بقلم ذ عبد الناصر ابراهمي
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
باحث في المساطر القضائية
دأب القائمون على الإدارة المغربية على تسمية كل تغيير يعدون له ب” الإصلاح ” وذلك حتى يسهل تمريره، أو على الأقل حتى لا يواجه بمعارضة شديدة من طرف من يمكن أن يمس “الإصلاح” بمركزه القانوني، أو لا يحقق له الأهداف التي كان يتطلع إليها مع حصول أول تغيير يطال القطاع الذي ينتمي إليه.
وهذا على ما يبدو هو حال الإدارة القضائية اليوم التي تقف عاجزة أمام حجم الاستهداف الذي طالها، نتيجة تجاهل متعمد من طرف الماسكين بتلابيب وزارة العدل والحريات، وعلى رأس هؤلاء الرجل الحقوقي والمناضل الأستاذ المصطفى الرميد الذي استبشر الجميع خيرا بتنصيبه على رأس هذه الوزارة. فما الذي تغير بين الأمس واليوم وجعل الوزير يحتفظ بغير قليل من الازدراء تجاه الإدارة القضائية، وخاصة أطر وموظفي كتابة الضبط ؟ وهل من شواهد على هذا الكلام ؟ وما هي مكامن الخلل في تعاطي وزارة العدل والحريات مع شؤون موظفي الإدارة القضائية ؟
قبل الخوض في الجواب عن كل هذه التساؤلات يجدر بنا التذكير أننا لا نهدف من وراء بسط وجهة نظرنا هذه – التي قد نصيب من خلالها وقد نخطئ – إلى النيل من شخص الوزير، وتبخيس العمل الذي يقوم به على رأس وزارة العدل والحريات، أو الانضمام إلى جوقة المعارضين للسيد الوزير لأسباب سياسية أوغيرها، بل إننا فقط نحاول أن نثير الانتباه ونستجلي أسباب الإقصاء الذي طال مكونا أساسيا من مكونات العدالة هو جهاز كتابة الضبط. وهنا لابد أن نميز بين مستويين ونحن نتحدث عن شخص الرميد؛ المستوى الأول يتعلق بهذه الشخصية نفسها، التي لا شك أن المنصفين – ممن لا يعارضونه لأسباب إديولوجية أو سياسية – يشهدون بصولات وجولات الرجل في الدفاع عن حقوق الإنسان،
وقول الحقيقة في فترات كان الحديث فيها عن أي شيء لا يروق للنظام يمكن أن يودي بصاحبه في غياهب السجون، أو يعرضه لما لا حول له به ولا قوة ؛ وهنا ما زلت أذكر عمودا للرجل حين كان على رأس جريدة الصحوة، والذي وضعه تحت عنوان “إلى من يهمه الأمر !” ولكم أن تكملوا… وما عاناه الرجل غداة أحداث 16 ماي الرهيبة وهو على رأس فريق حزب العدالة والتنمية… وما واجهه بالأمس القريب في سبيل إنجاز الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، بل وما يعانيه اليوم في سبيل إخراج مضامين الميثاق من طرف لوبيات لا تريد أن يرى هذا الإصلاح النور، وخاصة في ظل حكومة العدالة والتنمية، وهذا غيض من فيض…
إلا أن كل هذا لن يغيب عن أذهاننا حجم الظلم والتهميش الذي طال أطر وموظفي كتابة الضبط من طرف السيد وزير العدل والحريات، وهذا الظلم نلمح وجهه بوضوح لكننا لا نجد له مسوغا ولا ندرك خلفياته، ويكفي أن أذكر هنا بإقصاء كتابة الضبط من الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، التي كلما سئل وزير العدل عن سبب إقصاء هذه الشريحة إلا وأجاب بطريقة مختلفة عن مضمون السؤال، حيث لا يجد غضاضة في التأكيد على أن كتابة الضبط شاركت في الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، رغم أن الواقع يشير إلى أن طيفا شارك في الحوار وغابت أطياف أخرى من داخل كتابة الضبط نفسها. وأتساءل هنا لماذا لم يختزل السيد الوزير الطريق ويعترف بأنه كان هناك فعلا إقصاء لكتابة الضبط من الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منطومة العدالة، ويؤكد أنه مستعد لجبر هذا الضرر عن طريق إشراكها في لجنة الصياغة مثلا، إلا أن هذا لم يتم، حيث إن لجنة صياغة مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية مثلا كانت تضم 28 عضوا بينهم ثلاثة فقط ينتمون لكتابة الضبط، يشاركون بالتعيين لا بالتمثيل، ونحن وإن كنا لا نشك في كفاءتهم إلا أنهم في النهاية لا يمثلون إلا أنفسهم.
وحتى لا نبتعد عن سياق سردنا لبعض الشواهد التي نحاول من خلالها استجلاء موقع كتابة الضبط في ذهن الرميد هو حديثه غير ما مرة حول ما يسميه “جناحي العدالة”، يقصد بذلك السادة القضاة والسادة المحامين. ونحن وإن كنا نشهد بالدور المحوري والحيوي لهؤلاء في العملية القضائية، إلا أننا لا نفهم ولا نتفهم سبب هذا التهميش الذي يسكن لاوعي السيد الوزير؛ ينضاف إلى ذلك حديثه في “اليوم الوطني لكتابة الضبط” الذي نظم بالجديدة خلال السنة الفارطة عن الامتيازات المادية لهذه الفئة بصيغة يفهم منها وكأن الرجل يستكثر عليها ذلك !.
وإذا ما أضفنا إلى ما تقدم طريقة تنزيل مضامين ميثاق إصلاح منظومة العدالة في علاقتها بكتابة الضبط والإدارة القضائية عموما، والتي لم تراع في كل القوانين المؤطرة لعمل هذه الأخيرة الاقتراحات والملاحظات التي تم التعبير عنها خلال جولات الحوار الوطني أو في مناسبات أخرى إلا ناذرا، كما هو الشأن بالنسبة لمصطلحي ” الأعوان، ومأموري التنفيذ …” اللذين تم حذفهما من قانون المسطرة المدنية – انسجاما مع ما هو وارد بالنظام الأساسي لكتابة الضبط – وعوضا بمصطلحات من قبيل ” المكلفون بالتبليغ، المكلفون بالتنفيذ…”.
إلا أن المسطرة المدنية نفسها – في الباب المتعلق بالتنفيذ – عوض أن تفصل العمل القضائي عن العمل الإداري فقد دمجت بينهما بشكل تعسفي وجعلت الكل خاضعا لرقابة وإشراف القضاة ! في سطو واضح على اختصاصات المسؤولين الإداريين. أما على مستوى المسطرة الجنائية فقد أبقى المشروع الجديد لقانون المسطرة الجنائية على المادتين 100 و 119 – اللتين تحدثتا عن قاضي التحقيق وكاتبه ! – دون مراجعة، رغم أنهما نالتا نصيبا وافرا من الانتقاد؛ ليس لأنهما ينالان من كبرياء هيئة كتابة الضبط وحسب، بل لأن تطبيق مقتضياتهما على أرض الواقع من شأنه المس بضمانات المحاكمة العادلة.
وبخصوص مشروع النظام الأساسي للقضاة فقد شهد مشروع القانون المنظم – الذي تمت المصادقة عليه في المجلس الوزاري الأخير – تراجعا واضحا حتى عن المسودات التي كانت قدمتها وزارة العدل والحريات نفسها فيما يتعلق بولوج كتابة الضبط إلى القضاء، حيث نصت المادة السابعة من المشروع الجديد على إعفاء أساتذة التعليم العالي الذين مارسوا التدريس الجامعي في فرع من فروع القانون لمدة لا تقل عن عشر سنوات، وكذا المحامين الذين مارسوا مهنة المحاماة لنفس المدة شرط توفرهم على شهادة الدكتوراه، أما كتابة الضبط فلم يأت المشروع على ذكرها عكس ما فعل بالنسبة للمسودتين السابقتين، بل أشار فقط إلى أن فئات المهنيين والموظفين يخضعون لاجتياز المباراة من أجل الولوج إلى السلك القضائي، وهذا يضرب في العمق الأهداف التي رام الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة تحقيقها والمتعلقة بمقاربة إشكاليات التكوين والتخليق والنضج، إذ نعتقد – في كتابة الضبط – أن تمكين هذه الأخيرة من الولوج إلى القضاء سيمهد الطريق من أجل تجاوز أبرز المعيقات التي يعاني منها قضاؤنا سواء فيما يخص جودة التكوين أو التخليق أو النضج،
ذلك أنه بحكم الاحتكاك الميداني المستمر بالمجال القضائي فإن هيئة كتابة الضبط راكمت تجربة لا يستهان بها سواء فيما يتعلق بتطبيق قانون الموضوع أو قانون الشكل، وقد كان لإحداث مديرية تكوين كتاب الضبط بالمعهد العالي للقضاء الفضل في الرفع من مستوى التكوين لدى هذه الفئة رغم محدودية عدد المستفيدين وضعف الإمكانات المرصودة لهذا الغرض. وسيتعزز هذا البناء بإحداث المدرسة الوطنية لكتابة الضبط مثلما أوصى الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة، زد على ذلك أن إعطاء الأولوية في ولوج القضاء لهيئة كتابة الضبط من شأنه أن يحفز العاملين بهذه الهيئة ويحثهم على مزيد من الكد والاجتهاد.
كما أن احتفاظ الوزارة الوصية بالملف الإداري الخاص بكل موظف، يجعلها قادرة على ضبط أدق تفاصيل حياته المهنية بل والخاصة، وهو ما من شأنه أن يساعد الجهات المعنية على التعرف على شخصية المعني بالأمر ومدى كفاءته وصلاحه لولوج القضاء من عدمه، وهو ما سيسهم بقسط وافر في حل إشكالية التخليق عوض إدماج أشخاص لا تعرف لهم سيرة.
ينضاف إلى ما سبق أن أطر وموظفي كتابة الضبط الذين يلتحقون بالقضاء بعد سنوات من التجربة الميدانية يكونون قد بلغوا من النضج ما لم يبلغه غيرهم ممن يتم إلحاقهم بشكل مباشر بسلك القضاء، فعامل السن والدربة يلعبان دورا محوريا في صقل شخصية الموظف، وإعطائه الثقة بالنفس والهيبة المتطلبة في القاضي.
وقد اكتمل هذا المسلسل بما حملته مسودة مشروع التنظيم القضائي للمملكة التي جاءت محبطة في كل ما له علاقة بكتابة الضبط، حيث عملت على تكريس تبعيتها للجهاز القضائي، في الوقت الذي كان الجميع يترقب أن يحدث فك الارتباط بين الجهاز القضائي والجهاز الإداري بما يساهم في تحديد المسؤوليات وتحقيق النجاعة القضائية. وما زاد الأمر تعقيدا هو أن تكريس هذه التبعية يأتي في وقت أكد فيه المشروع المتعلق بالنظام الأساسي للسلطة القضائية أن الجهاز القضائي سيكون تحت سلطة هذه الأخيرة، أما الجهاز الإداري فسيكون تابعا للسلطة الحكومية المكلفة بالعدل. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: ما هي الجهة التي سينعقد لها الاختصاص في حالة وقوع خلاف أو نزاع بين الجهاز الإداري والجهاز القضائي ؟
لكن الخطأ الأفدح برأيي يبقى هو إحالة مشاريع القوانين إلى البرلمان دون أخذ رأي كتابة الضبط بشأنها، وإلا فليجبني أهل الذكر أين ملاحظات كتابة الضبط بشأن النظام الأساسي للسلطة القضائية والنظام الأساسي للقضاة وقانون المسطرة المدنية التي أصبحت كلها مشاريع قوانين ؟. ولمن لا يعرف خطورة الموقف نذكره أن إحالة مشروع قانون إلى البرلمان يعني أن المشروع أصبح على بعد خطوة قليلة من أن يتحول إلى قانون، حيث أن النافذين ومن تربطهم علاقات قوية بالمشرعين هم من يستطيعون أن يحولوا مجرى هذه القوانين لصالحهم، والإدارة القضائية وكتاب الضبط على وجه الخصوص لا يتمتعون بمثل هذا النفوذ ! وكل هذا الذي سردناه لا يمثل إلا النزر اليسير من حجم الحيف الذي لحق هيئة كتابة الضبط جراء إقصاء مزدوج تجسد من خلال إقصائها من اللجنة التي أدارت الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة أولا، واستبعاد مقترحاتها عند عرض مسودات مشاريع القوانين ثانيا.
لكل هذا أقول : ما هكذا تورد الإبل يا سيد الوزير ! وأؤكد لحضرته دون مواربة : إذا كان هذا حظ كتابة الضبط من الإصلاح فإننا سنتحسر على هذا الزمن الذي يسبق الإصلاح!.
وفي الختام لا يسعني إلا أن أشكر التمثيليات النقابية وكل الجمعيات العاملة بالقطاع لكونها سهلت مأمورية السيد الوزير بفعل تشتتها وتباعد وجهات نظرها وغياب موقف موحد من كل ما يجري ! وبذلك أمكن لجنابه المحترم أن ينام قرير العين فرحا بهذه الهدية الثمينة التي سيقت إليه سوقا، ولا يبقى لكتاب الضبط من عزاء سوى قول رب العزة على لسان إبليس مخاطبا أتباعه: ” فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ” صدق الله العظيم وقضي الأمر .
بقلم ذ عبد الناصر ابراهمي
باحث في المساطر القضائية
اترك تعليقاً