يوجد كثير من الحقوق والحريات العامة الحماية الجنائية من خلال تجريم ومعاقبة الاعتداء عليها , ومن هذه الحقوق والحريات ( حرية العمل الوظيفي ) , التي تهدف الى تمكين الموظفين من اداء واجبهم الوظيفي , تعد حرية العمل من المفاهيم التي انتشرت بعد انتشار حقوق الانسان وحرياته الاساسية بعد الثورة الفرنسية عام 1789م حيث جسدتها العديد من المواثيق الدولية والدساتير والقوانين الداخلية التي جاءت بعد ذلك مثالها اعلان حقوق الانسان والمواطن الفرنسي لعام 1789 والاعلان العالمي لحقوق الانسان لعام 1948 والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966
والدساتير الفرنسية بدءاً من دستور 1791 وانتهاءٍ بدستورها الحالي لعام 1958 ونتيجة لذلك انعكس هذا الامر على جل القوانين العقابية التي ضمّنها مُشرّعوها النصوص القانونية التي تكفل الحماية الجنائية لحرية العمل . إن اهمية تجريم الاعتداء على حرية العمل الوظيفي والمعاقبة عليه تبرز بالنضر الى ان غاية العمل الوظيفي تقديم الخدمات الى الجمهور وبالتالي يكون هدفه الابعد والنهائي الصالح العام , هذا من جانب , ومن جانب آخر ما تمثله الوظيفة العامة كوجه من اوجه الدولة وبالتالي تكون المحافظة على هيبتها وكرامتها انعكاس لسيادة الدولة وسمو تشريعاتها بعكس العمل الخاص الذي يهدف الى تحقيق المنافع الخاصة بسعيه الى توفير الربح المادي , لذلك تبرز اهمية الحماية الجنائية لهذا النوع من العمل , ومن اهم اشكال هذه الحماية تجريم الاعتداء على حرية العمل الوظيفي والمعاقبة عليه .
هذه الجريمة بشكل مستقل رغم اهمية موضوعها الذي اشرنا اليه آنفاً وكثرة وقوعها في الحياة العملية , خصوصاً اذا ما علمنا ان بلدنا العزيز يمر بظروف امنية واقتصادية استثنائية كثُرت فيها اضرابات الموظفين وما يرافق هذه الاضرابات من جرائم اعتداء على حرية الموظفين في العمل , الجريمة بصفة عامة سلوك غير مشروع صادر عن شخص ذو ارادة جنائية معتبرة يفرض له القانون عقاباً او تدبيراً احترازياً , هذا كمفهوم عام للجريمة يندرج تحته العديد من التطبيقات التي تتمايز فيما بينها بأركانها الخاصة والعامة وعقابها ومنها جريمة الاعتداء على حرية العمل الوظيفي . فبغية الاحاطة بهذه الجريمة من كافة جوانبها فالحرية تعني الملكة الخاصة التي تُميز الانسان من حيث هو موجود عاقل يصدر في افعاله عن ارادته هو لا عن اية ارادة اخرى غريبة عنه, واما معنى العمل فهو كل نشاط جسدي ( عضلي او عقلي ) يُبذل بشكل مقصود ومُنظم بهدف تحقيق نتيجة مادية او معنوية محددة وملموسة , واما الموظف العام فهو الشخص الذي يُعهد اليه بعمل دائم في خدمة مرفق عام تُديره الدولة او احد اشخاص القانون العام ,
واما الوظيفة العامة فهي كيان قانوني قائم في ادارة الدولة و تتألف من مجموعة اعمال محددة ويُطلق على شاغلها اسم الموظف العام , واما معنى العمل الوظيفي فهو الخدمات العامة التي يؤديها الموظفين العموميين للأفراد او الدولة او احد فروعها او مصالحها العامة في نطاق نظام قانوني معين يحدد العلاقة بمن يؤدى اليهم هذه الخدمات منظماً لحقوق وواجبات الوظيفة العامة , او هو المهام والواجبات التي تحددها جهة مختصة وتوكلها الى الموظف العام للقيام بها بمقتضى احكام نظام قانوني معين ينظمها تنظيماً شاملاً .
ومما تقدم يمكننا تعريف ( حرية العمل الوظيفي ) بأنها ارادة الموظف العام المجردة من كل اكراه في ان يختار الوظيفة التي يرغب الالتحاق بها وحقه في ان يمارس ذلك النشاط الوظيفي الذي تحدده له الادارة او ان يترك العمل الوظيفي الذي لا يرغب الاستمرار فيه بتقديمه طلب الاستقالة عنه وفق السياقات والانظمة القانونية التي تحكم تلك الوظيفة . ومن هذا التعريف يتضح لنا ان حرية العمل الوظيفي تختلف عن حرية العمل الخاص , حيث تعني الاخيرة ( الرخصة التي يعترف بها القانون لكل شخص في ان يعمل متى يشاء وفيما يشاء وكيفما يشاء او ان لا يعمل اطلاقاً , وله تبعاً لهذا ان يختار مهنته وصاحب العمل الذي يعمل عنده ومكان عمله وترك عمله الى عمل آخر من ناحية وان يستخدم من يشاء من العمال وان يُفضل من يشاء منهم من ناحية اخرى ) .
ومن هذا يتضح ان وجه الفرق بين الاثنين يكمن في جانب ان حرية العمل الوظيفي مقتصرة على فئة الموظفين دون سواهم , في حين ان حرية العمل الخاص تختص بالعاملين في القطاع الخاص وارباب العمل , ومن جانب آخر ان الحماية القانونية لحرية العمل الوظيفي اشد من الحماية التي يوفرها القانون لحرية العمل الخاص كون الاولى تتعلق بالوظيفة العامة التي تهدف الى تقديم الخدمات لجمهور المواطنين وبالتالي تحقيق الصالح العام من وجه و بوصفها مظهراً من مظاهر سيادة الدولة التي ينبغي الحفاظ على هيبتها وكرامتها من وجه آخر إن معنى الاعتداء هو النيل من حرية او حق كفل القانون حمايتهما اما بمصادرة تلك الحرية او بإهدار ذلك الحق او التهديد بتلك المصادرة او ذلك الاهدار او بانقاص مزايا الحرية او تقليل منفعة الحق او منع صاحب الشأن فيهما من ممارستهما على الوجه الذي يريد ضمن المجال الذي اتاح له القانون التحرك في حدوده .
والفعل لا يمكن وصفه اعتداءٍ الا اذا كان المحل الماس به حق او حرية , والاخيران لا يكونا كذلك الا اذا اقرهما القانون , والقانون لا يُضفي صفة الحق او الحرية على سلوك معين الا اذا كان له اساس يستقي منه مشروعيته . فحرية العمل بشكل عام – سواء كان عمل وظيفي او عمل خاص – اساسها مبدأ سلطان الارادة والذي يعني ان الناس ولدوا احراراً متساوين في الحقوق , وهذه الحرية والمساواة تقتضي بأن يُسمح لهم بأن يأتوا ما شاءوا من التصرفات بشرط عدم الاضرار بالغير اما القهر الاجتماعي المتمثل بالقانون فينبغي ان لا يكون الا في اضيق الحدود ولحماية النظام العام والآداب , لذلك حظيت حرية العمل بحماية قانونية واسعة على المستويين الدولي والداخلي , منها ما جاء في الاعلان العالمي لحقوق الانسان لعام 1948 في م 23|1 ( لكل شخص حق العمل وفي حرية اختيار عمله …. ) , وما جاء في م 6|1 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966 ( تعترف الدول الاطراف في هذا العهد بالحق في العمل الذي يشمل ما لكل شخص في ان تتاح له امكانية كسب رزقه بعمل يختاره او يقبله بحرية …. ) ,
وما نصت عليه م (27|ثالثاً) من دستور جمهورية العراق لعام 2005 النافذ ( يُحرم العمل القسري ’’السخرة’’ …. ) , تقابلها م (12 ) من الدستور المصري لعام 2012 النافذ التي تنص على ( لا يجوز الزام أي مواطن بالعمل جبراً الا بمقتضى القانون …. تجريم الاعتداء على حرية العمل الوظيفي والمعاقبة عليه , اذ نصت على ( يعاقب بالحبس والغرامة او احدى هاتين العقوبتين من اعتدى او شرع في الاعتداء على حق الموظفين او المكلفين بخدمة عامة في العمل باستعمال القوة او العنف او الارهاب او التهديد او اية وسيلة اخرى غير مشروعة ) , تقابلها م 124|ب من قانون العقوبات المصري رقم 58 لسنة 1937 المعدل التي تنص على ( يعاقب بالعقوبات المبينة في الفقرة الثانية من المادة 124 كل من اعتدى او شرع في الاعتداء على حق الموظفين او المستخدمين العموميين في العمل باستعمال القوة او العنف او الارهاب او التهديد او التدابير غير المشروعة على الوجه المبين في المادة 375 ) , ويظهر ابرز تطبيق لهذه الجريمة بل العلة الاساسية لإيراد هذه المادة هو ظاهرة اعتداء الموظفين المضربين على الموظفين غير المشتركين بهذا الاضراب بشتى انواع الاعتداء لإجبارهم على الانضمام اليهم لشل حركة المرفق العام بصورة كاملة من اجل رضوخ الادارة الى مطالبهم .
الدكتور عادل عامر
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً