هو القضاء على سياسة التطهير العرقي في كوسوفو بهزيمة الرئيس الصربي، ولأنه يتعين منع الحكام الدكتاتوريين من ارتكاب الأعمال الوحشية حتى يستمروا في السلطة، فهذه الحرب حسب تعبير “طوني بلير” ليست حرباً من أجل الأرض، وإنما هي حرب من أجل القيم.
لكن الحرب الأخلاقية مفهوم نسبي ينطوي على ازدواجية المعايير؛ فالحلف الأطلسي والولايات المتحدة الأمريكية لم يفكران بالتدخل في بلدان أخرى رغم وجود اعتبارات مماثلة؛ إبادة الجنس البشري بأبشع الصور في رواندا وسيراليون وليبيريا وأنغولا والكونغو، وهما لم تكترثا لما حلّ ويحلّ ببعض الشعوب من تدمير وتشتيت كالشعب الفلسطيني المحتل.
غير أن حرب كوسوفو وإن تم تبريرها بوقف انتهاكات النظام الصربي لحقوق الإنسان في كوسوفو، فإن الهدف الحقيقي منها هو تثبيت أوضاع معينة وفرض ترتيبات محددة في إطار تكريس التفوق الغربي الشامل بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وباتجاه بلورة دور جديد لحلف شمال الأطلسي يجعل منه مؤسسة عالمية. ولقد تصاعدت وتيرة المناداة بإعادة تقويم التدخل العسكري خاصة بعد تدخل الحلف الأطلسي في كوسوفو دون موافقة مجلس الأمن. فعُقدت مؤتمرات ودراسات عديدة حول الأمر بما في ذلك قيام مكتب الأمين العام للأمم المتحدة عام 2000 بإجراء مشاورات موسعة حول وضع أسس سليمة للتدخل العسكري بواسطة الأمم المتحدة، ومطالبة كوفي عنان المجتمع الدولي للتوافق من جديد على تعريف التدخل الإنساني وتحت مسؤولية أي جهة والكيفية التي يتم بها ذلك.
وبمبادرة من الحكومة الكندية تم تكوين “اللجنة الدولية حول التدخل والسيادة الوطنية (ICISS) المكونة من شخصيات دولية من مختلف أنحاء العالم. وقد قدمت اللجنة تقريرها ونشرته في كانون الأول 2001 ورحب به الأمين العام للأمم المتحدة كوثيقة هامة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار. ويشير التقرير إلى أن الاعتبار الأساسي ينبغي أن يكون مسؤولية “توفير الحماية” وليس حق التدخل ويضع القرار في إطار حاجات وحقوق المواطنين بدلاً من مصالح أو خلافات الدول. وتشمل مسؤولية توفير الحماية ليس فقط التدخل إن دعا الحال، بل “منع” الانتهاكات من الوقوع ومسؤولية “إعادة البناء”. وتخلص اللجنة إلى أن التدخل العسكري ينبغي أن يكون إجراءً استثنائياً يتم اللجوء إليه فقط في الانتهاكات الجسيمة التي تتسبب في وقوع أذى بالغ الخطورة أو ترجح وقوعه، كالقتل الجماعي بنيّة الإبادة أو نتيجة فعل الدولة أو عجزها أو إهمالها أو التطهير العرقي واسع النطاق، سواء عن طريق القتل أو الترحيل القسري أو الإرهاب أو الاغتصاب.
وبناء على ما تقدّم، فإن التهديدات الأمريكية والأوربية والتلويح بعاصفة الحزم على سورية بذريعة التدخل الإنساني، تعيد ذات التساؤلات التي ثارت بعد أحداث 11 أيلول 2001 حول مسألة التدخل بدعوى مكافحة الإرهاب إثر الهجوم على الولايات المتحدة الأمريكية؛ ففي ذلك اليوم اعتبرت أمريكا نفسها في حالة حرب بسبب الاعتداء الذي وقع عليها، وأنها ستقوم بالرد دفاعاً عن نفسها. غير أن أحد فقهاء القانون الدولي، وهو في ذات الوقت عضو ورئيس سابق للجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة، سارع إلى القول بعد أيام معدودة على وقوع هجمات 11 أيلول2001 بأن الأمر لا يتعلق بالحرب، ولكن الولايات المتحدة اعتبرت إن هذه الهجمات تشكل بدون شك تهديداً للسلم والأمن الدوليين، وتبنّى مجلس الأمن في قراراته اللاحقة هذه الرؤية. وتصنيف الإرهاب في خانة تهديد السلم والأمن الدوليين، وإبداء المجلس استعداده لاتخاذ كافة الترتيبات للرد على أحداث 11 أيلول ومحاربة الإرهاب، إلا أن المجلس نفسه لم يقم بمباشرة إجراء محدد بموجب الفصل السابع، ويقتضي ذلك بالضرورة تحديد الجهة- الدولة – التي ينبغي أن توجه ضدها إجراءات القمع، الأمر الذي لم يكن متاحاً بالنسبة لمجلس الأمن، وإن كان تنظيم القاعدة هو الجهة التي وجهت إليها أصابع الاتهام، إذ لم يثبت أن حكومة طالبان وأفغانستان- الدولة – هي الجهة التي تقف وراء العدوان.
غير أن تأكيد القرارات الدولية بخصوص مكافحة الارهاب على حق الدول في إطار ممارسة حق الدفاع عن النفس ربما ترك الباب مفتوحاً لتبرير ما أعلنته الولايات المتحدة عن الحرب على الإرهاب بالأسلوب الذي ارتأته، على الرغم من نص القرار على مبدأ ممارسة حق الدفاع عن النفس ينبغي أن يكون بموجب الميثاق. غير أن العمليات العسكرية للولايات المتحدة المنفردة أو بالاشتراك مع القوت المسلحة التابعة للدول الأخرى في التحالف العسكري ضد الإرهاب، لم تخضع لأي تحديد زمني أو لأي رقابة من قبل مجلس الأمن، وهما شرطان جوهريان من شروط الدفاع الشرعي بحسب مقتضيات ميثاق الأمم المتحدة.
والحقيقة فإن الحرب على سورية هي حرب أمريكية صهيونية الأهداف والمصالح، وتكاد تكون حرباً صليبية جديدة بالمفهوم التاريخي للحرب، وهي مخالفة للقانون الدولي لأنها تستند إلى تبريرات تهدف إلى هدم المكاسب التي حققها القانون الدولي منذ إنشاء الأمم المتحدة، وهي مكاسب توصف بأنها مبادئ قانونية عالمية؛ كالمبادئ المتعلقة بتحريم استخدام القوة واحترام السيادة والاستقلال السياسي والسلامة الإقليمية للدول ومبدأ عدم التدخل.
ولقد تم إضفاء صفات الحرب العالمية على الحرب الجديدة ضد سورية بذريعة مواجهة القاعدة وتفرعاتها. وحسب تعبير وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد السابق، لن تنتهي هذه الحرب باحتلال منطقة أو بانهزام قوة عسكرية معادية، لأنها تتطلب عملية ضبط سياسي وأمني واستخباري على المدى الطويل وتحقيق الشفافية في الأنشطة السياسية والاقتصادية والمالية لجميع الدول.. وهو ما يعني تجاوزاً لجميع المكتسبات التي حققها مبدأ السيادة القانونية للدول وخاصة المستضعفة منها، على امتداد قرون عديدة بوصفه ركناً جوهرياً في القانون الدولي.
إن الحرب على سورية والتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الامريكية لمكافحة الإرهاب فيها سابقة خطيرة في العلاقات الدولية من حيث أنها تعطي الولايات المتحدة وحلفائها فرصة ابتداع شرعية دولية جديدة موازية وبديلة عن شرعية الأمم المتحدة. فهذه الشرعية الجديدة المزعومة ستفتح الباب على مصراعيه أمام أي تدخل بدعوى الدفاع عن المبادئ أو المحافظة على المصالح تحت ذريعة محاربة الارهاب، وتبرر التواجد الدائم في منطقة مصالح حيوية واستراتيجية بالنسبة لأية مواجهة محتملة مع القوى الكبرى الأخرى كروسيا والصين أو مع القوى الإقليمية المجاورة كإيران. وهي بالإضافة إلى ذلك مقاربة تنطوي على صياغة جديدة لمبدأ التدخل الذي تتحصن وراءه الدول الصغيرة لحماية سيادتها الوطنية واستقلالها، بحيث يتم إضفاء المشروعية على التدخل الجماعي من خلال استثناء الحرب على الإرهاب من قاعدة تحريم استخدام القوة، ومن الخضوع للقيود والضوابط التي يفرضها القانون الدولي وذلك بدعوى ممارسة الحق في الدفاع الشرعي بصورة جماعية.
اترك تعليقاً