الوسائل البديلة لتسوية النزاع
د. عبد اللطيف القرني
لا يختلف أحدٌ في أن عدد القضايا يشهد تزايدا عجيباً، خاصة مع تزايد أنماط المال والأعمال وتشابكها، لذلك تسعى القيادات في الأوساط العدلية إلى ابتكار حلول وبدائل لتسوية النزاعات الناشئة عن هذه القضايا، وتكون هذه التسوية خارج مظلة القضاء، ومن ذلك التسوية بالتوفيق والمصالحة. ومما يحسب لوزير العدل ورئيس المجلس الأعلى للقضاء الشيخ الدكتور محمد العيسى، صدور قرار مجلس الوزراء بتاريخ 9/4/1434 هـ، الذي نص على: ”بعد الاطلاع على ما رفعه وزير العدل، قرر مجلس الوزراء الموافقة على تنظيم مركز المصالحة بالصيغة المرفقة بالقرار”. ومن أبرز ملامح التنظيم:
1 – تفعيل خيار البدائل الشرعية لتسوية المنازعات عن طريق المصالحة والتوفيق، وفق عمل مؤسسي منظم في جوانبه الإجرائية وترتيباته الإدارية، وهادف إلى تقريب وجهات النظر واحتواء المنازعات بأسلوب التصالح والتراضي مع تعزيز قيم العفو والتسامح بين أفراد المجتمع.
2 – تخفيف العبء على المحاكم وتقليص مدد التقاضي مع وجود الضمانة الشرعية والنظامية بحق التقاضي للجميع عند عدم الرغبة ابتداءً في سلوك هذا الخيار، ومع إبقاء حق المتقاضين في طلب اللجوء للقضاء انتهاءً عند عدم الوصول إلى تسوية مرضية للأطراف. وبالنظر إلى قرار مجلس الوزراء نجد في مضامينه معنى التسوية خارج إطار التقاضي، وهي تسوية أي نزاع قبل إقامة دعوى بطريق الصلح بين أطرافه سواء كان موضوع النزاع مدنياً أو تجارياً أو متعلقاً بمسألة من مسائل الأحوال الشخصية.
والهدف الرئيس لمركز المصالحة هو إنهاء النزاع بالتراضي بين أطرافه خارج دائرة القضاء، والحرص على تماسك العلاقات الاجتماعية من خلال عمل تسوية تضمن استمرار العلاقة بخلاف القضاء الذي يؤدي غالبا إلى فصل النزاع بالقوة، ولا شك أن لهذا تداعيات اجتماعية في العلاقات الإنسانية، خاصةً بين الأقارب، فضلاً عن أن الهدف الأهم هو تخفيف الضغط على المحاكم والعمل القضائي. وتعتبر الوسائل البديلة لحل النزاعات قديمة النشأة وكانت مطبقة في فرنسا بمفهوم المصالحة، واستخدمت من جديد بعد الثورة الفرنسية عام 1789، وظهرت في الولايات المتحدة خلال الأعوام 1965-1970م، وأدخلت الوساطة العائلية إلى فرنسا بتأثير من وسطاء مقاطعة الكيبيك في كندا، ويعد القانون العام أول قانون يتعلق بهذا الموضوع في 3/1/1973م وتبعه قانون 24/12/1976م الذي تم بموجبه تعيين وسيط الجمهورية. وهكذا أخذ التوفيق والوساطة طريقهما ليصبحا من الوسائل البديلة لحسم النزاعات، وهكذا وضعت اتفاقية المؤسسة العربية لضمان الاستثمار مفاوضات الوساطة والتوفيق وسيلة بديلة لحسم النزاع يرجع إليها لحسم النزاع قبل اللجوء إلى القضاء والتحكيم. وكذلك فعلت اتفاقية البنك الدولي بشأن تسوية منازعات الاستثمار بين الدول ومواطني الدول الأخرى ففتحت باب التوفيق قبل التحكيم، ونصت على إجراءات لذلك باعتباره وسيلة أخرى من وسائل حسم المنازعات بطريقة ودية.
وكذلك نص نظام المصالحة والتحكيم في غرفة التجارة الدولية على نظام المصالحة الاختيارية ووضع له إجراءات، وتطورت هذه الوسائل التي يطلق عليها في العصر الحديث Appropriate Dispute Resolution وأصبح لها دور ريادي يوازي دور المؤسسة القضائية، بل يزيد عليه كما في الولايات المتحدة والصين وكندا وأستراليا، وجاء رسم لذلك في مشروع قانون عربي استرشادي للتوفيق والمصالحة، وسنعرض بعض الأحكام المهمة التي تشرح للقارئ الكريم أهم معالم أنظمة التوفيق والمصالحة. فمنها ما ورد في المادّة (2): لا يجوز للأطراف اللجوء إلى الوسائل التحكيمية أو القضائية أثناء إجراءات التوفيق.
والمادّة (3): يقصد بالمصطلحات التالية الواردة في هذا القانون المعنى المبيّن قرين كل منها: التوفيق والمصالحة: وسيلة قانونية لفضّ المنازعات يتولاها موفق بناءً على طلب من أطراف متنازعين سعياً إلى تسوية ودّية لحلّ النزاع كلّياً أو جزئياً. الموفِّق: كل شخص أو أكثر تُعهَد إليه مهمة التوفيق.
شرط التوفيق والمصالحة: الاتفاق المسبق بين أطراف العلاقة القانونية على اللجوء للتوفيق والمصالحة عند نشوء أي نزاع بشأن تلك العلاقة.
الأطراف: كل من قَبِل أن يكون طرفاً في التوفيق سواء كان شخصاً طبيعياً أو اعتبارياً.
اتفاق التسوية: المصالحة التي تمّ التوصّل إليها لحلّ النزاع والموقّعة من الأطراف. وأهم الشروط في الموفق ما لم يتّفق الأطراف على اختيار موفق بعينه، لا بد أن يكون اسمه مسجلا في قوائم الموفقين وفق الشروط الآتية:
أ. أن لا يكون قد فقد أهليته أو صدر ضده حكم في جريمة مخلّة بالشرف، ما لم يكن قد ردّ إليه اعتباره.
ب. أن لا يكون قد اتّخذت ضده عقوبة تأديبية بإقالة أو شطب أو عزل.
ج. أن يكون من المشهود لهم بالنزاهة والحيدة والخبرة. ومدة التوفيق غالباً تحدد بمدة شبيهة بمدة التحكيم كما في المادّة (26): على الموفق الانتهاء من إجراءات التوفيق خلال مدة لا تتجاوز 90 يوماً من تاريخ بدئها ما لم يتّفق الأطراف أو تستلزم الإجراءات على تمديدها لمدة مماثلة.
وقد يتساءل القارئ الكريم: ما مصير اتفاقية المصالحة وما قيمتها عند التنفيذ؟ فنقول عالجتها القوانين كما في القانون الإرشادي ففي المادّة (30): يتمّ تنفيذ اتفاق التسوية بالكيفية الواردة فيه وله قوة السند التنفيذي.
وأيضاً المادّة (31): في حالة حدوث منازعة في التنفيذ يتمّ التنفيذ طبقاً للإجراءات المنصوص عليها في القوانين الوطنية.
وأيضاً المادّة (32):إذا توافرت في اتفاق التسوية الشروط المنصوص عليها في هذا القانون أصبح واجب التنفيذ ولا يقبل الطعن فيه بأي طريقة من طرق الطعن المنصوص عليها قانوناً. إن تفعيل دور الوسائل البديلة لحسم المنازعات هو علامة تطور في قضاء الدولة الحديثة, وفي هذا مساهمة قوية للتخفيف على المحاكم في العمل القضائي ما يعود على البيئة العدلية بمزيد من الجودة والإنجاز، إضافةً إلى تعزيز ديمومة العلاقات الاجتماعية بمبادئ المصالحة والحل الاتفاقي.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً