دور النيابة العامة في إقامة العدل
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
بقلم ذ حسوني قدور بن موسى
محام بهيأة وجدة
إن نشأة جهاز النيابة العامة في فرنسا كان في بداية القرن الرابع عشر سنة 1303، وذلك عندما عين الملك فيليب لوبون بعض الأشخاص المقربين منه ليقوموا بمهام وكلاء الملك لدى المحاكم الابتدائية ووكلاء عامين لدى المحاكم العليا لتمثيل الملك لدى هذه المحاكم، لكن عند قيام الثورة الفرنسية ألغيت النيابة العامة لأن الثورة كانت تعتبرها جهازا يخدم النظام الملكي المستبد، لكن سرعان ما اقتنع الثوار بأن النيابة العامة لا غنى عنها وهي تستطيع خدمة العدالة بشكل أفضل.
إن اختصاصات وزير العدل في فرنسا أو كما يسمى «حارس الأختام» محددة لا يمكن تجاوزها، وتنص المادة 30 من قانون المسطرة الجنائية الفرنسي على أن «وزير العدل يختص بتسيير السياسة الخاصة بالدعوى العمومية المحددة من قبل الحكومة ويسهر على تماسك تطبيقها في كافة تراب الجمهورية و يمكن له أن يشعر الوكيل العام للجمهورية بالمخالفات القانونية التي يعلمها» ولا يجوز له التدخل في شؤون القضاء أو إعطاء تعليمات إلى القضاة الجالسين أو الواقفين أو توجيههم أو التأثير عليهم لأن وزارة العدل منفصلة تماما عن القضاء و عن عمل القضاة وهذا المبدأ راسخ في النظام القضائي منذ الثورة الفرنسية سنة1789 وهو يسير بنظام حتى في حال غياب وزير العدل، لأن العدل في هذه البلاد مبدأ و قيمة إنسانية كرستها الثورة الفرنسية في إعلاناتها…
يضطلع أعضاء النيابة العامة بدور حاسم في إقامة العدل وتعزيز استقلال السلطة القضائية التي هم جزء منها، كما أن القواعد المتعلقة بأدائهم لمسؤولياتهم الهامة ينبغي أن تعزز احترامهم للمبادئ المذكورة و التزامهم بها، بحيث تسهم في إقامة عدالة جنائية منصفة وفي وقاية المواطنين من الجريمة بصورة فعالة، ولهذا كان من اللازم تأمين حصول أعضاء النيابة العامة على المؤهلات المهنية الضرورية للاضطلاع بوظائفهم عن طريق تحسين أساليب تعيينهم و تدريبهم القانوني والمهني.
إن إعلان مبادئ العدل الأساسية المتعلقة بضحايا الإجرام والتعسف في استعمال السلطة الصادر عن الأمم المتحدة يوصي بأن تتخذ على الصعيدين الدولي والوطني تدابير صارمة لتحسين سبل وصول ضحايا الإجرام إلى العدالة الجنائية، ومعاملتهم معاملة منصفة ورد حقوقهم إليهم وتعويضهم ومساعدتهم، كما أن مؤتمر الأمم المتحدة السابع الخاص بمنع الجريمة ومعاملة المجرمين طالب في قراره السابع اختيار أعضاء النيابة العامة وتدريبهم مهنيا تماشيا مع ما ينتظر منهم من مهام و سلوك ووسائل تعزيز مساهمتهم في السير السلس لنظام العدالة الجنائية وتعاونهم مع الشرطة، وأكد على أن يكون الأشخاص الذين يختارون لمنصب النيابة العامة من بين ذوي النزاهة و المقدرة العلمية و حاصلين على تدريب ومؤهلات ملائمة، وأوصى المؤتمر بتضمين معايير اختيار أعضاء النيابة العامة ضمانات تحول دون تعيينهم على أساس التحيز أو المحاباة كما ينبغي توعيتهم إلى المثل و الواجبات الأخلاقية لوظائفهم والحماية الدستورية والقانونية لحقوق المشتبه فيهم والضحايا، وينبغي لأعضاء النيابة العامة بوصفهم أطرافا أساسيين في مجال إقامة العدل الحفاظ دوما على شرف مهنتهم وكرامتها وفي المقابل تكفل الدولة تمكين أعضاء النيابة العامة من أداء وظائفهم دون ترهيب أو مضايقة أو تدخل غير لائق في وظيفتهم.
وأضاف تقرير الأمم المتحدة أنه يجب أن تؤمن السلطات العمومية حماية أعضاء النيابة العامة، وأسرهم بدنيا عندما تتعرض سلامتهم الشخصية للخطر بسبب اضطلاعهم بوظائف النيابة العامة وأكد مؤتمر الأمم المتحدة على أن أعضاء النيابة العامة شأنهم شأن غيرهم من المواطنين لهم الحق في حرية التعبير و تشكيل الرابطات والانضمام إليها وعقد الاجتماعات ويحق لهم بصفة خاصة المشاركة في المناقشات العامة في الأمور المتعلقة بالقانون و إقامة العدل وتعزيز حقوق الإنسان وحمايتها من خلال وظيفتهم، وكذلك الانضمام إلى منظمات وطنية ودولية أو تشكيلها وحضور اجتماعاتها دون أن يلحق بهم أي أذى من الوجهة المهنية بسبب عملهم المشروع أو عضويتهم في منظمة مشروعة.
إن المنطق القانوني وكذلك بحكم المهام التي يقوم بها أعضاء النيابة العامة، فإن سلطتهم ليست إدارية كما يعتقد البعض لأنهم قضاة أصلا يشكلون مع قضاة الأحكام هيأة واحدة، ولهذا فإن استقلال القضاء يشمل قضاة الحكم وقضاة النيابة العامة على السواء لأن تبعية النيابة العامة لوزير العدل الذي يشغل منصبا سياسيا سيؤثر حتما على استقلال هذا الجهاز الذي يعتبر أساسيا في إقامة العدل والذي يرتكز على مبدأ عدم الإفلات من العقاب بالنسبة لمن يستحقه وفي عدم متابعة وعدم معاقبة من لا يستحق المتابعة والعقاب، وتبقى النيابة العامة التي تمثل «المصلحة العامة» أو كما يسميها البعض «الحق العام» جهازا يهدف إلى تنفيذ السياسة الجنائية والسهر على احترام تطبيق القانون ( المادة 110 من الدستور)، وتلعب دورا في ترسيخ العدالة وتعزيز احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية فضلا عن حماية المجتمع من الجريمة بحيث تستطيع النيابة العامة تحريك الدعوى العمومية بمجرد تلقي وشاية أو شكاية و تتبعها و تسخير القوة العمومية (المادتان 36 و 40 من قانون المسطرة الجنائية )،
هذا فضلا عن الدور المهم الذي تقوم به النيابة العامة في تسيير عمل الضابطة القضائية والإشراف على عملها خلال البحث التمهيدي الذي يعتبر مرحلة مهمة وخطيرة في البحث عن الجرائم (المادة 44 من قانون المسطرة الجنائية)، ويسهر وكيل الملك على احترام إجراءات الحراسة النظرية وآجالها وعلى مباشرتها في الأماكن المعدة لهذه الغاية كما يسهر على احترام أنسنة ظروف الاعتقال (المادة 45 من قانون المسطرة الجنائية) ومعاينة آثار التعذيب التي قد يتعرض لها المحتجزون داخل مخافر الشرطة، إضافة إلى مهمة تنفيذ العقوبات، فهذا عمل قضائي يجب أن يتم بعيدا عن التدخلات والضغوطات والتأثيرات لأنه يتعلق بحقوق المواطنين وحرياتهم، لكن هذا لا يعني أن النيابة العامة لا تسأل عن أعمالها المخالفة والمنافية للقانون فتفعل ما تشاء دون مراقبة ولا محاسبة بل هي معرضة للمساءلة في حال ارتكابها خطأ مهنيا يمس بحقوق وحريات المواطنين، والرقابة في هذه الحالة تقوم بها وزارة العدل وهيأت المحامين وغيرها من الفعاليات الحقوقية والمدنية التي تتابع و ترصد انتهاكات حقوق الإنسان التي قد يتعرض لها المواطنون على يد النيابة العامة والضابطة القضائية.
إن استقلال النيابة العامة والقضاء بصفة عامة لن يتم إلا عن طريق تعديل القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية وكذلك النظام الأساسي للقضاة، ومن أهم المقترحات التي يطالب بها القضاة هي ضرورة إشراك القضاة من خلال جمعياتهم المهنية في تأسيس مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة والتأكيد على إنهاء هيمنة وزارة العدل على هذا القطاع وترتيب القضاة في درجات تسلسلية على أساس الكفاءة القانونية والعلمية والأخلاقية والنزاهة والتجرد وجودة الأحكام، واعتماد أسلوب الانتخاب من طرف جميع قضاة المغرب في ما يخص منصب الوكيل العام للملك بمحكمة النقض والرئيس الأول بها، وموافقة الملك على ذلك بظهير مع تحديد ولايتهما لمدة معينة غير قابلة للتجديد، كما يجب إلغاء التمديد الذي يسيل لعاب بعض القضاة المتقاعدين والذي يخضع في معاييره للتدخلات والعلاقات الشخصية والعائلية والحسب والنسب حتى يترك المجال للشباب خريجي الجامعات العاطلين الحائزين على الكفاءات العلمية العالية.
إن استقلال القضاء عامة والنيابة العامة خاصة في فرنسا مستمد من روح الثورة الفرنسية، ولا يخشى وكيل الجمهورية أي شخص مهما بلغ شأنه في الدولة، وفي هذا الصدد قررت النيابة العامة في فرنسا عدة مرات اتهام رؤساء الجمهورية رسميا كما وقع للرئيس السابق جاك شيراك ومن بعده نيكولا ساركوزي الذي وجهت إليه تهم تتعلق بالفساد واستغلال النفوذ وانتهاك السر المهني بشأن مساعيه معرفة سير التحقيق في ملفات تتعلق بتمويل غير شرعي ليبي لحملته الانتخابية لسنة 2007، فوضعت الشرطة الفرنسية نيكولا ساركوزي تحت الحبس الاحتياطي للتحقيق معه بتهمة التورط في استغلال النفوذ بعدما كانت قد وضعت تحت الحراسة النظرية محاميه تييري هرزوغ وقاضيين متهمين بتسريب معلومات حول سير التحقيق في ملفات أهمها ملف تمويل مفترض للرئيس الليبي المعزول والمقتول معمر القذافي للحملة الانتخابية لساركوزي سنة 2007. أما في بلادنا فان «القانون هو شبيه بعش العنكبوت الذي لا تعلق به إلا الحشرات الصغيرة»، واستقلال القضاء هو «شبيه بعلاقة الخادم بالمخدوم»، لأن القانون في الدول المتخلفة ليس إلا تعبيرا عن إرادة السلطة الحاكمة تصنعه كما تشاء، وأن المشاركة في صنع القوانين تكون بعيدة المنال، أما في الدول الديمقراطية الراقية، فإن النيابة العامة تعتبر طرفا أساسيا في إقامة العدل.
بقلم ذ حسوني قدور بن موسى
محام بهيأة وجدة
اترك تعليقاً