ملاحظات حول قانون تشكيل المحاكم الإدارية
أين قانون تشكيل المحاكم الإدارية؟ * د. جودت مساعدة
لا يدرك ولا يعرف قيمة الصحة إلا المريض, ولا يدرك أهمية القضاء الإداري إلا من اكتوى بنار القرارات الإدارية الجائرة ولجأ للقضاء وقرر رفع الظلم عنه ويدركه أيضاً القضاة والمحامين العاملين والمترافعين بتلك القضايا ويمكن القول أن القضاء الإداري يعتبر هو احد مظاهر دولة القانون والذي من خلاله وبه تستطيع أن تتقيد في جميع مظاهر نشاطها بقواعد قانونية وأحكام قضائية تعلو عليها وتكون بذاتها ضابطاً لأعمالها وتصرفاتها في أشكالها المختلفة, وأن القضاء الإداري الكامل والمستقل يعتبر من أهم أركان وركائز ودعائم السلطة القضائية, إذ به ومن خلال رقابته القضائية على القرارات الإدارية والتي تفصح الإدارة فيها عن إرادتها الملزمة بما لها من سلطة بقصد إحداث مركز قانوني ابتغاء وتحقيقاً للصالح العام ويقوم بإصدار القرارات المناسبة بعد فحص تلك القرارات للتأكد من التزام الإدارة بتطبيق أحكام القانون على أعمالها وفي حال توصله إلى مخالفتها له قصداً أم بدون قصد, يقرر الحكم بإلغائها والذي بها يتم تصحيح وتصويب وتقويم اعوجاج الإدارة وتوجيهها وإرشادها للطريق الصحيح وذلك تحقيقاً للعدالة ووصولاً إلى شاطئ دولة القانون قولاً وفعلاً.
وبالرجوع للقضاء الإداري في بلدنا, نجد أن محكمة العدل العليا قد حددت اختصاصاتها بشكل حصري في النظر بالطعون بالقرارات الإدارية وغيرها من الاختصاصات ولا تستطيع بشكلها الحالي وباختصاصاتها الضيقة, أن تؤدي رسالة القضاء الإداري, بالشكل الذي يجب أن يكون من جهة وفي غياب المحاكم الإدارية على أكثر من درجة من جهة ثانية وعدم اختصاصها بالنظر في جميع القرارات والعقود الإدارية التي تنظرها شقيقاتها من المحاكم في العديد من الدول الأخرى من جهة ثالثة.
ولما كان للقضاء الإداري له دور رئيس ومهم في عملية الإصلاح الإداري والسياسي وغيرها, فإن هذا الدور لم ولن يتراجع مع ظهور ما يسمى بالخصخصة وغيرها, بالإضافة إلى ما شهده القطاع الخاص من تقدم على القطاع العام في مجالات عديدة, فإن الحكومة وبعد انتقادات ومطالبات وصيحات رجال القانون وتوصيات اللجنة الملكية لتطوير القضاء التي شكلت في عام (2001) وتضمنت مطالبة الحكومة بالعمل على إنشاء قضاء إداري كامل وعلى أكثر من درجة, فإن ذلك ألزمها وبعد تردد طويل الاستجابة لذلك والتقدم بطلب إلى المجلس العالي لتفسير الدستور بتاريخ 21/8/2001 لبيان فيما إذا كان الدستور يجيز إصدار قانوناً خاصاً بإنشاء محاكم إدارية أم لا؟
واستجابة من المجلس العالي لتفسير الدستور لطلب الحكومة, فقد أصدر قراره رقم 2لسـ2001ـنة بتاريخ 2/10/2001 ونشر في عدد الجريدة الرسمية رقم (4536) تاريخ 17/3/2002 وتضمن أن الدستور لا يمنع من وضع قانون خاص مستقل بتشكيل محاكم إدارية يتضمن نصاً على إنشاء محكمة عدل عليا.
وبالتدقيق بما ورد بالقرار المذكور, يستدل منه أن الدستور أجاز إنشاء محاكم إدارية على أكثر من درجة من درجات التقاضي بموجب قانون خاص مستقل بإنشائها.
وعليه, فإن إصدار قانون بإنشاء محاكم إدارية مستقلة عن القضاء العادي يتضمن كافة شؤونها واختصاصاتها ويتسع لنظر المحاكم الإدارية في جميع الطعون بالقرارات الإدارية والعقود الإدارية, سيترتب عليه التخلص من الانتقادات القديمة والحالية على ما هو الحال عليه الآن القضاء الإداري والمتمثل في محكمة العدل العليا باختصاصاتها الضيقة والمحدودة والتي لا تتناسب وتتلائم مع دولة القانون وطموحاتها وأن هذا لا يتحقق إلا بإنشاء محاكم إدارية على أكثر من درجة من درجات التقاضي, حيث أن وجود أكثر من درجة من درجات التقاضي في القضاء الإداري هو من المبادئ الأساسية وهذا المبدأ هو السائد في غالبية التشريعات العربية والأجنبية, لكونه يحفز قضاة محكمة الدرجة الأولى على توخي الدقة والعناية في فحص ادعاءات الخصوم وبصحة تطبيق القانون وهذا يُمَكِّن المتقاضين من الطعن في الأحكام التي أصدرتها محكمة الدرجة الأولى عن خطأ أو جهل أو تقصير وذلك لدى المحكمة التي تعلوها للتظلم إليها من هذا الحكم المطعون به, وهذا يتحقق من خلال رؤية الدعوى الواحدة من قضاة محكمة الدرجة الأولى وقضاة محكمة الدرجة الأعلى والذين هم أكثر عدداً وخبرة من قضاة محكمة الدرجة الأولى, كما أن الأحكام التي تصدر على أكثر من درجة من درجة التقاضي تولد الثقة والقناعة لدى المتقاضين بعدالتها.
وعودةً إلى قرار المجلس العالي أعلاه سالف الذكر, فإنني أعتقد أنه كان من المفروض على الحكومة عندما طلبت من المجلس تفسير المادة المطلوب تفسيرها, وجود مبررات قوية لا تحتمل التأخير أو التأجيل لوضع حد للاجتهادات والتساؤلات المختلفة بخصوص فيما إذا يجيز الدستور إصدار قانوناً خاصاً بإنشاء محاكم إدارية من عدمه, إلا أن القرار وبالرغم من أنه مضى على صدوره مدة تزيد على تسع سنوات والواجب النفاذ والتطبيق منذ تاريخ نشره في الجريدة الرسمية بتاريخ 17/3/2002, فإن الحكومة التي طلبت التفسير لم تقم بتفعيل وتنفيذ القرار, بالرغم من أنها استمرت بالحكم إلى الربع الأخير من عام 2004 وكان يتوجب عليها التقدم بمشروع القانون لمجلس الأمة بعد صدور القرار المذكور مباشرة, ولا يفوتني أن أذكر بأن تلك الحكومة أصدرت العديد من القوانين المؤقتة وأطلق البعض عليها حكومة القوانين المؤقتة, كما أن الحكومات التي جاءت بعدها ولغاية تاريخه كان من ضمن طواقمها خمسة وزراء للعدل على ما أذكر, وكان من الواجب عليهم أن يكونوا أكثر اهتماماً من غيرهم في السعي لإصدار هذا القانون ووفق القنوات الدستورية المعمول بها لإصدار القوانين الدائمة, بل قامت بعض الحكومات ولاسيما الحكومة السابقة في إصدار قوانين مؤقتة ذات صلة بأعمال المحاكم والتي لم تكن ضرورية ومن بينها قانون النيابة العامة وقانون إدارة قضايا الدولة وقرر مجلس الأمة رفضهما, وذلك بإغفالها أو تقاعسها عن إصدار قانون بإنشاء المحاكم الإدارية والذي يتقدم من حيث الأولوية والأهمية على أية قوانين أخرى, كما أتساءل أيضاً ما قيمة القرار أعلاه والذي مضى على صدوره مدة تزيد على تسع سنوات, ما دام أنه لم يتم العمل بما جاء به حتى تاريخه؟.
وأخيراً, فإنني أرى أنه يتوجب إصدار قانون بتشكيل المحاكم الإدارية وفي أسرع وقت ممكن, ليكتمل بنيان وهيكلية القضاء الإداري بالمملكة, وليصار من خلاله وبه أداء رسالته ودوره بمراقبة الحكومة وإداراتها المختلفة وغيرها وتصويب قراراتها وتقويم اعوجاجها وتوجيهها وإرشادها لتطبيق القانون بكفاءة واستقامة وحيادية وهذا يساهم في عملية الإصلاح الإداري والسياسي من خلال استئصال الأمراض الوظيفية وجراثيمها التي نخرت وتنخر جسم الوظيفة العامة وقدرات ومقدرات البلاد, كما أن ذلك يؤدي إلى تعزيز الولاء والانتماء الوطني وزيادة ثقة المتقاضين بقضائنا من خلال أحكامه وأن القانون أولاً وأخيراً هو للجميع وفوق الجميع وأن المحاكم هي الملاذ الوحيد والمكان الطبيعي, ليكون الجميع بمأمن من عسف وتعسف الإدارة بما يحقق التوازن بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة على حد سواء.
اترك تعليقاً