تساؤلات حول التقادم
حسان بن إبراهيم السيف
بعد مقالتي السابقة عن ضياع الحقوق بسبب التقادم وردتني تساؤلات عديدة رأيت أنه من المهم الإجابة عنها في هذا المقال منها: هل التقادم يسقط الحق أم يمنع من سماع الدعوى؟ والواقع أن عامة النصوص النظامية المتعلقة بالتقادم صريحة في أن التقادم يتعلق فقط بسماع الدعوى ولا أثر له في ثبوت الحقوق أو إسقاطها، ومن الأمثلة على ذلك ما نصت عليه قواعد المرافعات والإجراءات أمام ديوان المظالم من أنه: “لا تسمع الدعاوى المنصوص عليها…” فكون النص أتى بعبارة “لا تسمع الدعاوى…” فذلك يعني أن المقصود هو عدم جواز قبول الدعوى فقط، ولا يمتد أثر النص إلى غير ذلك.
وكذلك نجد المادة (116) من نظام الأوراق التجارية تنص على أنه: “لا تسمع دعاوى رجوع الحامل على المسحوب عليه والساحب والمظهر وغيرهم من الملتزمين بعد مضي ستة شهور من تاريخ انقضاء ميعاد تقديم الشيك”، فنجد أن المنظم السعودي دائماً يستخدم عبارة “لا تسمع…” عند تحديد المدد المتعلقة بنظر الدعاوى القضائية، والأمثلة على ذلك كثيرة، وقد أكدنا في المقال السابق عدم سقوط الحق في رفع الدعوى المدنية أو التجارية عند فقد الشيك، أو السند لأمر، أو الكمبيالة لقوتها كورقة تجارية بسبب فوات المدة المحددة لرفع الدعوى أمام مكتب الفصل في منازعات الأوراق التجارية، وهو ما استقر عليه القضاء التجاري والقضاء العام في المملكة العربية السعودية.
تبقى مسألة أخرى من الأهمية بمكان، وهي هل يمكن قبول سماع الدعوى بعد فوات المدة المحددة لنظرها إذا كان ذلك بسبب عذر سائغ؟ في الواقع أغلب النصوص النظامية لم تعالج هذه المسألة، ولكن تميزت قواعد المرافعات والإجراءات أمام ديوان المظالم بالنص على جواز نظر دعوى التعويض بعد مضي المدة المحددة لرفعها إذا كان ذلك بسبب “…عذر شرعي حال دون رفع الدعوى يثبت لدى الدائرة المختصة بالديوان…”، ولكن يبقى تحديد الأعذار الشرعية المعتبرة هنا سلطة تقديرية للدائرة القضائية ناظرة الدعوى، ومن الأمثلة على هذه الأعذار ما جاء في أحد أحكام ديوان المظالم المؤيد من قبل هيئة التدقيق في إحدى قضايا التعويض التي كان يفترض أن يتقدم فيها المدعي إلى الديوان في عام 1414هـ لكن المدعي لم يتقدم إلى الديوان إلا في عام 1425هـ، وذلك لأن المدعي أجنبي “يقيم خارج المملكة إذ هو من مواطني دولة….
” ونظراً لكونه “فقيراً، ولم يتمكن من القدوم للمملكة لعدم تمكنه من الحصول على التأشيرة المطلوبة، وعلاوة على ذلك فإن إقامته لهذه الدعوى استلزم منه عدة إجراءات تمثلت في استخراج حصر الورثة…، ووكالة عن الورثة…” إلى آخر ما ورد في ذلك الحكم. كما أن من الأمثلة على الأعذار الشرعية التي قبلتها المحكمة الإدارية ما جاء في إحدى قضايا التعويض التي تقدم فيها المدعي بعد المدة المحددة لرفع الدعوى ولكن الدائرة قبلت تأخره عن التقديم حتى مضت: “أكثر من عشر سنوات على نشوء الحق المطالب فيه بالتعويض،… إلا أن الدائرة تجد له العذر في تأخره عن المطالبة لما ثبت لديها حسب التقارير الطبية المرفقة بإصابة والده بجلطة دماغية…وازداد معه تدهور حالة والده الصحية؛ مما استدعى معه مرافقته لوالده بشكل مستمر حتى وفاته…”.
ولكن تبقى مسألة جديرة بالبحث، وهي مدى إمكانية تطبيق هذا المبدأ على النصوص النظامية الأخرى التي لم تشر إلى جواز قبول الدعوى ونظرها بعد المدة المحددة لها إذا كان تأخر المدعي بسبب عذر شرعي سائغ مماثل لما اعتبره ديوان المظالم في أحكامه ومبادئه القضائية، وأعتقد أنه يجب أن يكون لمجلس الشورى وهيئة الخبراء زمام المبادرة في بحث هذه المسألة، ودراسة مدى إمكانية إيجاد معالجة قانونية لها تحل من هذه المشكلة التي عانى وما زال يعانيها الكثيرون خاصة من كانت لهم أعذار سائغة منعت من رفع الدعاوى في أوقاتها المحددة لها،
أواصل ما شرعت فيه من الإجابة عن أهم التساؤلات حول التقادم، ومن أهمها: هل كل القرارات الإدارية يخضع الطعن فيها للتقادم؟ وللإجابة عن هذا التساؤل المهم أقول: ليست كل القرارات الإدارية خاضعة للتقادم، بل إن القرار الإداري الوحيد الذي أفرده نظام ديوان المظالم بالتعريف لا يخضع الطعن فيه للتقادم، وهو ما اصطلح على تسميته بالقرار السلبي، والذي جاء تعريفه ضمن نص المادة الثالثة عشرة من نظام ديوان المظالم التي نصت على أنه “…يعد في حكم القرار الإداري رفض جهة الإدارة أو امتناعها عن اتخاذ قرار كان من الواجب عليها اتخاذه طبقا للأنظمة واللوائح”، وقد استقر قضاء ديوان المظالم على عدم خضوع قضايا الطعن في القرارات السلبية للتقادم، وقد جاء في أحد أحكام ديوان المظالم ما نصه “…من الأمور المسلم بها أن القرارات الإدارية السلبية لا يتقيد الطعن فيها بميعاد معين، بل يظل الطعن مفتوحا حتى يزول الامتناع…”،
ومن الأمثلة على القرارات السلبية ما ورد في أحد أحكام ديوان المظالم الذي نص على أن “…امتناع الجهة المدعى عليها عن حصر عقار المدعي وتقديره وتشكيل اللجنة النظامية اللازمة لذلك يعد من القرارات السلبية مستمرة الأثر، التي يجوز التظلم منها ولا تخضع للمواعيد المقررة في قواعد المرافعات والإجراءات أمام ديوان المظالم”.
أيضا من القرارات التي لا يخضع الطعن فيها للتقادم القرارات المعدومة أو المنعدمة، وأجلى صورة لتلك هي كونها مشوبة بعيب عدم الاختصاص الجسيم، أو ما يسمى باغتصاب السلطة، وذلك بصدور القرار من جهة غير مختصة بإصداره، ومن أمثلته ما جاء في أحد الطعون المقدمة إلى ديوان المظالم ضد قرار صادر من (إدارة الجوازات) في مخالفة تختص بالنظر فيها وزارة الحج وقد جاء في الحكم (…ومن ثم فتصدي المدعى عليها (إدارة الجوازات) لإصدار قرارات تتصل بنشاط خدمات العمرة هو في صورته هذه سلب لسلطات جهة أخرى، وتعدٍ في الاختصاص يبطل القرار الصادر عنها، ويعدم أثره النظامي، ويضحى كأن لم يكن، ويكون غير قابل للتحصين بمضي المدة باعتباره قرارا معدوما تقضي الدائرة ببطلانه…”.
ومن الأمثلة على القرارات المنعدمة ما قامت به إحدى البلديات من إيقاف أحد المواطنين عن البناء في ملكه بعد حصوله على رخصة البناء، وقد ألغى ديوان المظالم قرار البلدية؛ لأنه “… يعد مخالفة للمادة (125) من نظام الطرق والمباني، حيث إن إصدار مثل هذا القرار هو من اختصاص المحكمة الشرعية لا البلدية، فيكون إصدار مثل هذا القرار من قبل البلدية من غير مختص فيه اغتصابا للسلطة، فكان القرار منعدما جديرا بالإلغاء، والقرار المنعدم لا يتقيد بالمدد…”، وقد نصت المادة (125) من نظام الطرق والمباني على أن “كل شخص حصل على رخصة البناء لا يمكن توقيفه من الاستمرار في البناء المرخص له؛ إلا بقرار قضائي صادر من المحكمة الشرعية في قضايا التملك”.
أيضا من القرارات التي لا يخضع الطعن فيها للتقادم (القرارات مستمرة الأثر) وهي القرارات التي تتجدد آثارها على ذوي الشأن، ما لم يتم إلغاؤها، فهي ذات أثر مستمر ومتجدَّد، وعليه فإن الطعن في هذه القرارات لا يخضع للتقادم، ولو كان القرار الصادر فيها إيجابيا؛ ولذا فإن من أوضح صور القرارات السلبية قرار المنع من السفر، فهذا القرار وإن كان إيجابيا إلا أن أثر هذا القرار وهو المنع من السفر متجدد ومستمر؛ ولذا فإن الطعن فيه لا يخضع للتقادم، كما هو الشأن بامتناع الجهة عن إصدار ترخيص فهو قرار يتجدد عند تقديم كل طلب بالترخيص، وبالتالي يبقى ميعاد طلب الحكم بعدم صحته مفتوحا، فهذه القرارات تظل قائمة في حق ذوي الشأن ويحق لهم الطعن عليها في أي وقت.
لكن هنا استدراك مهم فيما يتعلق بقرارات المنع من السفر، وهو أن ديوان المظالم لا يجوز له نظر دعاوى الطعن في قرارات المنع من السفر إذا كانت صادرة من محكمة مختصة؛ إذ إن المادة الرابعة عشرة من نظام ديوان المظالم نصت على أنه: لا يجوز لمحاكم ديوان المظالم…النظر في الاعتراضات على ما تصدره المحاكم – غير الخاضعة لهذا النظام – من أحكام داخلة في ولايتها…”.
قاضٍ في ديوان المظالم سابقا – محامٍ ومستشار قانوني
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً