حُجيّة الأمر المَقضِي
الدفعُ به كأثر سلبيّ والتمسّكُ به كأثرإيجابيّ
* يُعَد الدفع بعدم جواز نظر الدعوى لسابقة الفصل فيها، من أشهر الدفوع التي يعلمها القاصى والداني من المشتغلين بالقانون، وفى كثير من الأحيان يتم إلقاء ذلك الدفع على المحكمة، دون النظر إلى الخلفية القانونية والعلمية والفقهية لنظرية حجية الأمر المقضي، والتي أطلق عليها المشرع وجانب من الفقه والقضاء مصطلح قوة الأمر المقضي، وجانب آخر يطلق عليها مصطلح حجية الشئ المحكوم فيه، وأياً كان المسمى، فإن الذي يجب أن يعلمه المشتغلون بالقانون أن الدفع بعدم جواز نظر الدعوى لسابقة الفصل فيها، ليس هو الدفع الوحيد المترتب على حجية الأمر المقضي، بل أن ذلك الدفع لا يعدو أن يكون إلا الأثر السلبي المترتب على حجية الأمر المقضي، والذي يمنع من معاودة نظر ذات النزاع الذي حسم بحكم قضائي نهائي أو بات، أمام أية محكمة أخرى بدعوى مُبتدأة يُثار فيها ذات النزاع، بشرط أن يتوافر فى كل من الدعويين السابقة واللاحقة وحدة الخصوم والمحل والسبب. أما الأثر الإيجابي المترتب على حجية الأمر المقضي – وهو الأثر الأصلي لحجية الأمر المقضي – فإنه لا يحتاج للتمسك به توافر وحدة الخصوم والمحل والسبب، بل يجوز التمسك به ولو اختلف موضوع الدعوى السابقة عن الدعوى اللاحقـة .
مثـال ذلـك: قيام المستأجر برفع دعوى تحديد أجرة ضد المؤجر، فإذا ما حسمت المحكمة قيمة تلك الأجرة بهذه الدعوى بموجب حكم نهائي أو بات، ثم قام المؤجر بعد ذلك برفع دعوى إخلاء ضد المستأجر لتأخره عن دفع قيمة هذه الأجرة، فإن المستأجر لا يستطيع أن يُجادل فى قيمة هذه الأجرة مرة أخرى أمام المحكمة التي تنظر دعوى الإخلاء، إذ أن المؤجر يحق له أن يتمسك بالأثر الإيجابي لحجية الأمر المقضي التي اكتسبها ما قضى به الحكم الصادر فى دعوى تحديد قيمة الأجرة السابقة، والذي حسم النزاع بشأن قيمة الأجرة، ولا يمنع المؤجر من التمسك بذلك الأثر الإيجابي لحجية الأمر المقضي، كون موضوع الدعوى السابقة – دعوى تحديد قيمة الأجرة – يختلف عن موضوع الدعوى الأخيرة – دعوى الإخلاء للتأخير فى دفع قيمة الأجرة – وهذا ما يُميّز الأثر الإيجابي لحجية الأمر المقضي، عن أثره السلبي.
وفيما يلي نعرض الخلفية القانونية والعلمية والقضائية والفقهية التي تحتضن كل من الأثر الإيجابي والأثر السلبي لحجية الأمر المقضي:
¶ تنص المادة رقم (101) من قانون الإثبات على أنه:
(الأحكام التي حازت قوة الأمر المقضي، تكون حُجة فيما فصلت فيه من الحقوق، ولا يجوز قبول دليل يُنقض هذه الحجية، ولكن لا تكون لتلك الأحكام هذه الحجية إلا فى نزاع قام بين الخصوم أنفسهم، دون أن تتغير صفاتهم، وتتعلق بذات الحق محلاً وسبباً، وتقضى المحكمة بهذه الحجية من تلقاء نفسها).
¶ وتنص المادة رقم (249) من قانون المرافعات على أنه:
(للخصوم أن يطعنوا أمام محكمة النقض فى أي حكم انتهائي – أياً كانت المحكمة التي أصدرته – فصل فى نزاع خلافاً لحكم آخر سبق أن صدر بين الخصوم أنفسهم وحاز قوة الأمر المقضي).
¶ ويذهب الفقه – بشأن الأثر الإيجابي لحجية الأمر المقضي – إلى ما نصـه:
(يميز الفقه فى حجية الأمر المقضي، بين الدفع بهذه الحجية وبين التمسك بها، فهذان شيئان منفصلان، الأول هو دفع موضوعي يهدف إلى عدم قبول الدعوى الجديدة، والمدعى عليه هو الذي يدفع به هذه الدعوى، أما الثاني فليس بدفع، بل هي حجية الأمر المقضي ذاتها يتمسك بها المدعى فى دعوى يقيمها هو، فقد يكون مجنياً عليه فى جريمة وصدر حكم جنائي بإدانة المتهم، فيتمسك فى دعوى التعويض المدنية التي يرفعها ضد المحكوم عليه بحجية الحكم الجنائي فيما يتعلق بالوقائع التي فصل فيها هذا الحكم وكان فصله فيها ضرورياً…. ويجوز أن يتمسك بهذه الحجية أمام المحكمة المدنية فى حكم صدر من محكمة مدنية أخرى، مثال ذلك حصول المستأجر على حكم بصحة عقد الإيجار فى مواجهة المؤجر، وقبل أن يتسلم العين المؤجرة يبيعها المؤجر إلى آخر، فيرفع المستأجر دعوى على المشترى يطالبه فيها بتسليمه العين، ويتمسك فى هذه الدعوى بحجية الحكم الصادر بصحة عقد الإيجار فى الدعوى السابقة، وقد قيل: إمعاناً فى التمييز بين التمسك بحجية الأمر المقضي والدفع بهذه الحجية، أن لكل منهما شروطاً تتميز عن شروط الآخر، فالشروط الواجب توافرها فى الحكم لتثبُت له الحجية، هي شروط التمسك بحجية الأمر المقضي، أما شروط الدفع فهي وحدة الخصوم والمحل والسبب). (راجع فى ذلك، الدكتور/ عبد الرزاق السنهوري، الوسيط فى شرح القانون المدني، الجزء الثاني، الطبعة الأصلية القديمة ص 635 وص 636 وص 637).
¶ كما ذهب الفقه أيضاً فى هذا الشأن، إلى ما نصـه:
(إن قوة الأمر المقضي تعتبر قرينة قانونية قاطعة إذ يترتب عليها إعفاء من يتمسك بالحكم من عبء إثبات مطابقة المدون به للواقع، وهذا هو الأثر الأصلي لحجية الشئ المحكوم فيه، ويسمى الشراح هذا الأثر بالأثر الإيجابي لحجية الشئ المحكوم فيه، باعتبار أنه يؤدى إلى الوصول إلى نتيجة جديدة يُراد ترتيبها على ما قضى به الحكم المتمسك بحجيته ،ويتفرع على الأثر الإيجابي للحجية أثر سلبي، يتمثل فى تخويل كل من كان طرفاً فى الدعوى التي صدر فيها الحكم، الحق فى أن يدفع محاولة خصمه بإثبات عكس المقضي به بدعوى مبتدأة ،أو بدفاع يُبديه عند الاحتجاج عليه بذلك الحكم، وهذا الأثر السلبي للحجية يؤدى إلى منع المحكمة المطروحة أمامها دعوى جديدة متحدة مع الدعوى السابقة موضوعاً وسبباً وخصوماً من نظرها. ولا يصح الإغراق فى التمييز بين الأثر الإيجابي والأثر السلبي للأحكام، فهما وجهان متقابلان لشئ واحد إذا تمسك به المدعى استند إلى أثره الإيجابي، وإذا تمسك به المدعى عليه كان ذلك إعمالاً لأثره السلبي، غير أن هذا لا ينفى أن إعمال الأثر السلبي لحجية الشئ المحكوم فيه «وهو عدم جواز نظر الدعوى الجديدة لسابقة الفصل فيها»، يقتضى توافر شروط معينة متفرعة على قاعدة نسبية الأحكام هي وحدة الخصوم والسبب والمحل. أما إعمال الأثر الإيجابي للأحكام، فلا يحتاج إلى توافر تلك الشروط، لأنه بالعكس من ذلك، يكون إما نتيجة لثبوت الحجية لبعض أنواع من الأحكام، وإما نتيجة لثبوت قوة ثبوتية للأحكام بصفة عامة). (راجع فى ذلك المستشار الدكتور/ عبد الحكم فودة، حجية الأمر المقضي وقوته فى المواد المدنية والجنائية، الناشر منشأة المعارف بالإسكندرية، طبعة 1994 ص 639 وص 640).
¶ وقد قضت محكمة النقض – بشأن أن أسباب الحكم المرتبطة بمنطوقه تحوز قوة الأمر المقضي المانعة من معاودة التنازع فى المسألة التي حسمتها تلك الأسباب – قضت بما نصـه:
(متى كانت المحكمة فى دعوى إخلاء المحل المؤجر استناداً للقانون رقم 121 لسنة 1947، قد عرضت فى حكمها إلى دفاع المدعى عليه بأن العقد المبرم بينه وبين آخرين هو عقد بيع بالجدك، وقررت المحكمة عدم صحة هذا التكييف لعدم توافر شروط المادة 594/3 من القانون المدني، وأن الأمر لا يعدو أن يكون تنازلاً عن الإيجار، وكان تقريرها هذا هو العلة التي انبنى عليها منطوق حكمها بالإخلاء، فإن قضاءها فى ذلك متى أصبح نهائياً، يكون مانعاً من التنازع فى هذه المسألة فى أية دعوى تالية بين الخصوم أنفسهم، ولا يمنع من حيازته قوة الأمر المقضي، أن يكون التقرير به وارداً فى أسباب الحكم، لارتباط تلك الأسباب بالمنطوق ارتباطاً وثيقاً، بحيث لا تقوم له قائمة بدونها، ومن ثم يكون معه وحدة لا تتجزأ وتحوز قوة الأمر المقضي).(نقض مدني بجلسة 8/12/1966 مجموعة أحكام النقض 1 لسنة 17 رقم 67، منشور بالمرجع السابق للمستشار الدكتور/ عبد الحكم فودة ص 57).
¶ كما قضت محكمة النقض فى هذا الشأن أيضاً بما نصـه:
(لما كانت المحكمة قد صرحت فى أسباب حكمها بأن عقود الإيجار التي تمسك بها الدائن المرتهن فى تقدير الريع، هي عقود صورية، فإن هذا القضاء القطعي فى صورية العقود وفى عدم الاعتداد بها، يحوز قوة الشئ المحكوم فيه لوروده فى أسباب الحكم المرتبطة بمنطوقه، وعلى ذلك فإذا أخذت المحكمة عند تصفية الحساب فيما بعد بالأجرة الواردة فى عقود الإيجار، كان حكمها مخالفاً للقضاء السابق متعيناً نقضه). (نقض مدني بجلسة 11/5/1944 مجموعة عمر جزء 4 رقم 134 ص 312، منشور بالمرجع السابق للمستشار الدكتور/ عبد الحكم فوده ص 57).
¶ كما قضت محكمة النقض فى هذا الشأن أيضاً بما نصـه:
(من المقرر لنص المادة رقم 101 من قانون الإثبات – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – أنه متى حاز الحكم قوة الأمر المقضي، فإنه يمنع الخصوم من العودة إلى مُناقشة المسألة الأساسية الكلية التي فصل فيها بأي دعوى تالية تُثار فيها هذه المسألة ذاتها أو أي حق جزئي مُتفرع عنها، طالما أن ثبوت هذه المسألة أو عدم ثبوتها هو الذي ترتب عليه القضاء بثبوت الحق الجزئي المطلوب فى الدعوى السابقة أو انتفائه، فإن ذلك القضاء السابق يحوز قوة الأمر المقضي فى تلك المسألة الكلية الشاملة بين الخصوم، ويمنعهم من التنازع بطريق الدعوى أو بطريق الدفع فى شأن أي حق جزئي آخر يتوقف ثبوته أو انتفاؤه على ثبوت أو انتفاء تلك المسألة الكلية السابق الفصل فيها، ولو بأدلة قانونية أو واقعية لم يسبق إثارتها فى الدعـوى السابقة أو أثيرت ولم يبحثها الحكم الصادر فيها، إذ أن ذلك الحكم الصادر فى الدعوى السابقة يحوز قوة الأمر المقضي فيما فصل فيه بصفة صريحة أو ضمنية حتمية، سواء فى المنطوق أو فى الأسباب المتصلة بالمنطوق اتصالاً وثيقاً بحيث لا يقوم بدونها، ولا يُغيِّر من ذلك اختلاف الطلبات فى الدعويين، وإذا خالف الحكم المطعون فيه هذا النظر، فإنه يكون قد أعاد النظر فى ذات المسألة التي فصل فيها الحكم الصادر فى الدعوى السابقة، وناقض ذلك الحكم الذي حاز قوة الأمر المقضي، مما يتعين معه نقض الحكم المطعون فيه).
(نقض مدني بجلسة 3/4/1986 الطعن رقم 1346 لسنة 51ق، ونقض مدني بجلسة 26/4/1987 الطعن رقم 906 لسنة 52 ق، ونقض مدني بجلسة 26/2/1992 الطعن رقم 2149 لسنة 61 ق، منشورين فى كتاب : تقنين المرافعات فى ضوء الفقه والقضاء ، للأستاذ/ محمد كمال عبد العزيز، الجزء الأول، طبعة 1995 ص 749 وص 750 وص 751).
منقول عن الأُستاذ / حُسام مَحفوظ
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً