التظلم الافتراضي لرجال الأمن و منزلق الإخلال المهــنـــــي
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
التظلم “الافتراضي” لرجال الأمن و منزلق “الإخلال المهــنـــــي”.
عزيز لعويسـي
تضطلع المهن الأمنية بمختلف مكوناتها (دركا ملكيا، أمنا وطنيا، قوات مساعدة، وقاية مدنية …) بأدوار ووظائف متعددة المستويات تتلاقى جميعها في السهر على الأمن الداخلي والخارجي،
يخضع منتسبوها لقوانين وأنظمة أساسية خاصة تنسجم وتتكيف مع طبيعة وخصوصيات العمل الأمني الذي يفرض واجبات والتزامات قد تتباين درجة حدتها من مهنة أمنية إلى أخرى، لكنها تتقاسم جميعها مفردات “الطاعة” و”الامتثال” لأوامر الرؤساء ما لم تكن مخالفة للقانون، والتحلي بواجب”التحفظ” و”الالتزام بالمحافظة على السر المهني” الذي تتقلص حدوده أو تتمدد حسب خصوصيات كل مؤسسة أمنية، وهي واجبات والتزامات لامناص من أن يتقيد بها “الأمني” تحت طائلة التعرض إلى الجزاءات والعقوبات المنصوص عليها في التشريعات الداخلية، والتي تتدرج حسب نوعية ومدى جسامة الإخلال المقترف،
والرغبة التي تحكمت في تحرير هذا المقال، ليس الغرض منها الضغط على زر “السر المهني” بالمؤسسة الأمنية وتعقب الأفعال والتصرفات التي يمكن أن تدخل في خانة الأسرار المهنية الأمنية، ولكن هو محاولة لتوجيه البوصلة نحو بعض مقاطع”الفيديو” التي انتشرت مؤخرا بمواقع التواصل الاجتماعي ولقيت متابعة واسعة النطاق،
من توقيع بعض الأمنيين الذين اختاروا البساط الأزرق لتمرير تظلماتهم وشكواهم إلى الرأي العام أولا وإداراتهم المشغلة ثانيا، دونما تقدير انعكاسات ما أقدموا عليه من تصرفات بصفتهم موظفين أمنيين تفرض عليهم إداراتهم المشغلة وتشريعاتها الداخلية، حزمة من الواجبات والالتزامات والضوابط الأمنية التي لا مناص من التقيد بها، ودونما اكتراث بالعقوبات الإدارية التي يمكن أن تطالهم جراء الإقدام على “مغامرة” غير محسوبة العواقب.
لابد من الإشارة ابتداء إلى أن تجرؤ رجل أمن- بغض النظر عن المؤسسة التي ينتمي إليها- وإقدامه على البوح بشكل علني ونقله تظلمه إلى العالم الافتراضي ومقاسمته مع جمهور عريض من المشاهدين والمتتبعين، دون تقدير انعكاسات التصرف وتداعياته ابتداء وانتهاء على المؤسسة الأمنية المشغلة، ودون استحضار أبعاد”السر المهني” والمس بوقار الوظيفة التي يمارسها والإخلال بسمعتها، فهذا معناه أن “رجل الأمن” قد وصل إلى قمة المعاناة إدارية كانت أو اجتماعية أو نفسية،
مما قد يسائل رؤساء بعض المصالح اللاممركزة الذين لامناص لهم من التشبع بثقافة التواصل والانفتاح على الموظفين المرؤوسين، وحسن التعامل معهم والتفاعل مع قضاياهم واهتماماتهم والجدية والسلاسة في معالجة مشاكلهم وتظلماتهم بطرق مرنة بعيدة عن التعقيدات والمساطر الإدارية التي قد تعمق من حدة المشاكل والأزمات. وقد يسائل في نفس الآن الموظف الذي أقدم على تصرفات، جاءت في عموميتها مخلة بالضوابط التي يقتضيها العمل الأمني.
في هذا الصدد، وباستقراء مقتضيات الظهير الشريف المتعلق بالمديرية العامة للأمن الوطني والنظام الأساسي لموظفي الأمن الوطني(1)، يلاحظ أن موظفي الأمن الوطني -مثلا- فرضت عليهم حسب مقتضيات الفصل الثالث، جملة من الواجبات والالتزامات،
منها عدم جواز”الانتماء إلى أي حزب سياسي أو منظمة نقابية” و”الالتزام بقواعد الانضباط والتقيد بواجب التحفظ واحترام السر المهني ولو بعد انتهاء مهامهم” (المادة 12) و”الامتثال في إطار تنفيذ المهام المسندة إليهم، لتعليمات الرؤساء التسلسليين، ما لم يكن الأمر الصادر إليهم مخالفا للقانون”(المادة13)، و”الامتناع عن ممارسة أي عمل أو تصرف أو سلوك من شأنه المس بوقار الوظيفة أو الإخلال بسمعتها”(المادة14).
بتأمل هذه الواجبات والالتزامات، يلاحظ أن التسجيلات الصوتية “المنشورة” أو التي” قد تنشر” في شكل”مقاطع فيديو” أو “تدوينات”على مواقع التواصل الاجتماعي، تشكل في حد ذاتها إخلالات مهنية باعتبارها تصرفات وسلوكات من شأنها المــس بوقار الوظيفة الشرطية والإخلال بسمعتها، وقد تكون – في سياق عرض التظلمات – حاملة لانزلاقات مهنية أخرى كالإدلاء مثلا بتصريحات أو معطيات من شأنها السقوط في خانة “إفشاء السر المهني” من قبيل البوح العلني ببعض مشاكل البيت الداخلي وتقاسمها مع الجمهور، أو اتهامات رؤساء إداريين أو زملاء أو الكشف عن إجراءات أو مساطر إدارية،
أو المس بسرية الأبحاث القضائية أو الكشف عن هويات أشخاص موقوفين أو هاربين من العدالة، وهكذا اختلالات وغيرها، كلها تصرفات مخلة بالضوابط المهنية، يمكن أن تعرض أصحابها للمسؤولية الإدارية وحتى الجنائية عند الاقتضاء.
على المستوى الإداري، فالتشريعات الأمنية الداخلية خصصت حيزا للعقوبات الإدارية التي تتنوع درجاتها وحدتها من مؤسسة أمنية إلى أخـــرى حسب الأفعال والتصرفات المقترفة من قبل “الموظف”/”رجل الأمن”، وعلى سبيل المثال لا الحصر، وبالرجوع إلى مقتضيات الظهير الشريف المشار إليــه سلفا، فقد تم تخصيص عدة عقوبات تأديبية لموظفي الأمن الوطني طبقا لمقتضيات الفصل الرابـــع، تتوزع -حسب المادة 20- إلى ثلاث مجموعات، تتنوع بين “الإنذار والتوبيخ”(المجموعة الأولى) و”الحذف من لائحة الترقي”، و”الإنزال من الرتبة” و”التوقيف المؤقت عن العمل لمدة أدناها 15 يوما وأقصاها 6 أشهر” والإنزال من الدرجة”(المجموعة الثانية) و”الإحالة على التقاعد الحتمي” و”العزل”(المجموعة الثالثة)،
علما أن عقوبات الإنذار والتوبيخ -طبقا للمادة 21- تصدر بقرار معلل للسلطة المختصة، دون استشارة المجلس التأديبي، بعد استفسار المعني بالأمر حول المنسوب إليه، وتتقادم هاتين العقوبتين -حسب مقتضى الفقرة الثانية من نفس المادة- بعد مرور ثلاث سنوات من تاريــخ إصدارهما، وتنمحي آثارهما القانونية تلقائيا، وينقطع التقادم إذا صدرت أية عقوبـــة أخرى ضده خلال هذه الفترة ، أما العقوبات الواردة في المجوعتين الثانية والثالثة من المادة 20، فهي ترفع دون استشارة المجلس التأديبي، وذلك في حالتين، أولهما “الدعوة أو المشاركة في أي عمل جماعي يخل بقواعد الانضباط، أو عمل جماعي مخالف للنظام العام، وثانيها”الانقطاع غير المبرر عن العمل” (المادة 22).
خلاصة القول، لايختلف إثنان في أن رفع التظلمات إلى العالم الافتراضي دون سلوك المساطر الإدارية الجاري بها العمل، يشكل إخلالا بالضوابط الأمنية ومسا بسمعة وهيبة المؤسسات الأمنية ومسا صارخا بالسر المهني خاصة لما يتم نقل المعطيات الداخلية إلى العالم الافتراضي وتقاسمها مع جمهور واسع من المشاهدين والمتتبعين، مما ينعكس سلبا على مؤسسات أمنية لا تؤمن إلا بواقع الطاعة والانضباط، لكن في نفس الآن هي مناسبة لتطوير الممارسة الإدارية الداخلية والارتقاء بها وتجويدها،
من أجل “شرطة مواطنة” قريبة من المواطن ومعبرة عن تطلعاته وانتظاراته الأمنية، وهذا لن يتحقق إلا بعقليات أمنيــة متفتحة ومتواصلة، تجسد على أرض الواقع سياسة الانفتاح والتواصل التي انخرطت فيها المديرية العامة للأمن الوطني خلال السنوات الأخيرة، عقليات أمنية -البعض منها- لابد أن يقطع مع مفردات”الصرامة المفرطة”و”التعالي” و”التعجرف”و”التقوقع” و”عدم الاكتراث”و”اصطياد الهفوات”و”إنزال العقوبات”، وتضع “الموظف” في صلب اهتمامها، بالتواصل الفعال وحسن الإصغاء والجدية في معالجة المشاكل والأزمات، والسرعة في اتخاذ الحلول الممكنة لها، أما التقوقع وفرض القرارات خلف الأبواب الموصدة ، فلن يساهم إلا في شحن أجواء التوتر وتغذية الشكوى والاحتجاج، في عالم افتراضي كسر كل المعادلات وأصبح ملاذا سلسا ومرنا للبوح والتعبير والشكوى والتظلم والاحتجاج.
وهي فرصة -أولا- للتنويه بالتفاعل الإيجابي للمديرية العامة للأمن الوطني في شخص مديرها العام السيد” عبداللطيف الحموشي” مع التظلمات الأخيرة التي صدرت عن بعض رجال الشرطة عبر مواقع التواصل الاجتماعي-رغم اختراقها لحدود الضوابط المهنية والأمنية- من خلال إعطاء تعليماته إلى المصالح المركزية المعنية، بإيـــــــــلاء هذه التظلمات ما تستحق من اهتمام وعناية خاصة، والإشادة -ثانيا- بالتحولات الإيجابية التي ما فتئت تشهدها “الإدارة الشرطية” لا من حيث التواصل والانفتاح على المحيط المجتمعي، ولا من حيث تطوير الآليات والوسائل والمعدات ذات الصلة بالعمل الشرطي، أو من خلال العناية بالموارد البشرية وتطوير كفاياتها وقدراتها.
من أجل شرطة عصرية قادرة على مواكبة المتغيرات الوطنية والإقليمية والدولية والتفاعل معها، وهي مجهودات لا تمنع من الالتفات إلى “البيت الداخلي” وتقويم ما قد يشوبه من مشاكل واختلالات واعوجاجات، حرصا على صورة وسمعة “الشرطة الوطنية” التي لابد لها أن تواكب ما يعرفه المغرب من تحولات متعددة المستويات، ويمكن التساؤل أخيرا وليس آخرا، كيف لرجل أمن بغض النظر عن المؤسسة التي ينتسب إليها،
أن يطالب بفرض الأمن بالشارع العام والإسهام في تكريس إحساس المواطن بالأمن، وهو لاينعم بالأمن والطمأنينة إداريا أو اجتماعيا أو نفسيا، سؤال عريض يطرح”مشكلة-وضعية” لا يمكن مقاربتها إلا في ظل”إدارة” متفتحة ومتواصلة ومتفاعلة مع قضايا ومشاكل “موظفيها” برؤية عصرية تجمع بين”المهنية” و”الإنسانية”، غير هذا، قد تكون مواقع التواصل الاجتماعي، “حبالا مفترضة” لنشر “غسيل محتمل”.
– هوامــــش:
(1) ظهيرشريف رقم 213-09-1 صادر في 8 ربيع الأول (1431 (23 فبراير2010) يتعلق بالمديرية العامة للأمن الوطني والنظام الأساسي لموظفي الأمن الوطني ، ج.ر، بتاريخ 1 مارس 2010، ص611 .
– كاتب رأي، أستاذ السلك التأهيلي، ضابط شرطة قضائية سابقا، باحث في القانون وقضايا الأمن والتربية والتكوين.
اترك تعليقاً