بعد تقييد الفتوى نحتاج إلى إعادة تقييم الفتوى
محمد بن سعود الجذلاني
يقول الإمام مالك ــــ رحمه الله تعالى:” أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة بن أبي عبد الرحمن فوجده يبكي, فقال له: ما يبكيك ؟ أمصيبة دخلت عليك؟ فقال: لا, ولكن استفتي من لا علم له وظهر في الإسلام أمرٌ عظيم, وقال: ولبعض من يفتي ها هنا أحقُّ بالسجن من السُّرَّاق, أحق بالسجن من السراق”.
الموافقات للشاطبي 4/174. هذا الأثر عن إمام جليل من أئمة السلف وهو شيخ ُ الإمام مالك ــــ رحمهما الله ــــ يبين لنا أن خادم الحرمين الشريفين ـــــ أيده الله ـــــ حين وفقه الله لتقييد الفتوى وإيقاف الفوضى التي اجتاحتها؛ أنه بذلك سار على نهج السلف الصالح ــــ رحمهم الله ـــــ حيث ُ آلمه ما آلمهم, وكره ما كرهوه, وفطن لما فطنوا إليه من فتنة مضرة بدين الأمة. وإن كنت قد أشرت في مقال قريب سابق إلى شيء من مآثر خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ـــــ حفظه الله ووفقه ـــــ وما له من آثار مباركة في دين الأمة ودنياها؛ فإن ما صدر بعد مقالي من توجيهه ـــــ حفظه الله ـــــ بتقييد الفتوى بهيئة كبار العلماء ومن يصدر لهم إذن من الملك بناء على اقتراح سماحة المفتي, إن هذا التوجيه الكريم من أعظم الشواهد على ما أشرت إليه من سجايا ومآثر هذا الملك الموفق والتي من أهمها قوته في الحق وامتلاك روح المبادرة والتحرر من التبعية والتقليد وقبل ذلك حرصه على نبذ الاختلاف والفرقة وسعيه إلى جمع شمل الأمة.
ولست هنا بصدد الإشادة بهذا التوجيه الكريم أو بيان محاسنه التي أفاض فيها العلماء والدعاة والمصلحون والعقلاء داخل المملكة وخارجها طوال الأيام الماضية, ففضائل هذا التوجيه والتوجه الكريم لا تخفى, وإنه لحق أن يفرح به كل مؤمن غيور على الإسلام والمسلمين, كما أنه أهل أن يقتدي به ولاة أمر المسلمين كافة في كل الدول الإسلامية حفظاً للدين من أن تهدمه زلات بعض العلماء, فضلاً عن تلاعب المتعالمين الذين ابتليت بهم الأمة. أقول إن الغرض من مقالي ليس الإشادة بهذا التوجيه فحسب, إنما لي معه عدة وقفات أرى أنه يجب التنبه لها واستصحابها في العمل بهذا التوجيه الملكي الكريم حتى تتم الغبطة به للأمة ويؤتي ثماره على خير وجه وأحسن سبيل ــــ بإذن الله تعالى ــــ وقد قسمت هذه الوقفات والملاحظات على جزءين : أولهما حول تقييد الفتوى. والآخر حول إعادة مراجعة وتقييم الفتاوى السابقة.
في تقييد الفتوى أولاً: رغم ما تضمنه التوجيه الملكي الكريم من فضائل ومصالح عظيمة لحفظ الشريعة ونفي الدغل عنها إلا أنه قد يسعى إلى تشويهه أو الانتقاص منه أقوام ممن في نفوسهم مرض, أو قد يعارضه آخرون بشبهات بحسن نية مثل اعتقاد أن في ذلك تقييدا لحرية الاجتهاد وحصرا للمجتهدين بطائفة معينة, أو غير ذلك مما قيل فعلاً أو سيقال مستقبلاً, وهذا الأمر يستدعي أن تتصدى هيئة كبار العلماء لإصدار بيان شاف يتضمن شرح أبعاد ومضامين الأمر الملكي الكريم الذي أناط بها حق الفتوى, والإجابة عن كل ما قد يعارض به من انتقادات أو اجتهادات تخالفه, وذلك بالبيان الشرعي الشافي المدعم بالدليل والتعليل من الكتاب والسنة, كما أن ذلك البيان والتوضيح مطلوب من العلماء كافة كل حسب موقعه حتى تنتفي عن هذا العمل الجليل كل الشبهات.
ثانياً: هذا التوجيه الكريم يزيد العبء على هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة ويوجب عليها أن تعيد النظر في طريقة عملها وتطوير آليات عملها لمواجهة القيام بهذا العبء. كما ينبغي لهيئة كبار العلماء مضاعفة الجهود لمواكبة المستجدات والنوازل وبيان الحكم الشرعي فيها, حيث إن من أكبر وأهم عوامل فوضى الفتاوى, خاصة في الشأن العام والنوازل المستجدة, تأخر هيئة كبار العلماء أحياناً عن إيضاح الموقف الشرعي من هذه النوازل وترك الناس فترة طويلة في حال حيرة وفوضى في العمل والتعاطي مع النوازل فيلجأون إلى من هو أهل وإلى من ليس أهلا للفتوى.
ثالثاً: كيف سيكون التعامل مع العدد الهائل والكبير من العلماء وطلبة العلم المعتبرين الموثوقين الذين يتصدون للدروس العلمية الشرعية في المساجد من أساتذة العلوم الشرعية في الجامعات ممن تستدعي ضرورة قيامهم بمهام عملهم الوظيفي أو الاحتسابي إصدار الفتاوى فيما يعترضهم من علوم ومواضيع يتطرقون إليها في دروسهم ثم تنقل عنهم هذه الفتاوى عبر تلاميذهم أو وسائل الإعلام؟ فقد توجد لهم معالجة وسط بين منعهم من الفتوى مطلقا وبين السماح لهم مطلقا بأن يكون الإذن وفق ضوابط تكفل عدم الوقوع في المحظور الذي يهدف إليه التوجيه الملكي الكريم.
رابعاً: لما كان التوجيه الكريم أناط بسماحة مفتي البلاد الرفع بأسماء من يرى أهليتهم للفتوى ليصدر الإذن لهم من خادم الحرمين الشريفين, فلعل من المناسب وضع معايير واضحة ومحددة للشروط والمؤهلات التي تجعل المتصف بها أهلاً للفتوى, حتى تكون هذه المعايير مرجعاً عند الاختلاف وحكماً عن النزاع, وحتى تبعث الطمأنينة على أن هذا الأمر محكوم بالمصلحة لا بالهوى والتشهي. وليكون قاعدة عامة يسار عليها في الدولة في المستقبل القريب والبعيد.
خامساً: لعل من المناسب التنويه والتنبيه على مسؤولية وسائل الإعلام بجميع أنواعها حيال تطبيق هذا التوجيه الملكي الكريم والالتزام بمقتضاه, ووضع العقوبات المناسبة لأي وسيلة إعلام ونشر من صحف وإذاعات وقنوات فضائية ومواقع إنترنت تقوم بنشر فتاوى مخالفة لهذا التوجيه الكريم, وقد يكون نظام المطبوعات والنشر مرجعاً لمثل هذا الأمر.
سادساً: كما قد يكون مناسباً تحديد ووضع عقوبات محددة لكل من خالف هذا التوجيه ونشرها على الناس, حتى لا يكون المجال فيها مفتوحاً لتباين العقوبات التعزيرية التي توقع على المخالف, وحتى يراعى في العقوبات حين تقنينها اختلاف درجات المخالفة واختلاف ما ترتب عليها من آثار ومفاسد, كما يحسن بيان الجهة التي تختص بتطبيقها أو الادعاء فيها, وقد يكون مناسباً أن تتولى الحكم فيها المحاكم الجزائية وأن يتولى الادعاء فيها هيئة التحقيق والادعاء العام, إلا أن خصوصية هذه المسألة وتعلقها باختصاص هيئة كبار العلماء يجعل من المناسب أن يكون لها مشاركة في الادعاء على من يخالف هذا الأمر عبر استئذان سماحة المفتي قبل تحريك الدعوى على المخالف, أو عبر تلقي البلاغ بالمخالفة عن طريق سماحة المفتي فيما اطلع عليه. كما أنه لا يخفى تنوع العقوبات ما بين جنائية وتأديبية في حال كان المخالف موظفاً عاماً, وأن هذه العقوبات ترجع لسلطة ولي الأمر أو من ينيبه في إيقاعها أو العفو عنها حسبما تقضي به المصلحة.
سابعاً: تصدى التوجيه الملكي الكريم لمسألة فوضى الفتاوى ومنعها وقيدها بمن هم أهل للإفتاء, إلا أنه بقيت مسألة لا تقل خطورة عن فوضى الفتاوى وهي تصدي من ليسوا بأهل لمناقشة فتاوى العلماء المعتبرين والانتقاص منها ونقدها بجهل وهوى, سواء في وسائل الإعلام من كتاب غير متخصصين أو من صحفيين وإعلاميين, وهذه المسألة لها نظائر كثيرة وتقع دوماً فلعل من المناسب التصدي لها أيضاً بتجريمها ومنعها وحفظ هيبة الشريعة والجهات الشرعية المعتبرة.
ثامناً: من الإشكالات ذات الصلة أن بعض الفتاوى الغريبة والشاذة أو الأقوال المهجورة الضعيفة قد تكون صادرة من أحد علماء البلاد الإسلامية ،الذين لهم مكانتهم إما في بلادهم أو في غيرها, ومثل هذه الفتاوى تتناقلها وسائل الإعلام المحلية والدولية وتنتشر بين الناس ولا يمكن المطالبة بمنعها أو منع مصدرها من إصدارها, إلا أن الممكن والمستحسن أن تتصدى هيئة كبار العلماء لبيان موقفها من مثل تلك الفتاوى وبيان الحكم الشرعي الذي تعتقده حقاً حولها حتى لا يبقى مثل هذا الأمر محل فراغ بين المسلمين. إعادة تقييم الفتوى إن من الأصول المسلّمة في الشريعة الإسلامية أن هناك فرقا بين الحكم الشرعي والفتوى؛ فالحكم الشرعي هو ”حكم الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين من غير التفات إلى واقع معين’‘, أما الفتوى فهي ”تطبيق الحكم الشرعي على الواقع والإخبار بحكم الله في الواقعة المسؤول عنها”, ولا يخفى أن صواب الفتوى وصحتها يقوم على أساس فهم الواقع, ولما كان الواقع متغيراً كانت الفتوى تابعة له في التغيير.
وهذا الكلام يقودنا إلى مسألة مهمة وهي أن التوجيه الملكي الكريم بقصر الفتوى على هيئة كبار العلماء يستدعي أهمية إعادة النظر في بعض الفتاوى القديمة التي كانت صادرة عن هيئة كبار العلماء أو عن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في ظل ظروف سابقة طرأ عليها من التغيير الشيء الكثير, وأصبحت بعض فتاواها مهجورة في التطبيق العملي دون أن يصدر فتاوى أخرى بالرجوع عنها أو تعديلها بما يوافق الواقع, وهذا الأمر يوقع كثيراً من الناس أو الجهات الحكومية أو الأهلية أو الهيئات في حرج شديد ما بين التقيد بمقتضى فتوى لم تعد هي الأصح, أو مخالفة ما عليه الفتوى الرسمية في الدولة وهذان إشكالان ليس أحدهما بأخف من الآخر.
ولا ينبغي أن يُفسر هذا الكلام بأنه انتقاص من علمائنا السابقين أو الحاليين فهم جميعاً محل ثقتنا ومحبتنا وولائنا نفع الله بأحيائهم وغفر لأمواتهم وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وجمعنا بهم في الجنة آمين؛ غير أنه لا يخفى تأثير تغير الواقع في تغير الفتوى وأن من أشهر دلائل هذا الأمر ما حصل من تغيير في اجتهاد الإمام الشافعي وفتواه حين انتقل للعيش في مصر ورأى أعراف وعوائد أهلها.
وهذا باب عظيم يترتب عليه حفظ الشريعة من الانتقاص أو الضعف, وتحقيق شمولية الإسلام لكل زمان ومكان. ولعلي أورد على ذلك مثالاً بسيطا في الفتوى بتحريم التصوير التي لا تزال سارية ولم يطرأ عليها أي تغيير: فهل هذه الفتوى معمول بها الآن؟ إن الواقع يشهد أنها مهجور العمل بها وأن من أصدرها من علمائنا الموجودين أكثرهم تنتشر صورهم في كل وسائل الإعلام وبشكل يومي! فلماذا لا يعاد النظر فيها ويفتى بجوازه؟ وهل يستقيم الإصرار على القول بتحريم التصوير في ظل ما يشهده العالم من نفوذ وسطوة وتأثير وسائل الإعلام التي تعتبر الصورة سلاحها الأنكى والأمضى؟
وهل يقول قائل: إن نشر صورة الطفل الفلسطيني (الشهيد بإذن الله) محمد الدرة, أن ذلك عمل محرم يأثم عليه من ارتكبه لأن التصوير حرام؟ رغم ما كتب الله بسببها من نفع وأثر عظيم في دعم القضية الفلسطينية وبيان ظلم وعدوان إسرائيل! لذا فلم يعد بعد تقييد الفتوى إلا مراجعة الفتاوى السابقة وإعادة النظر فيها وتصحيح ما يستحق منها التصحيح قياماً بواجب النصح لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم, ولعل ذلك يكون عبر لجنة علمية مستقلة تحت إشراف هيئة كبار العلماء ممن يختارهم سماحة المفتي أو عبر اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
هذه خواطر ذات صلة بالتوجيه الملكي الكريم أسأل الله أن ينفع بها وأن يوفق خادم الحرمين الشريفين وولي عهده والنائب الثاني لكل خير وأن ينفع بهم ويحفظهم ويحفظ بهم الدين القويم, كما أسأله سبحانه أن يوفق علماءنا الكرام للقيام بواجبهم وأن يعينهم على ما أولتهم الأمة الإسلامية من محبة وتقدير وثقة آمين. والحمد لله أولاً وآخراً وهو حسبي ونعم الوكيل.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً