الاشتراك في مشاجرة
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
المشاجرات هي اشتباكات جماعية يتبادل فيها عدد من الأشخاص الضرب والجرح وأفعال الإيذاء الأخرى، وهي خطرة على النظام والأمن، لأن الجماعة عادة أشد ميلاً إلى العنف من الأفراد الذين تتألف منهم لو أنهم مستقلون منعزلون، ولو لم ينضم بعضهم إلى بعض. وفي المشاجرات كما هو الحال في جميع جرائم الجماعات يصعب تحديد مسؤولية كل من ساهم فيها. كما يتعذر إسناد النتائج الضارة إلى من أحدثها فعلاً. لذلك جنحت بعض التشريعات الجزائية إلى تجريم فعل المشاركة في المشاجرة ومعاقبة من يثبت اشتراكه فيها ولو لم ينجم عنها قتل شخص أو إيذائه، بل لو لم ينجم عنها أية إصابة ضارة. والسبب في ذلك أن المشاجرة في حد ذاتها تعرض حياة الأشخاص وصحتهم وسلامتهم الجسدية للخطر؛ فهي جريمة إيذاء إذا أفضت إلى أية نتيجة جرمية ضارة من قتل أو جرح أو سواهما وهي جريمة تعريض للخطر إذا وقعت ولم ينجم عنها أية نتيجة جرمية ضارة.
بيد أن قانون العقوبات السوري لم يذهب هذا المذهب وإنما أورد نصّاً في المادة 546 ليحل به مشكلة صعوبة الإثبات في المشاجرات التي ينجم عنها قتل أو إيذاء. وإذا حصل إزهاق روح أو إصابة ما في إحدى المشاجرات فكيف يمكن للقاضي أن يفصل في الدعوى العامة وأن يحدد مسؤولية كل من اشترك فيها من المتشاجرين إذا لم يتبيّن له على وجه اليقين الشخص الذي أفضى فعله إلى هذه النتيجة الجرمية الحاصلة؟
إن تطبيق الأحكام العامة قد يؤدي في مثل هذه الحالة ـ إذا بقي الفاعل غير معروف ـ إلى ضياع المسؤولية، بل إلى ضياع الجريمة وبراءة سائر المتشاجرين لتعذر إثبات فاعل الجريمة، لعدم قيام الدليل، وربما أفضى إلى الحكم على كل من اشترك في المشاجرة بعقوبة جنحة الإيذاء البسيط فقط وهو القدر المتيقن في حق كل من المتشاجرين جميعاً.
وحيال هذه الصعوبات كلها وجد الشارع نفسه مضطراً إلى إحداث جريمة مستقلة قائمة بذاتها وهي “جريمة الاشتراك في مشاجرة أفضت إلى قتل أحد المتشاجرين أو إيذائه دون أن يعرف الفاعل”؛ فمجرد الاشتراك في مشاجرة من هذا القبيل يعتبره القانون جريمة قائمة بذاتها يعاقب عليها بنصف العقوبة المقررة لجريمة القتل أو الإيذاء. أما إذا لم تفض المشاجرة إلى أية نتيجة جرمية من قتل أو إيذاء, فلا مجال لتطبيق أحكام المادة 546، أو إذا عرف مسبب الإصابة فلا سبيل أيضاً إلى الأخذ بأحكام هذه المادة، وإنما ينال كل من المساهمين في المشاجرة جزاءَ ما اقترفت يداه, ويعاقب مرتكب القتل أو الإيذاء بعقوبة جريمة القتل أو الإيذاء. ويتضح من كل ما تقدم أن شروط تطبيق المادة 546 تتلخص بما يلي:
أولاً ـ أن تقع مشاجرة بالمعنى القانوني المقصود: إذ ليس في نص القانون تعريف للمشاجرة, وإنما يمكن القول بأن كل مشاجرة هي مضاربة تجري بين ثلاثة أشخاص فأكثر, فإذا لم يسهم في المضاربة سوى شخصين, فقتل أحدهما الآخر أو آذاه طبقت على الجاني منهما أحكام القتل أو الإيذاء. وعلى ذلك فلا تقوم المشاجرة بالمعنى القانوني إذا جرت بين شخصين اثنين كما لو كانت الواقعة عبارة عن عراك بين رجلين فقط. ولا تستلزم المشاجرة لقيامها أن يستعمل المتشاجرون السلاح بل قد يكون أحد الفريقين مؤلفاً من شخص واحد والثاني مؤلفاً من شخصين أو أكثر، فتقوم بذلك “المشاجرة” من الوجهة القانونية. وقد ذكر الشارع صراحة في صلب المادة 546، أن تكون المشاجرة قد “اشترك فيها جماعة” والجماعة هنا فريق من الناس يتجاوز عددهم الاثنين حتماً. وغني عن البيان أن الملاسنة أو المشاتمة أو الممازحة لا تؤلف مشاجرة؛ فالمشاجرة تقوم بتبادل الضربات وبغير ذلك من أفعال الشدة والعنف كطرح الخصم في الأرض أو الأخذ بالخناق أو إطلاق العيارات النارية أو الطعن بالمدى. على أنه يشترط لقيام المشاجرة أن يتبادل الفريقان أفعال العنف أو الإيذاء فلا يمكن أن يكون ثمة مشاجرة بالمعنى الذي يقصده الشارع في المادة 546 إذا كانت الواقعة عبارة عن اعتداء شخصين على شخص ثالث تلقى الاعتداء وهو صابر ساكن.
ثانياًـ أن ينشأ عن المشاجرة قتل شخص أو إيذائه: وهو شرط موضوعي للمعاقبة ويتحقق هذا الشرط قِبَل جميع المساهمين في المشاجرة حالما تتوافر صلة السببية بين هذه المشاجرة والموت الذي حصل أو الإيذاء الذي وقع، فإن كل من أسهم في المضاربة تفرض عليه العقوبة الواردة في المادة 546، وفي ذلك لون من ألوان المسؤولية المادية.
لكن الشارع خفف من مساوئ هذا النهج في العودة إلى المسؤولية المادية فأورد قيداً لتطبيق العقوبة بأن نص على أن تفرض العقوبة على من حاولوا الإيقاع بالمجني عليه، غير أن عبارة حاولوا الإيقاع بالمجني عليه تدعو إلى اللبس الشديد؛ فهي بعيدة عن الدقة والوضوح وغريبة عن الصيغ التشريعية المألوفة؛ فلا يمكن للباحث التمييز بين المشتركين في المشاجرة الذين حاولوا الإيقاع بالمجني عليه، والمشتركين الذين لم يحاولوا ذلك، وما معنى المحاولة في الاصطلاح القانوني؟
هل تعني الشروع أي البدء بالتنفيذ أم تنطوي على أكثر من ذلك؟ هل تعني القتل أو الإيذاء؟ أو غير هذا أو ذاك.. وإذا كان من الممكن عملياً التثبت من الشروع في القتل، فكيف يمكن التثبت من الشروع بالإيذاء كالضرب والجرح وغيرهما من أفعال المساس بالصحة أو بالسلامة الجسدية؟
لقد كان أحرى بالشارع أن يتفادى مثل هذا اللبس باستعمال الكلم الصريح الواضح..
وربما جاز لنا أيضاً أن نطرح المسألة التالية: هل ينبغي من أجل تطبيق المادة 546 أن يكون المجني عليه الذي أصيب أو أزهقت روحه من جملة الأشخاص المشتركين في المشاجرة؟ أم أنه سيان أن يكون هو نفسه مشتركاً أو أحد المتفرجين، أو يكون رجلاً من رجال الشرطة تدخل لإعادة الأمن والنظام؟ ليس في نص المادة المذكورة إشارة صريحة إلى حل هذه المسألة وإن كانت عبارة “من حاولوا الإيقاع بالمجني عليه” تعني تلميحاً لا تصريحاً أن المجني عليه المقصود هو في الأصل فريق في المشاجرة، ولكننا لا نرى موجباً للتفريق بين أن يكون المجني عليه المصاب أحد المشتركين في المشاجرة أو أن يكون ممن قادهم سوء الطالع إلى مكان المشاجرة فأصابه أذى أو قتل ولم يعرف فاعل القتل أو الإيذاء.
ثالثاً- أن لا يكون مرتكب القتل أو الإيذاء معروفاً: فإذا عرف الفاعل بين المشتركين
عوقب وحده بالعقوبة المقررة لجريمة القتل أو الإيذاء، وعوقب كل من عداه كمتدخلين (شركاء) إذا توافرت عناصر التدخل أو سُئل كل منهم عن الفعل الذي قام به.
رابعاً- القصد الجرمي: لا يكفي فيه أن يتوافر قصد الاشتراك في المشاجرة بل لابد من أن يقترن ذلك بقصد الإيقاع بالمجني عليه. ويبنى على هذا أن العقوبة المقررة في المادة 546 لا تطبق على المشترك بالمشاجرة ما لم يكن مريداً الاشتراك فيها من جهة، ومريداً من جهة ثانية، الإيقاع بالمجني عليه. ومن البدهي أن الاشتراك يظل ممكناً مادامت المشاجرة قائمة شريطة أن يجري قبل اللحظة التي حدثت فيها الإصابة بالإيذاء أو القتل؛ فإذا استمرت المشاجرة بعد حصول الإصابة وأقدم أحدهم على الاشتراك في المشاجرة قصداً، فإن المشترك لا يمكن أن يكون عرضة لأحكام المادة 546.
وهنا لابد من طرح السؤال التالي: هل ينبغي من أجل تطبيق المادة 546 أن يكون الاشتراك في المشاجرة مادياً أم أن الاشتراك قد يكون معنوياً؟ وإذا تصورنا وجود اشتراك معنوي في المشاجرة فهل يساوي النص القانوني في العقاب من يشترك معنوياً في المشاجرة بمن يشترك فيها مادياً؟
مما لاشك فيه أن التحريض على الاشتراك في مشاجرة وقع فيها قتل أو إيذاء يعاقب بالعقوبة ذاتها الواردة في المادة 546، أما الشروع في هذه الجريمة لا يمكن تصوره. ويبدو أن الشارع لم يشأ جعل مسؤولية من كان السبب في نشوب هذه المشاجرة معادلة لمسؤولية سائر المشتركين فيها، ولذلك سرعان ما أوجب في صلب المادة 547 تشديد العقوبات المخفضة التي ذكرها في المادة 546 وهي نصف عقوبة الجريمة.
وجاء نص المادة الملمح إليها كما يلي: “تشدد العقوبات السابق ذكرها لما نصت عليها المادة 247 على من كان السبب في المشاجرة” ولكن ما المقصود من كان السبب في المشاجرة؟ ومن هو الذي يمكن اعتباره السبب في حصول المشاجرة؟ هل المقصود به الشخص “المحرض” على الشجار؟ أم الشخص الذي من أجله حصل الشجار؟ أم الشخص البادئ بأفعال الشجار؟ وهل يتطلب النص القانوني أن يكون الشخص الذي كان السبب في المشاجرة قد اشترك فيها فعلاً، وهل يتطلب أن يكون قد حاول الإيقاع بالمجني عليه؟ أم أن النص لا يستلزم كل ذلك وحسبه أن يكون هذا الشخص قد أضرم نارها وأن لم يصطل هو بها وإنما اكتوى بها سواه؟
هذه أسئلة تظل دون جواب حاسم إذ ليس في الفقه الجزائي ولا في اجتهاد القضاء ـ على ما نعلم ـ ما يزيل عن هذا النص التشريعي لبسه وغموضه وما يزيده دقة ووضوحاً.
اترك تعليقاً