والعقود .. أيضاً تبحث عن حماية
محمد بن سعود الجذلاني
حماية العقود التي أعنيها هي أن تكون وفق ما أمر الله عز وجل به في قوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ..) الآية. وذلك بأن تكون العقود التي يجريها الناس بينهم لإثبات معاملاتهم وحفظ حقوق بعضهم تجاه بعض مؤدية للغاية المقصودة منها في ذلك.
والعقود إذا خلت من المخالفات والمفسدات وكانت متوافقة مع أحكام الشرع والنظام فإنه لا شك أن احترامها والوفاء بها واجبٌ شرعي ومن مقتضيات الإيمان بالله سبحانه، كما دلت على ذلك عدة نصوص في الكتاب والسنة. كما أن نقض العقود والعهود من أعظم علامات النفاق ومن أسباب الخصومة والشقاق.
وكما أوضحت في المقال السابق عن الصكوك العقارية أن من مقاصد الشريعة الإسلامية أنها تهدف إلى تحقيق أمن الأموال وحمايتها وقطع مادة الخصومات فيها، ولا يخفى أن من أهم وسائل ذلك العناية بالتوثيق وإثبات العقود بالكتابة، وهي مسألة لها أحكامها الكثيرة التي اعتنى بها فقهاء الشريعة – رحمهم الله – بياناً وتأصيلا.
ولعل القارئ الكريم يتساءل هنا عن الخطر الذي أدعو إلى حماية العقود منه وأين يمكن هذا الخطر؟ ولتوضيح ذلك أقول إنه قد ظهر بشكلٍ مقلقٍِ ومثيرٍ للاستياء في هذه الأيام كثرة الدعاوى والخصومات المنظورة أمام القضاء بكافة أنواعه ودرجاته التي تهدف إلى التنصل من الاتفاقيات والعقود والالتفاف عليها بحججٍ متنوعة أبرزها (دعاوى الصورية في العقود والاتفاقيات).
ومع أنه مما لا نزاع فيه أن تقدير الصورية من المسائل التي يستقل بها قاضي الموضوع وله سلطة تامة في استخلاص أدلتها وعناصرها، وتقدير ما يثبت من ذلك وما لا يثبت – وهذا ما سيكون لي عودة إليه في مقال آخر بإذن الله حول الصورية وأهم مسائلها – إلا أنه ينبغي الإشارة إلى أن كثرة وتزايد مثل هذه الدعاوى فضلاً عن كونها مخالفة تماماً لمقصود الشريعة إلا أن لها آثارها السيئة والوخيمة على الثقة بين الناس في تعاملاتهم عموماً وبين التجار منهم على وجه الخصوص، وإذا ما فقدت الثقة بالعقود وأصبح الطعن عليها والتشكيك فيها متاحاً بأدنى الحجج الواهية فإن ذلك علامة شرٍ ونذير سوء.
والمقصود هنا التأكيد على أن تحقيق غاية الشريعة في حماية العقود والإلزام بها وجعلها وسيلة كافية للإثبات واستقرار المعاملات هو أن مسؤولية ذلك مشتركة بين الجميع ولا تقتصر على أطراف العقد بحيث تعتمد على ما يتوافر لديهم من حسن نية وخوفٍ من الله عز وجل، ذلك أنه من المعلوم أن بعض الناس يحملهم الطمع وضعف الوازع الديني والأخلاقي على التنكر لالتزاماتهم والمماطلة والجحود في الوفاء بها إما طمعاً في منفعة مادية وإما لأسباب أخرى كثيرة. ولهذا كان لا بد من وجود نظام قضائي صارم وحاسم يقطع الطريق على أمثال هؤلاء ويوفر الحماية لكافة أطراف العقود ويحمل من ضعف إيمانه ووازع الضمير لديه على الالتزام بمسؤوليته العقدية والوفاء بها.
وحقيقة الأمر أن أصحاب الفضيلة القضاة لا شك أنهم يواجهون إشكالاً عميقاً في نظرهم لمثل هذه الدعاوى بحيث لا يمكن للقضاء ابتداءً أن يوصد أبوابه أمام دعاوى إثبات الصورية فلا يستمع لها، وذلك لأن من المعلوم الثابت والمشاهد أنه يوجد فعلياً نسبة قد تكون كبيرة من العقود والاتفاقات بين الناس عموماً والتجار خصوصاً هي في حقيقتها عقود صورية لا يراد منها ظاهرها، والسبب في ذلك يعود إلى عدة مبررات تحمل بعض الناس على إبرام عقودٍ صورية يتوصلون بها إلى أغراض غير ظاهرة للغير وهذه الأغراض منها ما هو مشروع ومنها ما هو ممنوع شرعاً أو نظاماً.
وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يمكن أبداً سد باب الصورية في العقود ومنعه بتاتاً وذلك لحاجة الناس إليه، وإنما الذي يجب الالتفات إليه وإيجاد معالجة حكيمة وشاملة له هو عدم المساهمة في فتح باب التلاعب بالعقود والاتفاقيات المثبتة والتنكر لها أو الانقلاب عليها لأدنى الأسباب، وأنه يجب الموازنة بين ما أشرت إليه من الحاجة أحياناً إلى إبرام عقودٍ صورية وبين مصلحة حماية العقود والاتفاقيات من التشكيك فيها والنكول عن الوفاء بها وأن يضع القضاء نصب عينيه تحقيق هذه الغاية التي هي من مقاصد الشريعة الإسلامية.
وأنه يجب النظر بعناية إلى ما تزخر به ساحات المحاكم ومكاتب القضاة من دعاوى لا نهاية لها كلها من هذا الباب، فهناك الدعاوى في إثبات صورية حصص بعض الشركاء في الشركات وهناك دعاوى إثبات صورية عقود بيع خصوصاً للعقارات، كما أن هناك دعاوى إثبات صورية عقود هبة يذكر المدعي أنها لغرض التهرب من حق الشفعة في العقار المبيع. وفي سبيل نظر هذه الدعاوى ضاعت حقوق كثيرة ولحق بالمتعاقدين حسني النية أضرار بالغة بسبب منعهم من التصرف في أملاكهم الثابتة بدعوى صورية تملكهم لها وقد يكونون في أمس الحاجة إلى التصرف فيها ببيع أو استثمارٍ أو انتفاع. وإن مما أرجو أن يتفطن له أصحاب الفضيلة القضاة أن مثل هذه الدعاوى ينبغي لها أن تُحاط بكثيرٍ من اليقظة والحذر وأن يتم التعامل معها بخصوصية تميزها عن غيرها من الدعاوى، وذلك حتى لا يكون القضاء – ولو لفترة من الزمن – عوناً للمماطلين والمتلاعبين في تمكينهم من التهرب من الوفاء بالتزاماتهم وإلحاق الضرر بمن تعاقدوا معهم، وألا يفتح القضاء الباب على مصراعيه لإهدار حجية العقود المكتوبة والموثقة في حين كان الواجب عليه حمايتها وإنفاذ مقتضاها. إنه مع كثرة وتنوع القضايا والنزاعات التي ينظرها أصحاب الفضيلة القضاة مما يتطلب منهم – وفقهم الله – جهداً استثنائياً خاصة في هذه المرحلة الحرجة من قلة عدد القضاة وعدم وجود الكادر المساعد لهم ممن يعينهم على تحضير القضايا ودراستها وتوفير المراجع العلمية والنظامية لهم، فإنه في ظل هذه الأزمة تشتد الحاجة إلى توجيه هذه الدعوة إلى القضاة وتذكيرهم بما يترتب على دعاوى الصورية الكاذبة من آثارٍ سيئة وخطيرة توقع في الخصومات وتلحق الضرر المأمور شرعاً بمنعه ورفعه بالمتعاقدين حسني النية.
وفي سبيل إيجاد وسائل تساعد على نظر هذه القضايا نظراً خاصاً أحاول هنا التذكير ببعض المسائل التي أتمنى الالتفات إليها وإعمالها صيانة للعقود من التلاعب وحماية لها من العبث والإهدار دون مسوغٍ شرعي، ومن ذلك: أولاً: أن يلتزم من يدعي بصورية العقد بذكر السبب الذي دعا إلى إنشاء هذا العقد مع عدم إرادة حقيقته ثم ينظر القاضي في مدى جدية وواقعية هذا السبب الذي يذكره المدعي وهل له ما يسنده ويبرره أم لا؟ وهذا من أبرز معايير فحص صحة دعوى الصورية، كما أنه من مجالات إبراز دقة اجتهاد القاضي وفهمه بالواقع والشرع.
ثانياً: أنه ينبغي التفريق بين العقود المسجلة والموثقة في الجهات الرسمية التي أنيط بها توثيق هذه العقود واعتبر ما يصدر عنها حجةً فيه وبين العقود والاتفاقيات غير الموثقة أو غير المسجلة لدى هذه الجهات، ولا أعني هنا أن العقود المسجلة لا تقبل إثبات الصورية مطلقاً وإنما ينبغي إحاطتها بمزيدٍ من العناية لسببين هما:
أ – أن هذه العقود عادة يصاحبها عدة إجراءات تجعل الصورية فيها أبعد من غيرها مثل إثبات عقد الشركة لدى كاتب العدل، حيث يصاحبه تسديد الحصص وإيداعها لدى البنوك وهو ما يتم إثباته في عقد الشركة.
ب – أن إيجاد جهات حكومية يناط بها توثيق هذه العقود بين الناس لا ينبغي إهدار المقصود منه بحيث لا يستفيد المتعاقدون حسنو النية من إثبات وتوثيق عقودهم لدى هذه الجهات.
ثالثاً: أنه ينبغي أيضا الاعتبار بمسألة التقادم ومضي الزمن الطويل على توقيع العقود بحيث يكون من الصعوبة بمكان فتح الباب لادعاء صورية العقد بعد سنوات طويلة من كتابته وتوثيقه ترتب على مضي هذه المدة آثارا كثيرة مثل تغير بعض المراكز القانونية لأطراف العقد واكتسابهم حقوقا بناءً عليه.
رابعاً: أنه ينبغي عدم النظر إلا في حدود ضيقة جداً لدعاوى الصورية التي تقام في عقودٍ ثبت أن أطرافها باشروا تنفيذ مقتضاها كل فيما يخصه، فإنه مما لا شك فيه أن العقد الذي يبرم ويبقى حبراً على ورق ليس كالعقد الذي يتضمن عديدا من الالتزامات لأطرافه ثم يباشر كل طرفٍ إنفاذ ما يخصه من التزامات وبعد أن يستكمل تنفيذ هذا العقد بمدة طويلة أو قصيرة يأتي بعض أطرافه مدعياً صوريته.
خامساً: أنه ينبغي عند نظر دعاوى الصورية أن تعطى أولوية خاصة عبر عدم إطالة أمد نظرها وتباعد مواعيد ذلك خصوصاً في بعض الأحوال التي يظهر للقاضي فيها تضرر المدعى عليه من بقاء الدعوى معلقة بحيث يفوت عليه الانتفاع بملكيته أو تكون معرضة للخسارة أو النقص سواءً كانت عقاراً أو منقولاً.
سادساً: في دعاوى الصورية يلجأ بعض المدعين إلى تقديم طلبات عاجلة للقضاء لها ارتباط بموضوع الدعوى أو يراد منها تحقيق غرضٍ للمدعي كإلزام المدعى عليه بالحضور عند نكوله عن ذلك أو منعه من السفر أو الحجز على بعض أمواله، وهذه الطلبات مما ينبغي للقاضي التريث فيها كثيراً وذلك لهشاشة القاعدة التي تقوم عليها الدعوى الموضوعية أصلاً والتي تهدف إلى إثبات خلاف الأصل وهو الصورية في العقد فينبغي التريث كثيراً قبل الإقدام على شيءٍ قد يلحق الأذى بالمدعى عليه دون حق.
سابعاً: أنه ينبغي أيضاً في نظر دعاوى الصورية مراعاة مدى ارتباط هذه الدعوى بطرف خارج عن أطراف العقد وذلك فيما لو أدعى بائع الأرض مثلاً صورية عقد البيع وذلك بعد أن قام المشتري ببيع هذه الأرض إلى طرف ثالث وقد يكون الطرف الثالث أيضا باعها لغيره، وهنا ينبغي الاحتياط كثيراً في نظر هذه الدعوى حتى لا يطال الضرر عدة أطراف لا يد لهم في ذلك.
ثامناً: إن الدعاوى القائمة على إثبات الصورية في العقود من أهم وأوسع المجالات التي يبين فيها مدى فهم القاضي وعلمه (العلم بالحكم الشرعي – والعلم بواقع الناس وأعرافهم) كما تكون هذه الدعاوى أيضاً معياراً يكشف دقة اجتهاد القاضي، حيث تستوجب منه مزيد التأمل ووزن الأدلة والقرائن والوقائع والتوصل إلى النتيجة الصحيحة الموافقة للحكم الشرعي.
تاسعاً: ينبغي في دعاوى الصورية إعمال أحكام الإثبات الشرعي بدقة وصرامة وفي هذا الباب يذكر شراح القانون أن العقود المكتوبة لا يجوز إثبات صوريتها إلا عن طريق الدليل الكتابي وأنه لا يكفي لإثبات صوريتها شهادة الشهود أو القرائن، ومع أن فقهاء الشريعة لم ينصوا على مثل ذلك إلا أنه مما يحسن مراعاته والأخذ به خصوصاً لتوافقه مع عُرف الناس وعملهم بحيث يبعد أن يُقدم أحدٌ على إلزام نفسه بعقد مكتوب وهو صوري لا يقصد به حقيقته دون إثبات صوريته كتابياً وهي ما يسمى في القانون بـ (ورقة الضد) خصوصاً في العقود التجارية الكبيرة وعقود الشركات حيث لا يتصور أن يفرط التاجر في إثبات ملكية ماله لغيره دون إثبات صورية ذلك.
ومن هذا المنطلق فإن هناك دعاوى نُظرت وتُنظر في المحاكم التجارية في ديوان المظالم تدور حول مواضيع مشابهة بحيث يسعى المدعي إلى إثبات شراكة له مع المدعى عليه بحصة تبلغ مئات الملايين من الريالات المسجلة باسم المدعى عليه دون أن يكون للمدعي دليل كتابي يثبت ما يدعيه. وهذا مما يرفضه الواقع والمنطق السليم أن يُفرط العاقل في مبالغ بهذا القدر ويكتبها باسم غيره دون الحصول على إثبات مكتوب يحفظ له حقه.
عاشراً: أنه مما يحسن بالقضاء النظر فيه بحث إمكانية معاملة المدعي في دعاوى الصورية بموجب النظام الخاص بالدعاوى الكيدية وتعزيره عن دعواه على اعتبار أنها دعوى كيدية وذلك في حال ظهر للقاضي سوء نيته وسعيه لمجرد الإضرار بالمدعى عليه وإلحاق الأذى به سواءً في منعه من الانتفاع بملكه أو في إضاعة وقته وماله بإجباره على الدخول في دعوى لعدة سنوات دون مسوغٍ شرعيٍ مقبول وأنه يجب في هذا الباب أن يكون من أهداف القضاء العادل حفظ الحقوق والأعراض وصيانتها من الامتهان والإضاعة.
وكذلك النظر في الحكم على المدعي بدفع تعويض مناسب للمدعى عليه عن الضرر الذي لحقه بسبب دعوى الصورية إذا ثبت أنها كيدية.
هذا شيء مما في النفس حول هذا الموضوع أثاره لدي ما أراه من مصائب ومصاعب تحدث في ساحات القضاء ضحيتها من الأبرياء وحسني النية ممن كانوا أطرافاً في عقود سعوا لإثباتها وكان في الجانب الآخر من العقد معتدون آثمون لا يتورعون عن التضليل والتلاعب بالحقوق وأكلها دون حق، ولعلي بذلك أكون قد ساهمت في إضافة شيءٍ من التذكير والنصح في هذا الباب، والله من وراء القصد.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً