بقلم ذ خالد خالص
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
أستاذ باحث
تحت عدد: 348
يقول عبد الرحمن ابن خلدون ” إن علم التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال وتشد إليه الركائب والرحال…” وفن التاريخ هذا “فن عزيز المذهب
جم الفوائد، شريف الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلافهم .. حتى تتم فائدة الإقتداء في ذلك لمن يرومه..فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكبان به عن المزلات والمغالط.”
وإذا كان “التاريخ فن قبل أن يكون علما ورواية قبل أن يكون مقالة تحليلية …فإن منهجية التاريخ تبنى في معرفة ما هو دور الماضي في فهم الحاضر ودور الحاضر في فهم الماضي.”
و”المغرب بلد يصنع التاريخ ولكن أهله لم يكتبوه بعد”. وينطبق الأمر أكثر على المحامين والقضاة الذين لم يولوا لتاريخ القضاء بالمغرب ما يستحقه من دراسة وتدوين بالرغم من كون المهن القانونية بصفة عامة ساهمت من خلال رجالاتها في إرساء الدولة المغربية العصرية
ومساهمة منا في التدوين، ارتأينا القيام بأبحاث في تاريخ القضاء المغربي بصفة عامة وفي مهنة المحاماة بصفة خاصة وتقديمها للقارئ بطريقة مقتضبة تبعد عنه الملل وتجعله متشوق لمعرفة ماضيه
وسنقوم في هذه الدراسة بإطلالة على النظام القضائي المغربي قبل الحماية قبل أن نتناول في دراسات لاحقة جوانب أخرى من القضاء المغربي ومن المحاماة
وإلى غاية ظهور الإسلام بالمغرب كان القضاء منظما، حسب أعراف الجهات التي كانت تناسب البنية السوسيو- اقتصادية لكل منطقة. ويطلق على هذه الأعراف في بعض الجهات اسم “أزرف” وهي تنشأ تدريجيا من طرف أفراد الجماعة وبرضاهم لحل مشاكلهم. ويمكن القول بأن أهل القبائل كانت تطمئن لأزرف لأنه نابع من الإرادة الجماعية وليس من الإرادة المنفردة للسلطة المركزية الحاكمة. والأعراف تختلف بين القبائل بل وحتى داخل القبيلة الواحدة أحيانا. وكان معظمها شفوي تتناقله الأجيال بينما الجزء اليسير كان يتم تدوينه بواسطة فقيه القبيلة التي كانت تملى عليه تلك الأعراف. وكانت هذه الأخيرة تدون في ما يعرف بالألواح التي تقنن الجانب الجنائي كالقتل والضرب والجرح والشتم والسرقة والخيانة الزوجية وغيرها. كما كانت الألواح تنظم باقي العلاقات كالزواج والطلاق والرعي والبيع والشراء والرهن والشفعة والخماس…وكانت “تعقيدت” أو الألواح توضع في ضريح رجل صالح تقسم (بضم التاء وبكسر السين) به عادة القبيلة
وكان القضاء بسيطا للغاية، ويطلق على المحكمة في بعض المناطق اسم “تيعقدين” وتتكون من رئيس منتخب ومن أعضاء يتم اختيارهم ومن أعضاء مكلفين بالتنفيذ
ولتفادي تقديم شكايات تعسفية كيدية أو التهديد بها، رغبة في الانتقام أو في الإثراء على حساب المشتكى بهم، فإن النظام القضائي العرفي الامازيغي أحدث كفالة تعرف ب “لوتيقيت” تتمثل في خنجر أو بندقية المشتكي أو أي شيء له قيمة كوسيلة لإضفاء الجدية على الشكايات والاتهامات. ويسلم الشيء موضوع الكفالة للمشتكى به كتعويض له إذا ما خسر المشتكي دعواه
وتنعقد المحاكمة العلنية الشفوية غالبا في موطن المشتكى به حيث يحضر أقاربه الذين يؤازرونه حيث يعرض المشتكي الوقائع ويدلي بالحجج ليتم الاستماع إلى المشتكى به الذي يقر أو ينكر الاتهام. ولا يجوز للمحكمة أن تتحول إلى سلطة التحقيق لاستنطاقه إذ لا شيء يلزمه الكلام أو المناقشة بل من حقه التزام الصمت. أما فيما يتعلق بالأحكام العرفية الامازيغية فإنها كانت تصدر بنسبة الثلثين وبدون مناقشة بين الحكام
وكان القضاء المدني الامازيغي يختلف بعض الشيء عن القضاء “الزجري” باعتبار أن الأطراف هم من يختار الحاكم في حالة وقوع نزاع حول تأويل أو تنفيذ الالتزام المحرر من قبل السلطة المختصة. كما أن بإمكانهم اختيار حاكم ثان بعدما يبث الأول ثم حاكم ثالث بعدما يبث الحاكم الثاني
ومع مجيء العرب للمغرب سنة 682 وإقرار الفقه الإسلامي تغير نمط العيش والقضاء لدى الساكنة، إلا أن العرف بقي يطبق في المجال القروي والجبلي خصوصا فيما يتعلق بأملاك الجماعة وتوزيع وتقسيم الماء فيما بينهم. وكان الحكم بالعرف أمرا جائزا ما دام لا يخالف الشرع، إذ كان يعتبر كل ما يتناقض مع أصول الشريعة من الأحكام باطلا وحراما مثل أعراف بعض القبائل في “عدم توريث الزوجة والبنت وإلحاق الولد لغير أبيه وعقد بعض الأنكحة الفاسدة”
وكانت السلطة القضائية مبدئيا من اختصاص العاهل بوصفه أمير المؤمنين أي أن هذا الأخير كان نادرا ما يتدخل في شؤون القضاة بل كان يعمل على تعيين ما كان يعرف بقاضي القضاة بظهير وكان يستقر بالعاصمة ويتولى هو بدوره تعيين سائر القضاة أو الموافقة على ترشيحهم والعمل على عزلهم والكل فيما يتعلق بالمحاكم الشرعية. كما كان عامل الإقليم هو من يعين القضاة في محاكم المخزن. ومن تم كان التنظيم القضائي قبل الحماية مقسما في البداية إلى أربع جهات قضائية، وهي محكمة القاضي الشرعي أو محكمة الشرع ومحاكم المخزن أي المحاكم التي يحكم فيها الباشا أو القائد والمحاكم العرفية والمحاكم العبرية
ولم يكن المغرب وقتها يعرف مهنة المحاماة بالمعنى العصري، إذ ان الذي كان معروفا هو نظام الوكالة، ولم يكن الوكيل عالما ولا رجل قانون بل كان شخصا عاديا يقتصر على تمثيل المتقاضين أمام القاضي والدفاع عن مصالحهم، ولم يكن للوكيل تكوين قانوني جدي، وكان دوره محدودا. ومن ثم فإنه من الممكن القول بان الفقه الإسلامي لم يعرف المحامي بالمعنى العصري، وأن كل ما هناك هو عقد الوكالة، وان من يتكفل بالدفاع عن مصالح الآخرين أمام القضاء هو وكيل عادي
وبعد ثلاثة عشر قرنا من قضاء مبني على قواعد الفقه الإسلامي وعلى العرف في الكثير من المناطق عرف المغرب تراجعا سياسيا واقتصاديا منذ بداية القرن السابع عشر، حيث لوحظ ضعف السلطة المركزية. وكان المغرب مقسما إلى مناطق تخضع إلى سلطات محلية، وكان رؤساء القبائل يطبقون العرف المحلي إلى حد أن القاضي لم يعد يفصل إلا في قضايا الأحوال الشخصية والإرث. وكان من العرف أن يدافع الشخص عن نفسه بأدائه أربعين أو خمسين يمينا تؤدى من قبل الضنين ومن قبل أقاربه وإن رفض أحدهم أداء اليمين كان ذلك سببا في اثباث التهمة وهذا يدخل ضمن قوانين الألواح
وأمام ضعف المغرب والفوضى التي أصبحت تعرفها الحياة الاجتماعية آنذاك وأمام ضعف السلطة المركزية، استغلت بعض الدول هذه الوضعية للتوقيع على اتفاقيات ثنائية عرفت ب ” الاستفادة من امتياز المحاكم” (bénéfice des privilèges de juridiction) أو بنظام الامتيازات القنصلية وبخلق محاكم قنصلية
وكانت أول اتفاقية وقعت مع فرنسا في هذا الصدد بتاريخ 17 شتنبر1631 تلتها العديد من الاتفاقيات سواء مع اسبانيا أو النمسا أو انجلترا أو أمريكا أو الاتفاقية المبرمة دائما مع فرنسا بتاريخ 28 مايو 1767 والتي نصت في المادة الثانية على “أن لإمبراطور فرنسا تعيين قناصلة له في المغرب لأجل مساعدة التجار والبحارة والربابنة …والاستماع إلى نزاعاتهم ثم البث فيها” حيث ثم تمديد ذلك إلى بعض الأهالي المغاربة الذين كان يقال عنهم أنهم “اشتروا” حماية الانجليز أو حماية الألمان أو غيرها من الحمايات حيث أصبح المواطنون الفرنسيون وكذا بعض المغاربة لا يخضعون للفقه الإسلامي (Droit musulman) ولا للقضاء العرفي المغربي، وإنما للقانون الفرنسي أو لغيره من القوانين الأجنبية وللمحاكم القنصلية التي عرفت في تلك الفترة .
ومن تم كان التنظيم القضائي قبل الحماية مقسم إلى خمس جهات قضائية، وهي محكمة القاضي الشرعي ومحاكم المخزن والمحاكم القنصلية والمحاكم العرفية والمحاكم العبرية
ولم نعثر على تنظيم لمهنة المحاماة ولا إلى هيئة للمحامين بالمغرب قبل الحماية ولو أمام المحاكم القنصلية حيث كان يترافع أمامها بعض المحامون الأجانب
ويمكن القول بأن استمرار الأزمة المالية إلى جانب ضعف السلطة المركزية آنذاك والأطماع الخارجية كانت من بين الأسباب الرئيسية في الدفع بنظام الحماية حيث وقع السلطان مولاي حفيظ على الاتفاقية مع فرنسا يوم 3 مايو 1912 ومع إسبانيا في نفس السنة
بقلم ذ خالد خالص
أستاذ باحث
اترك تعليقاً