الوصية والإجراءات القضائية
صالح بن عبد الرحمن الشبرمي
الوصيّة :
في اللغة: مأخوذة من وصَّيتُ الشيءَ إذا وصّلته ،سمّيت بذلك؛ لأنها وصْلٌ لما كان في الحياة بعد الموت، وهي اسمُ مفعول.
وفي الاصطلاح: هبةُ الإنسانِ غيرَه عَيْناً أو ديناً أو منفعةً على أن يملكَ الموصَى له الهبةَ بعد الموت. وبعبارة مختصرة : التبرُّعُ بالمال بعد الموت.
ودلَّ على مشروعيّة الوصيةِ الكتابُ والسنّةُ والإجماعُ، قال الله تعالى(كُتِبَ عليكم إذا حَضَرَ أحدَكم الموتُ إنْ تركَ خيراً الوصيةُ للوالدين والأقربينَ بالمعروفِ حقّاً على المتّقين).وروى البخاريُّ ومسلمٌ من حديثِ ابنِ عمرَ- رضي الله عنهما – قال: قال رسولُ الله- صلّى الله عليه وسلّم ” ماحقُّ امرئٍ مسلمٍ له شيءٌ يريد أن يوصِي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيتُه مكتوبةٌ عنده “قال ابنُ عمرَ: ما مرّتْ عليّ ليلةٌ منذ سمعتُ رسولَ الله- صلّى الله عليه وسلّم – يقول ذلك إلا وعندي وصيّتي.
وقد نقل ابنُ قدامةَ الإجماعَ على جواز الوصيّة قال رحمه الله: وأجمع العلماءُ في جميع الأمصار والأعصار على جواز الوصية. المغني (٨/٣٩٠).
ومن حكم الشارع في الوصية أنها عملٌ ينتفع به المسلمُ بعد وفاته في حسن إدارة أمواله وأولاده، وبيان ماله، وما عليه من حقوق وواجبات، ومنها أنها أبرأُ للذمم وعدمِ انشغالهِا بالديونِ التي على الموصِي، وقطع الطريقِ أمام من يدَّعي أنّ له حقّاً على الموصِي، ثم إنّها صدقةٌ تصدَّق اللهُ بها على الموصِي بعد وفاته، استمراراً لطلبِ الثوابِ وزيادةً في عمل الصالحات بعد الموت، ومنها أنه تذكُّرٌ للآخرةِ والعملِ لما بعد الموت، وأنَّ هذه الدنيا دارُ ممرٍّ لا مقرّ.
ما حكم كتابة الوصية؟
يدور حكمُ الوصيّةِ بين الإيجاب والاستحباب، والكراهة والتحريم، فتكون الوصيةُ واجبةً إذا كان على الإنسان دَينٌ لا بيّنةَ به، أي أنه يكونُ مديناً ولا أحدَ يعلم بالدّين إلا الله وتكون مستحبةً إذا كان الموصِي ذا مالٍ، وورثتُه كذلك، فيوصي لنفسه ولورثته وللمسلمين ما يرى فيه النفعَ والخيرَ والحاجةَ له وللمسلمين، وتكون مكروهةً إذا كان مالُ الموصي قليلاً وكان ورثته محتاجين ؛لأنه في هذه الحالة ضيَّقَ على الورثة؛ ولذا قال رسولُ الله- صلّى الله عليه وسلّم- لسعد- رضي الله عنه – كما في البخاريّ ” إنك إنْ تذرْ ورثتَكَ أغنياءَ خيرٌ من أن تذرَهم عالةً يتكفّفون الناس” ، وتكون محرمةً يأثم صاحبُها إذا أوصى بزيادةٍ على الثلث؛ لورود النهي عنه كما في حديث سعدٍ – رضي الله عنه السابق – وكذلك إذا كانت الوصيةُ لوارثٍ لقوله – صلّى الله عليه وسلّم – كما في حديث عمرو بنِ خارجةَ – رضي الله عنه – أنّ النبيَّ – صلّى الله عليه وسلّم – قال: ” لا وصيّةَ لوارث ” رواه أحمدُ وأبو داودَ وصحّحه الألبانيُّ في الإرواء ، وتكونُ الوصيةُ مباحةً فيما عدا ذلك من الوصايا المتقدّمة كأنْ يكونَ مالُ الموِصي قليلاً وورثته غير محتاجين، أو كان مالُه كثيراً جداً، وكان ورثتُه محتاجين، فهنا تباح الوصية.
أما أركان الوصية فأربعةٌ:
أولاً: الموصِي. وهو: من صدرت منه الوصيّة ، ويشترط فيه:
١. أن يكون كاملَ الأهليةِ صادقَ الإرادة، وفي حالِ استقرار حياته.
٢. وأن يكون الموصِي غيرَ مَدِين ديناً يستغرق كلَّ تركتِه وماله؛ لأنّ سدادَ الديونِ ووفاءَها مقدّمٌ على تنفيذ الوصية.
الثاني: الموَصى له. وهو: المستفيدُ من الوصيّة ، ويشترط فيه :
١. أن لا يكونَ وارثاً للموصِي.
٢. أن يكون الموصَى له معيّناً ، فإن كان مجهولَ العَين؛ فلا تصحّ له الوصية.
٣. أن يكون الموصَى له أهلاً للتملُّك , فإن كان ممن لا يصحُّ تملُّكُه ؛ فلا تصحُّ الوصيةُ له.
٤. أن يكون الموصَى له حيّاً أو يؤولُ إلى حياةٍ كالجنين في البطن.
٥. أن يكون الموصَى له غيرَ قاتِلٍ للموصِي.
٦. قبول الموصَى له الوصيّةَ.
الثالث: الموصَى به. وهو: ما تحمله الوصية من قول، أو كتابة، أو ما يقوم مقامهما ويشترط فيه:
١. أن يكون بعد موت الموصي؛ فإن كان قبلَه فهي هبةٌ، وليستْ وصيّة.
٢. أن يكون قابلاً للتمليك.
٣. أن يكون الموصَى به مباحاً.
الرابع: الموصَى إليه. وهو: المأمورُ بالتصرُّف في الوصيّة بعد الموت، وهو ما يسمى بالوكيل على الوصية، أو بمعنى آخر: الناظر على الوصية وغيرها، ويُشترط فيه:
١. التكليفُ.
٢. الرشدُ
٣. الإسلامُ.
٤. العدالة.
ويجوزُ أن تكونَ المرأةُ ناظرةً على الوصيّة، فجمهورُ أهلِ العلم على جواز ذلك ؛لأنَّ عمرَ-رضي الله عنه- أوصى إلى حفصةَ -رضي الله عنها – ولم يقم دليلٌ صريحٌ صحيحٌ على عدم جواز ذلك.قال الشيخُ محمدُ بنُ إبراهيمَ- رحمه الله -: لا مانعَ من إقامة المرأةِ وصيّاً على ثلُثِ مالِه بشرطه.
مبطلات الوصية :
تبطل الوصية إذا كانت غيرَ مستوفيةٍ للشروط أو منتفيةَ الموانع، ومن ذلك:
١. موتُ الموصَى له.
٢. قتْلُ الموصَى له الموصِي.
٣. تَلَفُ الموصَى به.
٤. ردُّ الموَصى له الوصيّةَ.
٥. إنكارُ الموصِي عن الوصيةِ ورجوعُه.
بمَ تثبتُ الوصيةُ ؟
أولاً: الكتابة:
دليل ذلك ما رواه البخاريُّ ومسلمٌ من حديثِ ابنِ عمرَ – رضي الله عنهما – أنَّ النبيَّ – صلَى الله عليه وسلّم – قال ” ماحقُّ امرئٍ مسلمٍ له شيءٌ يريد أن يوصِي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيتُه مكتوبةٌ عنده “.
فإذا كتب الموصِيْ وصيَّتَه بقلمه، وتحقَّق أنه قلمُه وخطُّه وتوقيعُه؛ فإنّ هذا يكفي في ثبوت الوصيّة ،ولو لم يُشهد عليها.
ثانياً: الإشهاد:
فإذا كان الموصِي أُمِّيّاً يجهل الكتابة؛ فالمشروع في حقّه الإشهادُ على وصيّته عند تعذُّرِ كتابتِها من قِبَلِه أو من قبل غيره.لكن إنْ تمكَّن من الجمع بين الكتابة والإشهاد على الوصية فهذا فيه خيرٌ؛ لأنّ فيه زيادةَ توثيقِ وإثبات.كما أنَّ الإشهادَ العاريَ والمجرّدَ عن الكتابة كافٍ في ثبوتِ الوصية؛ ولذا عدَّه أهلُ العلم مما تثبت به الوصية.
كما يجوز للمسلم إذا كتب وصيّته وأشهدَ عليها، أن يغيّر فيها ما يشاء، أو أنْ يرجعَ فيها لأنَّ الوصيةَ عقدٌ من العقود الجائزة، التي يصحُّ الرجوعُ عنها وتبديلُها،ولا تلزم إلا بعد الموت.
إجراءات الوصية في المحاكم الشرعية :
أودُّ أنْ أشيرَ إلى أنَّ الوصيّةَ تصحُّ وتثبتُ ولو لم تكن موثّقةً ومثبتةً لدى المحاكمِ الشرعية والجهاتِ الرسمية، فمجرّدُ كتابةِ الوصيةِ والإشهادِ عليها تكون ثابتةً، ويلزم العملُ بموجبها ديانةً، لكن قد لا تثبتُ هذه الوصيةُ عند الجهات الرسمية، لسببٍ قام بها استلزم عدمَ العملِ بموجبها، مثل ادعاءِ أنَّ هذا الخطَّ ليس خطَّ الموصِيْ أو ختْمَه أو توقيعَه، أو لوفاة الشهود الذين شهدوا على الوصية، أو يكون إثباتُ الوصيةِ وثبوتُها رسميّاً شرطاً لحصول أمرٍ معيّن كقسمة التركة، وغير ذلك من الأسباب، فحفظاً للحقوق من الضياع ، وقطْعاً للطريق على كلِّ من يريدُ العبثَ في الأموال، إما أن يدَّعي أنّه صاحبُ حقّ، أو يريدُ حرمانَ أصحابِ الحقوقِ حقوقَهم؛ ولذا كفل المنظِّمُ السعوديُّ الحقَّ لكلّ من يريد إثباتَ وصيّته أمامَ المحاكم الشرعية، وأتاح له هذا الحقَّ بكلّ يسْرٍ وسهولة، وإذا رغِب المسلمُ بإثبات وصيّته أمام المحاكم الشرعية؛ فيكون ذلك حسبَ الإجراءات الآتية:
بناء على نظام المرافعات الشرعية ولوائحه التنفيذية الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/١ وتاريخ ٢٢/١/١٤٣٥هـ كما في المادة الثالثة والثلاثين – الفقرة الثالثة – يكون موضوعُ إثباتِ الوصيَّة من اختصاص محاكم الأحوال الشخصية.
وإثباتُ الوصيّة أمام المحكمة المختصّة له حالتان :
الحالة الأولى : أن يكون الموصِي قد توفّاه الله، فتكون الإجراءاتُ وفقَ الآتي:
١. حضور الورثة جميعاً أو من يمثّلهم بتوكيلٍ صحيحٍ، يخوِّلُ لهم هذا الإجراءَ وإقرارهم بصحة وصيّة مورثِهم أمامَ المحكمة المختصّة.
٢. إحضارُ أصلِ صكِّ حصْر الورثة للموصِي .
٣. إحضارُ أصل الوصيّة والاطلاع عليها، وتدوينها في صكّ الوصية.
٤. إحضارُ شاهدين يشهدان على صحّة ما جاء في الوصيّة.
٥. بعد إثبات ما سبق أمام القاضي في المحكمة المختصة، واستيفاء الشروط وانتفاء الموانع يصدر بذلك صكُّ الوصيّةِ ولزومِ العمل بموجبه.
الحالة الثانية : أن يكون الموصِي على قيد الحياة؛ فتكون الإجراءات وفق الآتي:
١. حضورُ الموصِي للمحكمة المختصّة مصطحباً معه الهويّة الوطنيةَ أو من يمثّله بوكالةٍ شرعية تخوّل له هذا الإجراء.
٢. تدوينُ نصِّ الوصيّة بكلّ ما ورد فيها، ومن يكون ناظرَ الوصيّة، وغير ذلك مما هو من لازم الوصيّة أمام الدائرة المختصّة، وطلب استخراج صك بذلك.
٣. إحضار شاهدين يشهدان على صحّة ما جاء في الوصيّة، وإقرار الموصِي بالوصيّة .
٤. بعد إثبات ما سبق أمام القاضي في المحكمة المختصّة، واستيفاء الشروط وانتفاء الموانع يصدر بذلك صكُّ الوصيّةِ ولزومِ العمل بموجبه .
ملحوظة:
١. إذا كان الموصَى به عقاراً؛ فيتمُّ الاستفسارُ من مصدر الصكّ عن الصك، وأنه ساري المفعول وصالحٌ للاعتماد عليه، ومن ثم يتمُّ التهميشُ على الصكّ بما ورد في الوصيّة.
٢. إذا تم إنكار وصية المورث للموصى له من قبل الورثة فحينها ينتقل الإجراء من انهائي إلى حقوقي تنظر كقضية حقوقية وفق الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية.
هذا ما تيسَّر جمعُه ، وأعان اللهُ على إيراده ، وصلّى اللهُ وسلَّمَ على نبيّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً