التوقيـف الاحتياطـي بيـن الغايـة والتطبيـق
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
من المبادئ المستقرة في كافة الدول أن الأصل في الإنسان البراءة, وبالتالي لا يجوز سلب حريته أو التعرض لها إلا إذا ثبتت مخالفة هذا الأصل بموجب حكم قضائي واجب النفاذ. لذلك كان حبس المتهم قبل ثبوت إدانته إجراء شاذًاً بالغ الخطورة وأشدها وطئاً على الحريات الفردية. غير أن هناك اعتبارات عملية لها أهميتها الكبيرة جعلت التشريعات تجيز لسلطات التحقيق توقيف المتهم احتياطياً. ولعل أكثر هذه الاعتبارات أهمية الخشية من ترك المتهم حراً قبل أن تثبت إدانته مما يتيح له فرصة العبث بالأدلة والتأثير على الشهود. وهذا ما يمكّنه من التهرب من تنفيذ العقوبة إذا صدر الحكم غيابياً أو إذا لم يكن تحت يد السلطات وقت النطق بالحكم.
ويسوق المدافعون عن الحبس الاحتياطي حجة أخرى, فهم يرون فيه أحياناً إجراءً في صالح المتهم ذاته, إذ أن التحفظ عليه بمعرفة السلطات فور ارتكاب الجريمة يجعله بمأمن من بطش وانتقام المجني عليه وأسرته. وفضلاً عن ذلك فإن حبس المتهم وإبعاده مؤقتاً عن مكان الجريمة وعن أعين المجني عليه وذويه، قد يكون فيه شفاء لما في نفوسهم أو على الأقل عدم تحدي لشعورهم. وإلى جانب ذلك فإن وجود المتهم في التوقيف الاحتياطي يجعل من التيسير استدعاءه للتحقيق كلما تطلب الأمر, وبذلك يمكن الانتهاء منه في أسرع وقت.
وتظل لهذه الاعتبارات وجاهتها بالرغم مما يوجه لبعضها من طعن. فالقول بأن المتهم وإن كان محبوساً يستطيع أن يؤثر في الأدلة بواسطة غيره من أفراد أسرته أو محبيه والدفع بأنه يمكن الاستعاضة عن حبس المتهم بإلزامه بتقديم ضمان مالي أو شخصي لإجباره على المثول أمام المحقق أو التقدم لتنفيذ الحكم، لا يجدي مع جميع المتهمين. إذ يفضل عدد كبير منهم التهرب من التحقيق ومن تنفيذ الحكم وإن ضحوا في سبيل ذلك بما قدموه من ضمان. وأياً كانت أهمية هذه الاعتبارات إلا أن حبس المتهم في هذه المرحلة التي لا يزال يعد فيها بريئاً ـ وبناء على مجرد احتمال بأنه قد ارتكب الجريمة ـ لا شك أن فيه مساساً خطيراً بالحريات الفردية. ومن أجل ذلك, وللتوفيق بين مصلحة المتهم وبين مصلحة الجماعة التي تقتضي مراعاة تلك الاعتبارات العملية الهامة, فقد عنيت التشريعات العقابية الحديثة بإحاطة التوقيف الاحتياطي بضمانات عديدة سواء تعلقت بالشروط التي لا بد من توافرها لجواز الأمر به, أو بالسلطة الآمرة به, أو بمدته, وهذه الضمانات تزيد عن تلك التي نص عليها القانون بالنسبة لأعمال التحقيق الأخرى.
فالأصل في التوقيف الاحتياطي أنه تدبير وقائي، شرّع لغايات محددة لا يجوز مخالفتها أو تجاهلها، متروك تقديره للقاضي الذي يجب أن يستخدمه في الحالات التي شرّع لأجلها حصراً، باعتباره استثناء من الأصل ووسيلة وقائية لا تتضمن معنى العقاب. والمشرع السوري لم يحدد مدة التوقيف لكافة الجرائم، وإنما ترك تقدير ذلك لضمير القاضي المحكوم أصلاً بالقواعد القانونية, ولم يستخدم عبارة الحبس التي استخدمها المشرّع المصري، وفي ذلك دلالة واضحة من المشرّع على أن التوقيف الاحتياطي هو إجراء شرّع لغاية محددة. ولذلك فإن أي خلل قد يصيب إجراء التوقيف الاحتياطي يكون له تأثير على مصير العدالة، ويؤثر في البنيان الجزائي الإجرائي بشكل عام, لأنه يصيب وبشكل مباشر حريات الأفراد، ولأنه قد يلقي بأبرياء في السجون.
والعدالة بالمطلق لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال إتباع بنيان إجرائي متوازن يتم تطبيقه ضمن إجراءات شكلية محددة تصون حقوق الدفاع وتحتاط لعدم الوقوع في التوقيف الاحتياطي التعسفي. وفي سبيل ذلك ومن أجل بلوغ الهدف الأساسي الذي من أجله شُرّع هذا الإجراء لا بد من تحقيق توازن عادل بين مصلحتين متقابلتين ومتعارضتين بنفس الوقت هما:
1ـ مصلحة المجتمع في معاقبة مرتكب الجريمة.
2ـ مصلحة الفرد في حماية حقوقه وصون حرياته الأساسية، فالعدالة لا يؤذيها إفلات مذنب من العقاب بقدر ما يؤذيها إدانة بريء.
وفي ضوء ذلك، فإن العبارة التي درج بعض أصحاب القرار في القضاء على استخدامها في رد طلب إخلاء السبيل والتي هي (لماهية الجرم ووصفه القانوني ولعدم كفاية مدة التوقيف)، إنما تنطوي على مخالفة صارخة لكل المبادئ التي تقوم عليها مؤسسة التوقيف الاحتياطي؛ فهي تجافيها بالمطلق ولا تتفق مع أي مبدأ من مبادئها بأي حال من الأحوال؛ إنها تعبير مقتضب هيّن غائم بل غامض, ليس له معنى, وبذات الوقت لا يدل على أي سبب موضوعي يبرر الاستمرار في التوقيف الاحتياطي, بل هو تعبير لا يقيم وزناً لحرية الإنسان ولا إلى إرادة المشرّع ولا يأتلف مع ما استهدفه المشرّع من وراء تقريره لمبدأ التوقيف الاحتياطي، والذي جعل أحد أهم أهدافه هو حماية المدعى عليه.
إن التطبيق العملي حوّل التوقيف الاحتياطي لعقوبة، ويستدل على ذلك بعبارة عدم كفاية مدة التوقيف، وهذا يعني أن هناك جرماً ما يستدعي التوقيف مدة معينة، وأن هذه المدة لم تكتمل ولم تنته بعد. وهي بذلك تفترض أن المشرّع قد فرض لكل جرمٍ نصَّ عليه عقوبة احتياطية محددة بزمن ما، وأنه فوض إرادته في تحديد مدة هذه العقوبة وتقديرها للقاضي الناظر في الدعوى، وهذا يناقض الأساس التشريعي الذي أوجدت من أجله مؤسسة التوقيف الاحتياطي.
وكانت إدارة التشريع في وزارة العدل السورية بيّنت في مطالعتها المؤرخة في 23 / 6 / 1959 هذه المبادئ، حيث قالت: “1ـ لا يجوز بحال من الأحوال تحويل التوقيف الاحتياطي إلى عقوبة أو الخروج به عن الحدود والضرورات التي شرّع أصلاً لأجلها باعتبار أنه لا عقوبة إلا على جريمة ولا جريمة إلا بنص، وهذا مؤيد بالبلاغين الصادرين عن وزير العدل. 2ـ إن حرية الإنسان وما يمكن أن تترسب في ذهن المتهم (نتيجة التوقيف الاحتياطي غير المبرر) من أفكار سيئة عن مؤسسة العدالة هي الأولى بالرعاية، وليس نوع وحجم الجريمة المنسوبة إلية خاصة إذا ما اقترن الحكم النهائي في الدعوى بالبراءة “.
لذلك نرى أنه بات من اللازم، بل ومن الضروري جداً تغيير النهج القائم والمعتمد في تطبيق وتنفيذ الإجراء المتمثل بالتوقيف الاحتياطي, مع وجوب العودة إلى المبادئ العامة في نظرية التوقيف الاحتياطي, وبالتالي الإنعتاق من أسر الأفكار السائدة والمطبقة أحيانا وخاصة لدى بعض السادة قضاة التحقيق والإحالة, وذلك لحين إيجاد حل تشريعي لهذه الحالة.
اترك تعليقاً