نص الدستور المصرى الصادر عام 2014 فى المادة 224 على ان كل ما قررته القوانين من احكام قبل صدور الدستور يبقى نافذا , لا يجوز تعديلها و لا الغاؤها الا وفقا للقواعد و الاجراءات المقررة فى الدستور . و الحكمة من وضع هذا النص ألا يحدث فراغ تشريعى , ينتج عن الغاء كل القوانين الصادرة قبل صدور الدستور , اذا ما تعارضت احكامها مع نصوص الدستور الجديد , و ذلك حتى تتدخل السلطة التشريعية بتعديل القوانين السابقة على صدور , لتتفق مع احكامه .
اذن المادة 224 من الدستور , تنظم مسألة مؤقتة بطبيعتها , لتحقيق غرض واحد , و هو عدم وجود فراغ تشريعى فى تنظيم شئون الافراد المختلفة , دون ان تكسب هذه المادة نص القانون المخالف للدستور اى شرعية بصحته , فهو فى النهاية , نص معيب بعدم الدستورية , و ماله الالغاء , فى كل الاحوال , كل ما هنالك انه سارى فترة من الزمن حتى يتم الغاؤه .
و طالما ان المصير المحتوم للقانون السابق على الدستور و المخالف لاحكامه , الالغاء و التعديل , و ان الابقاء عليه و على احكامه فترة مؤقتة , لعلة عملية , فإن السؤال الهام الذى يطرح نفسه , هو مدى تقيد السلطة القضائية بالقانون المخالف لاحكام الدستور الذى لم يعدل بعد , هل تتقيد به , و تطبقه و تخالف احكام الدستور , ام ان المادة 224 لا تقيد السلطة القضائية , فيقتصر نطاق الالتزام بأحكام القانون المخالف للدستور الجديد على السلطة التنفيذية فقط فى تسيير شئون الافراد , وفقا لهذا القانون حتى يتم تعديله
الواقع , ان الاجابة على هذا السؤال بدون تردد , هى انه لا يتصور على الاطلاق ان يعلى القاضى القانون المخالف لاحكام الدستور , على نصوص الدستور ذاته , بحجة ان هذا القانون سارى و معمول به طالما لم يتم تعديله وفقا للدستور , فالدستور هو القانون الأساسي المنظم للسلطات العامة الثلاث , والتي يجب عليها أن تمارس اختصاصاتها في الحدود التي أقرها الشعب صاحب السيادة ، فإذا كان القانون مخالف للدستور، فإن مقتضى مبدأ تدرج القواعد القانونية يوجب تغليب الدستور واتباع حكمه، وإهمال القانون العادي المخالف له وطرحه جانبا
( الدكتور / عبد الحميد متولى , القانون الدستورى و الانظمة السياسية , الطبعة السادسة , منشأة المعارف , طبعة 1989 , ص 180 , الدكتور / مصطفى ابوزيد فهمى , القانون الدستورى , دار المطبوعات الجامعية , طبعة 1990 , ص 63 , الدكتور / محسن خليل , القانون الدستورى , دار الفكر الجامعى , طبعة 1985 , ص 125 , الدكتور / محمد عبد الحميد ابوزيد , مبادىء القانون الدستورى , دار النهضة العريبة , طبعة 1996 , ص 95)
فلا يتصور على الاطلاق ان يعلى القاضى احكام القانون المخالف للدستور , على نصوص الدستور ذاته , بحجة ان هذا القانون سارى و معمول به طالما لم يتم تعديله وفقا للدستور الجديد .. فالمادة 224 من الدستور لا تقيد القاضى , و لا تجبره على تطبيق القانون المخالف للدستور , بحجة انه لم يعدل بعد , و الادلة على رأينا عديدة
اولا .. المادة 224 من الدستور , نصت صراحة على ان شرط استمرار اعمال القانون المخالف للدستور ان يتم ذلك حتى يتم تعديله او الغاؤه وفقا لاحكام الدستور , و لما كان الغاء القانون يتم باحد طريقين لا ثالث لهما , هو ان يقوم مجلس النواب باصدار قانون اخر بدلا من القانون المعيب , بناء على الاجراءات التى تتخذها السلطة التنفيذية ممثلة فى رئيس الجمهورية او مجلس الوزراء او احد اعضاء مجلس النواب باقتراح القانون الجديد بدلا من القانون المعيب بما يمثل الغاء له , اعمالا للمادة 122 من الدستور , او بناء على حكم من المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية قانون , بما يعد الغاء للقانون يوجب تعديله على الفور , و ذلك اعمالا للمادة 195 من الدستور .
اذن حكم القاضى الدستورى بعدم دستورية القانون هو احد طريقى الغاء القانون المعيب , ليبدء دور السلطتين التنفيذية و التشريعية فى اصدار قانون جديد يتفق و احكام الدستور و لما كان الامر كذلك , فلا يتصور على الاطلاق , ان يقال ان القاضى يلتزم بتطبيق القانون الغير دستورى لأنه لم يتم تعديله , فى حين ان عرض هذا القانون على القاضى بمناسبة تطبيقه فى منازعة , هو بداية ولوج طريق اعدام هذا القانون و الغاءه , اعمالا للمادة 224 من الدستور .
