غسل الأموال وعبء الإثبات
خالد بن محمد العنقري
جريمة غسل الأموال من الجرائم شديدة التعقيد، حيث إن مرتكبيها عادة من كبار المجرمين وممن يتسمون بالحذر الشديد وهم غالبا من تجار المخدرات لدرجة أن اتفاقية فيينا لعام 1988 حصرتها بالأموال الناتجة عن جرائم المخدرات صنعا أو بيعا وبذلك قضى القانون النموذجي الصادر عن الأمم المتحدة عام 1995، إلا أن التوصيات الـ 40 لمكافحة غسل الأموال والموقع عليها من قبل السعودية والتي تقرر العمل بها بقرار مجلس الوزراء بتاريخ 17/7/1420 قد توسع في اعتبار مصادر الأموال في جريمة غسل الأموال بل نص في مقدمته على إدراج أوسع نطاق ممكن للجرائم الأصلية.
تجدر الإشارة إلى اشتمال هذه التوصيات على إلزام المؤسسات المالية بالإبلاغ عن أي عمليات مشبوهة، كما حددت التوصيات آلية لعمل تلك المؤسسات وغيرها لمنع غسل الأموال وتشكيل لجان أمنية للتحري عن المشتبه بهم، كل ذلك وفقا لأنظمة كل دولة من الدول المشاركة ولذا نص في قرار مجلس الوزراء سالف الذكر أن يكون التطبيق لهذه التوصيات وفقا للأنظمة المعمول بها في المملكة.
من المقرر قانونا أن عبء الإثبات في الجرائم الجنائية يقع على عاتق جهة التحقيق إلا أن النقاشات الدولية السابقة للتوصيات الـ 40 طرح فيها نقل عبء الإثبات إلى المتهم لإثبات مصادر دخله ولم يلاق ذلك قبولا لمصادمته للقواعد المعتبرة في القانون الجنائي من حيث أن عبء الإثبات يقع على جهات التحقيق ولأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.
وتركت التوصيات لكل دولة للعمل وفق قانونها، فجاء القانون الفرنسي بنقل عبء الإثبات لمن ثبت قضاء إدانتهم بالاتجار غير المشروع بالمخدرات، وجاء القانون الإنجليزي بتقييد ذلك بالسنوات الست السابقة للجريمة، وجاء القانون المصري بتحميل جهة التحقيق عبء الإثبات.
في المقابل نجد أن المنظم السعودي لم يتطرق لذلك ما جعل عبء الإثبات يقع علي عاتق جهة التحقيق حسب نصوص نظام الإجراءات الجزائية، كما أن المملكة العربية السعودية ملتزمة بتطبيق الشريعة الإسلامية والبراءة في الشريعة أصل لا يحتاج إلى دليل إذ هو اليقين ولا يزول بالشك، كما أن الأصل براءة الذمة وعلى من يدعي شغلها أن يثبت ما يدعيه، ولا سيما أن الحكم في الإدانة بهذه الجريمة يعنى مصادرة الأموال المتعلقة بالاشتباه ومن المقرر شرعا أن للأموال حرمتها ولا يجوز استباحة شيء منها إلا بدليل شرعي ومسوغ نظامي لقوله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ “كل المسلم علي المسلم حرام دمه وماله وعرضه”.
جهة أخرى، فإن نقل عبء الإثبات فى بعض المواضع متصور شرعا تحت مبدأ من أين لك هذا وقد صدر الحكم رقم 34191807 بتاريخ 20/04/1434هـ المصادق عليه من محكمة الاستئناف والقاضي بمصادرة مبالغ مالية من أحد مروجي المخدرات عملا بنص المادة 18 من نظام مكافحة غسيل الأموال، ولا شك أن ذلك يتوافق مع العقل والنقل.
الأمر المعقد في هذا الموضوع ورود الاشتباه من المؤسسات المالية وهي جهات غير متخصصة بطبيعتها، ما يتطلب معه بذل الجهد من جهة التحري وتتبع المجرمين وتقديمهم للعدالة والذي يعتبر من صميم عملهم حسب نظام الإجراءات الجزائية بما في ذلك ضبط الرسائل ومراقبة المحادثات، كما أن لجهة التحقيق الاستعانة بخبير مختص لإبداء الرأي في أي مسألة متعلقة بالتحقيق الذي يجريه حسب نص المادة 77 من النظام، لا أن ينقل عبء الإثبات على المتهم ولم تثبت عليه أي جريمة مقترنة ولا سيما مع تكاليفه الباهظة بالنسبة للكيانات الاعتبارية وصعوبته أحيانا للكيانات التي لا تمسك الدفاتر.
إن تحقيق التوازن في هذا الموضوع له أهمية كبرى كما أن جريمة غسل الأموال كغيرها من الجرائم الجنائية يجب أن تتوافر فيها أركان الجريمة الثلاثة وهي الركن الشرعي “وجود النص الذي يجرم الفعل”، والركن المادي “وهو القيام بالعمل الإجرامي”، والركن المعنوي وهو “القصد الجنائي”، وتحقق ذلك لا يكون إلا بإجراءات متكاملة، سمتها الدقة والوضوح وفق القواعد الشرعية والأنظمة المرعية، ولكون الأحكام الجزائية مبناها اليقين وأي شك في الدليل المقدم يتم تفسيره لمصلحة المتهم وبذلك جاء الحديث “لأن تخطئ بالعفو خير من أن تخطئ بالعقوبة”، كما أن نقل عبء الإثبات بهذه الطريقة وتوجيه الاتهام به أمر لا يتصور خصوصا مع التجار الذين يمارسون نشاطا معلنا ولهم طرقهم في تجاراتهم، ومن الصعب على الموظف العام التعامل معها بشكل احترافي، ومن الصعب قياس جريمة غسل الأموال على غيرها من الجرائم الجنائية ولولا خطورتها وتعقيدها ما اجتمع العالم لمكافحتها.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً