بقلم ذ عبد الناصر ابراهمي
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
باحث في المساطر القضائية
تحت عدد: 131
في إطار سعيها نحو تفعيل مقتضيات الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة أصدرت وزارة العدل والحريات مسودة مشروع القانون المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة، بعدما كانت قد أصدرت مشاريع القوانين المتعلقة بالسلطة القضائية والنظام الأساسي للقضاة، وكذا مسودتي مشروعي القانونين المتعلقين بالمسطرة المدنية والمسطرة الجنائية.
و يأتي الاهتمام بمشروع القانون المذكور لكونه من القوانين المؤطرة لعمل كتابة الضبط من جهة، وللدور المحوري الذي تلعبه كتابة الضبط في العملية القضائية من جهة ثانية. وبالنظر للأهمية التي يكتسيها الموضوع فإنه من المفيد استقراء موقع كتابة الضبط من خلال هذه المسودة، سواء بين مكونات التنظيم القضائي وقواعد عمل الهيئات القضائية، أو فيما يرجع للتنظيم الداخلي والتدبير الإداري للمحاكم.
لكن قبل الخوض في كل ذلك يجدر بنا التذكير أن كتابة الضبط كانت قد أقصيت من اللجنة التي أدارت الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، وهي اللجنة التي كانت قد أوصت من خلال الهدف الفرعي الخامس من الميثاق الذي أصدرته في ختام أعمالها بـ “اعتماد آليات تعاون بين المجلس الأعلى للسلطة القضائية والسلطات الأخرى ، وأوردت ضمن هذا الهدف “التنسيق بين المجلس الأعلى للسلطة القضائية ووزارة العدل في مجمل شؤون منظومة العدالة، لا سيما فيما يتعلق بتعيين مسؤولي كتابة الضبط بالمحاكم “، كما نصت من خلال الهدف الرئيسي السادس المتعلق بـ “إقامة إدارة قضائية احترافية ومؤهلة” على جملة من التوصيات من ضمنها : “إحداث منصب مسير إداري بالمحكمة ، يقوم بمهام التسيير تحت إشراف المسؤولين القضائيين بها”.
و قد أثارت هذه التوصية الكثير من ردود الفعل سواء على مستوى كتابة الضبط أو على مستوى ممثلي رؤساء المصالح، مما اضطر وزارة العدل والحريات عند إصدارها لمسودة مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية في نسختها الثانية إلى الأخذ بعين الاعتبار هذه الملاحظات، حيث اقترحت صيغتين لتجاوز هذا الإشكال، إحداهما نصت على أن “تتولى السلطة الحكومية المكلفة بالعدل الإشراف الإداري والمالي على المحاكم بما لا يتنافى ومبدأ استقلال السلطة القضائية، كما تعين مسيرا إداريا يتولى مهام التسيير والتدبير الإداري بالمحكمة”(1).
وإكمالا لنفس التصور تم التنصيص بذات المادة أعلاه على أن “يحدث على صعيد كل محكمة مجلس إدارة للمحكمة لتدبير سيرها الإداري، يتكون من المسؤول القضائي والمسير الإداري.
ترفع القضايا الخلافية إلى آلية التنسيق المنصوص عليها في المادة السابقة (2)”.
إلا أن وزارة العدل والحريات اكتفت في الصيغة الأخيرة التي تمت المصادقة عليها في المجلس الوزاري بالتنصيص في المادة 51 من المشروع على أنه “تحدث هيئة مشتركة بين المجلس الأعلى للسلطة القضائية والسلطة الحكومية المكلفة بالعدل تتولى التنسيق في مجال الإدارة القضائية، تعمل تحت إشراف كل من الرئيس المنتدب للمجلس والسلطة الحكومية المكلفة بالعدل، كل فيما يخصه، بما لا يتنافى واستقلال السلطة القضائية.
يحدد تأليف الهيئة واختصاصاتها بقرار مشترك للرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية والسلطة الحكومية المكلفة بالعدل”.
وارتباطا بهذا الإطار جاءت مسودة التنظيم القضائي لتكشف المستور ولتميط اللثام عن النظرة النمطية لوزارة العدل والحريات تجاه هذه الفئة التي يشهد الجميع بمحورية دورها في العملية القضائية، ولتظهر أن اللقاءات التي جمعت مسؤولي الطرفين كانت فقط من باب ” شاوروهم وخالفوهم “، حيث أن هذه المسودة جاءت لتكريس تبعية كتابة الضبط للجهاز القضائي، في الوقت الذي كان الجميع يترقب أن يحدث فك الارتباط بين الجهاز القضائي والجهاز الإداري بما يساهم في تحديد المسؤوليات وتحقيق النجاعة القضائية، كما أن المسودة جاءت بالكثير من المصطلحات الغريبة والمبهمة من قبيل : مسير إداري، ومصطلح “ بما لا
(1) تم التنصيص على هذه الصيغة كاقتراح مواز في المادة 52 من مسودة مشروع القانون المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية صيغة 25 ديسمبر 2013.
(2) المقصود المادة 52 من مسودة مشروع القانون أعلاه والتي جاء فيها:” تحدث آلية للتنسيق بين المجلس الأعلى للسلطة القضائية والسلطة الحكومية المكلفة بالعدل في مجمل شؤون منظومة العدالة، تعمل تحت إشراف كل من الرئيس المنتدب للمجلس والوزير المكلف بالعدل، يحدد تأليفها واختصاصاتها بقرار مشترك لهما”.
يتنافى واستقلال السلطة القضائية ” الذي كلما ذكرت كتابة الضبط إلا وذكر بجانبها، وكأن كتابة الضبط هي من تقف في وجه استقلال السلطة القضائية !
وهذا الكلام تكرر عبر عدد من البنود التي تضمنها المشروع، خاصة في الباب المتعلق بمكونات التنظيم القضائي ومقوماته وكذا الباب الذي يهم التنظيم الداخلي والتسيير الإداري للمحاكم. وقد صاحب كل ذلك إقصاء تام لكتابة الضبط برؤسائها ومرؤوسيها من مواقع اتخاذ القرار، سواء على مستوى محاكم الدرجة الأولى أو الثانية أو على مستوى محكمة النقض. وهذا ما تترجمه المادة الثالثة من المشروع التي جاء فيها : “تحدث على صعيد كل محكمة لجنة تعمل بصفة منتظمة، لبحث ودراسة صعوبات سير العمل بها، ووضع الحلول المناسبة لذلك. ويتم إشراك “هيئة المحامين” ممثلة في شخص النقيب في هذه اللجنة التي يرأسها رئيس المحكمة بعضوية رئيس النيابة العامة لديها، والمسير الإداري للمحكمة مقررا”.
ولم يقف المشروع عند هذا الحد بل نص من خلال المادة 28 منه على أن الجمعية العامة لمحاكم أول درجة ومحاكم ثاني درجة تتكون من جميع قضاة الأحكام والنيابة العامة العاملين بها، وبحضور المسير الإداري للمحكمة باعتباره مقررا. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا : أين هي كتابة الضبط أو من يمثلها ؟ ولماذا يحضر المسير الإداري بصفته مقررا فقط ؟
وإمعانا في الإقصاء جاءت المادة 30 من المشروع لتؤكد أن جدول أعمال الجمعية العامة للمحكمة يتضمن جملة مواضيع وذكر منها : ”تدارس الطرق الكفيلة بالرفع من النجاعة القضائية بالمحكمة وتحديث أساليب العمل بها، وضع البرنامج الثقافي والتواصلي للمحكمة، وحصر مواضيع التكوين المستمر لقضاتها وموظفيها،و تحديد حاجيات المحكمة من الموارد البشرية والمادية “.
ومعلوم أن كتابة الضبط معنية بشكل مباشر بكل هذه المواضيع، فكيف يتأتى مناقشة أمور تتعلق بالإدارة القضائية في غياب كتابة الضبط أو من يمثلها ؟
أما على مستوى التسيير الداخلي للمحاكم فقد نص المشروع من خلال المادة 19 على خضوع موظفي هيئة كتابة الضبط إداريا للسلطة الحكومية المكلفة بالعدل ومراقبتها، بما لا يتعارض مع انضباطهم في عملهم لسلطة ومراقبة المسؤولين القضائيين بالمحكمة التي يعملون بها.
و لا أدري كيف يستقيم في عرف وزارة العدل والحريات فرض التبعية على كتابة الضبط بحجة عدم المساس باستقلالية جهة أخرى ؟!!!
وإذا كان المشروع قد نص على أن المسير الإداري هو من سيتولى، على صعيد المحاكم، ضبط عمل مختلف مصالح كتابة الضبط، والإشراف على موظفي هيئة كتابة الضبط العاملين بها، مع خضوعه إداريا للسلطة الحكومية المكلفة بالعدل ومراقبتها…، وأكد على أن اختصاصاته ستحدد بمرسوم، بعد استشارة المجلس الأعلى للسلطة القضائية. فإن المشروع أشار إلى أن الهيكلة الجديدة للمحاكم يقع على رأسها المسؤول القضائي ثم رئيس القسم ويليه رئيس الغرفة. مما يعني أن عملية إشراف هؤلاء ستمتد إلى كتابة الضبط ولا تقف عند السادة القضاة الذين يشتغلون بالغرفة أو القسم، وهذا ما يستفاد من عدد من المواد التي نصت على تكوين الغرف والأقسام، منها المادة 48 التي جاء فيها “يرأس كل قسـم من أقسام المحكمة الابتدائية ويسهر على تسييره قاض، ويرأس كل غرفة من غرفها قاض.
يتكون كل قسم من قضاة للحكم، ونائب أو نواب لوكيل الملك عدا القسم المتخصص في القضاء الإداري، وموظفين من هيئة كتابة الضبط “.
وما قيل عن المحاكم الابتدائية يقال عن المحاكم التجارية والإدارية سواء بمحاكم الدرجة الأولى أو الثانية. وهو ما يطرح أكثر من علامة استفهام عن عدد الجهات التي ستخضع لها كتابة الضبط ( المسؤول القضائي، رئيس القسم، رئيس الغرفة، المسير الإداري …) ؟
ولكي لا يجرؤ أطر وموظفو الإدارة القضائية على المطالبة برفع الظلم عنهم في المستقبل جاءت المادة 9 بما يمكن أن يشتم منه محاربة ضمنية للعمل النقابي، حيث نصت على أنه “تمارس المحاكم أعمالها، تحت إشراف مسؤوليها، بما يؤمن انتظام واستمرارية الخدمات القضائية وعقد الجلسات”.
والخلاصة التي يمكن الخروج بها من كل ما سبق أن وزارة العدل والحريات ما تزال مصرة على تهميش أطر وموظفي الإدارة القضائية سواء كانوا رؤساء أو مرؤوسين، فهي لا ترى فيهم سوى أفرادا عاجزين عن الإبداع، ولا يصلحون سوى لنظام السخرة لذا من الأفضل لهم أن يظلوا تحت وصاية ” أهل الحل والعقد “، وهو ما يمكن أن يقف حجر عثرة في وجه أي إصلاح بالنظر لأهمية الدور الذي يلعبه هؤلاء في العملية القضائية.
بقلم ذ عبد الناصر ابراهمي
باحث في المساطر القضائية
اترك تعليقاً