ثانيا .. لا يتصور على الاطلاق , ان ينفذ القاضى القانون المخالف للدستور , و ان يعلى احكامه على احكام الدستور ذاته , بحجة ان القانون مازال ساريا لم يعدل بعد , فى حين ان مجرد عرض القانون على القاضى هو احد طريقى تعديل القانون و الغاءه , اذ ان القول بذلك يتنافى و مبدأ سيادة و علو احكام الدستور , و يتعارض و طبيعة عمل و دور القاضى , الذى يناط به ابتداء عند تصديه للفصل فى اى منازعة , ان يسبق ذلك , بالقيام بمسألة اولية , و هى تكييف النزاع المطروح عليه و و تحديد القانون الواجب التطبيق على ذلك النزاع , و بيان مدى اتفاق احكام هذا القانون مع نصوص الدستور , فالقاضى يتصدى لتحديد مدى اتفاق القانون مع الدستور من تلقاء نفسه , دون ان يطلب ذلك احد الخصوم منه , فإذا رأى ان القانون مخالف للدستور , فإنه يحيل القانون من تلقاء نفسه للمحكمة الدستورية العليا لتقضى بالغاءه فمما لا شك فيه , ان القاضى لا يمكن ان يطبق قانون غير دستورى على الاطلاق , و الدليل على ذلك , ان رقابة القاضى على دستورية القانون , كانت سابقة على مباشرة هذه الرقابة بالفعل بواسطة محكمة مختصة هى المحكمة العليا التى نشأت عام 1969 و التى حملت اسم المحكمة الدستورية العليا منذ عام 1979
فرقابة القاضى على دستورية القانون , عرفها القضاء المصرى منذ الاربعينات من القرن الماضى , بما سمى برقابة الامتناع , و هو الأسلوب الذى كان ينتهجه القاضى وقت ان سكت الدستور المصرى عن تنظيم الرقابة على دستورية القوانين، فهى رقابة اصلية , مفترضة , بديهية , لا تحتاج إلى نص دستوري يقررها , لأنها تتصل بطبيعة عمل القاضي حينما يدفع المدعى عليه امامه بعدم دستورية قانون معين، فإن من واجب القاضي أن يتحرى عن صحة هذا الدفع، فإذا تبين له أن القانون متفق مع أحكام الدستور قضى بتطبيقه، أما إذا تأكد من جدية الدفع ومخالفة القانون للقواعد الدستورية، فعليه أن يرجح كفة الدستور بإعتباره التشريع الأعلى مقررا الامتناع عن تطبيق هذا القانون في القضية المطروحة , دون أن يحكم بإلغائه أو بطلانه , و قد عبر احد كبار فقهاء القانون العام فى مصر عن رقابة الامتناع بقوله ان رقابة الامتناع هى من طبيعة عمل القضاى و من مهامه الاساسية لحراسة الدستور و احترام احكامه
( الدكتور / السيد صبرى , القانون الدستورى , طبعة 1949 , ص 146 )
و قد طبقت محكمة القضاء الادارى بمجلس الدولة المصرى رقابة الامتناع دون نص فى حكمها الشهير الصادر فى 10 فبراير 1948 , و الذى قالت فيه باحرف من نور فى فهم صحيح للمبادىء القانونية ان وظيفة القاضى عند التعارض بين الدستور و القانون ان يعلى الدستور دون نص يعطى له هذا الحق , فهذه من مهامه الاساسية بحسبان ان هذا التعارض صعوبة قانونية تتولد عن المنازعة المطروحة عليه , بما يوجب عليه ان يفصل فيها منتصرا للدستور الاسمى و الاعلى
( مجموعة احكام مجلس الدولة , السنة 2 , ص 315 )
و رقابة الامتناع التى عرفها القضاء المصرى فى فترة طويلة من تاريخه , ليست بدعة مصرية , انما هى رقابة من إبداع القضاء في الولايات المتحدة ، نظرا لخلو الدستور الأمريكي من نص يخوله الاختصاص بالرقابة على دستورية القوانين الاتحادية
اذن القضاء , فى جميع الاحوال لا يمكن ان يطبق قانون مخالف للدستور , حتى لو كان مازال ساريا لأنه ينتظر دوره فى التعديل التشريعى , اذ ان عرض القانون المعيب على القاضى هو سبب لتعجيل تعديله حتما , بعد الغاءه بحكم القاضى , او على الاقل الامتناع عن تطبيقه , فلا يستساغ فى المنطق القانونى السليم ان يهمل القاضى الدستور , و يطبق القانون المخالف للدستور .
بقلم المستشار الدكتور إسلام إحسان الوكيل العام الاول للنيابة الادارية
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً