فقه المسكوت عنه والفراغ التشريعي
د. عبد اللطيف القرني
من نفائس دلالات التشريع الإسلامي أن هناك دوائر لم تتعرض لها النصوص الشرعية تصريحاً ولا تضميناً لاختلاف الظروف المحيطة بها، ولكون الحكم الأصلي قائما على العموم في محتوياتها، فالأصل في العبادات الحظر، والأصل في المعاملات الحل، والأصل في الأشياء الإباحة، والأصل في الطعام الحل وهكذا.. وسكت عن بعض الأمور إما إلحاقاً لدائرة الأصل فيها، وإما قد يتعرض بعضها للظروف المتغيرة، مما يجعلها تدخل ضمن نطاق الأحكام المتغيرة تحت طائلة الاجتهاد التشريعي، ويدخل في ذلك ما يسمى مرتبة العفو، أو المسكوت عنه، أو منطقة الفراغ التشريعي
وهو: مما لم يُذكر حكمه بتحليل، ولا إيجاب، ولا تحريم، ولم تأتِ من الشرع نصوص خاصة لملء هذا العفو، أو هذا الفراغ، بل كان ذلك موكولاً إلى أهل الاجتهاد – في كل عصر – لملئه بما يحقق المقاصد العامة المعتبرة في كل زمان وحال. وقد ورد في السنة النبوية عن أبي ثعلبة الخشني – رضي الله عنه – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: (إن الله فرض فرائض، فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء، فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها) رواه الدارقطني وحسنه النووي وغيره.
ويظهر لك أيها القارئ الكريم أن هذه الدائرة في الحياة مسكوت عنها للاعتبارات التي ذكرناها بداية، ولكن لا ينبغي أن يُذهب في فهم مرتبة (العفو) إلى أن الشريعة أهملت الحكم فيه إهمالاً مطلقاً بحيث لم تنصب عليه دليلاً، أو تضع له أمارة تنبه المكلف إلى مقاصدها منه، إنما المقصود بمرتبة العفو عدم نَصْب دليل يخص نوعه، وهو المسكوت عنه الذي عرف حكمه بالأدلة العامة. وأما قول الرسول – صلى الله عليه وسلم: ”فلا تبحثوا عنها” فهو محمول على اختصاص هذا النهي بزمن النبي – صلى الله عليه وسلم – أو على طريق البحث المتكلف، والنظر غير المحمود. فمرتبة العفو هذه هي إذن من أحكام الله تعالى، وأحكام دينه، ويظهر ذلك مما يلي: إن الإذن في هذا العفو إنما كان من قبل الشارع الحكيم دليل رحمته بالناس، وشاهد وضْعه الإصر والأغلال عنهم. وما يملأ هذه المرتبة بالأحكام الشرعية إنما هي الأدلة التي جاء الشرع باعتبارها، ودلت النصوص العامة للشريعة وقواعدها على مراعاتها، ومن ذلك: الاستصلاح، ومراعاة المقاصد، والقياس، والاستحسان، والاستصحاب، ورفع الحرج، وتحكيم العرف والعوائد، إلى غير ذلك من الدلائل التي أرشد الشارع إليها؛ ليتعرف المجتهد من خلالها على حكم ما لم يُنَص على حكمه في الكتاب والسنة؛ ولتكون هناك ضوابط للنظر فيما يجد من وقائع وحوادث.
وهنا تتنوع مآخذ الفقهاء في ملء هذه المرتبة، وتتعدد المسالك والطرق الموصلة إليها دون أن تضيق هذه الشريعة السمحة المباركة ذَرْعاً بواحد منها، ما دام قد وُضِع في موضعه، واستوفى شرائط اعتباره. لقد واجه المسلمون في الفتوح الأولى آلاف المسائل التي لم تكن معروفة في جزيرة العرب، فلم يعجزوا عن إيجاد الحلول الوافية لكل تلك المشكلات، بل وصلوا في ذلك إلى أحكام كانت نبراساً لمن جاء بعدهم من الفقهاء. وما كان ذلك إلا بفضل الاجتهاد المرن الذي يفتح عينيه على مقاصد الشريعة وأغراضها ومراميها، ولم يقف عند ظاهر العبارة وحرفية النص، الذي نعاني منه الأمرين في تطبيقات الحياة العملية.
هذا النوع من الفقه، وهذا الفهم في الاستنباط هو الذي مكن الفقهاء من سلف الأمة الإسلامية من أن يجدوا في شريعة الإسلام كل ما يحتاجون إليه في الفتيا، وفي الحكم والقضاء، وفي كل ما فيه إصلاح الجماعة الإنسانية وتمكين روابطها، والنهوض بها من كمال إلى أكمل منه.
وهذا الفقه الذي يوقف به على مقاصد الشريعة وأغراضها هو الذي كان يحدو بالفقهاء إلى أن يعدلوا عن فتاوى وأحكام كانت لهم في بعض المواطن ليفتوا على خلافها، وأن يكون لمثل الإمام الشافعي في كثير من المسائل مذهب قديم ومذهب جديد. فإن تغير الرأي وعدول الفقيه عن اجتهاده الأول ليس سببه في جميع الأحوال راجعاً إلى تبين وجه الصواب بعد الخطأ، ولا إلى ظهور دليل قوي كان خافياً عليه من قبل، ولكنه كثيراً ما يكون سببه تنقل المجتهد في الأقطار.
ووقوفه على تغاير العرف والعادات عند الأمم المختلفة، فيراعي في أحكامه وفتاواه هذا الاختلاف. وفي هذه الحالة يكون كلا اجتهاديه صحيحاً معتبراً وهو ما يفسر تغير الفتاوى لدى العالِم الواحد في أزمنة مختلفة. أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، والحمد لله الذي يسخر للمظلومين من حيث لم يحتسبوا، ويقلب ظواهر الأحوال بقدرته وجبروته، ألا إلى الله تصير الأمور.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً