أهمية القضاء كأحد مظاهر السيادة
القضاء يمثل احد مظاهر السيادة
ترتكز الديمقراطية في الدول ـ من بين ما ترتكز عليه ـ على مبدأ الفصل بين السلطات، واستقلال مختلف الجهات الممارسة للسيادة.. ولعل من نافلة القول أن يقال بأن القضاء يمثل أحد مظاهر السيادة الثلاثة.. ولعله يمثل أهم سلطة ينبغي أن تتأكد فيها حالة الاستقلالية..!! لقد كفل الدستور الأردني مبدأ الفصل بين السلطات، كما كفل استقلالية القضاء بمادتيه (27 و97).. كما أكدتها المادة الثالثة من قانون استقلال القضاء.. كذلك الأمر فإنه وبموجب المادة (102) من قانون “استقلال القضاء” يعتبر “المجلس القضائي” قمة هرم السلطة القضائية.. في تواز وتساو وتكامل مع السلطتين التشريعية التي يمثلها “مجلس الأمة”.. والتنفيذية التي يمثلها “مجلس الوزراء”..
لقد حفل تاريخ القضاء الأردني بمواقف مشرقة عبر فيها بناة هذه السلطة التاريخيين عن جرأة ونزاهة وحساسية شديدة إزاء إعمال مبدأ الفصل بين السلطات، وتحقيق الاستقلالية!!
إلا أن المرحلة العرفية ـ التي امتدت لأكثر من ثلاثة عقود ـ شهدت حالة تغول واستفراد السلطة التنفيذية بباقي السلطات.. وما تزال إرهاصات تلك الحقبة وتأثيراتها حاضرة فينا.. وما التدفق غير المحمود للقوانين المؤقتة إلا أحد هذه الإرهاصات..!!
وها نحن اليوم إزاء حالة انتهاك متجددة لمبدأ الفصل بين السلطات.. إذ منذ إعلان الخطة التنفيذية للحكومة، والقوانين المؤقتة تتوالى تباعاً على جميع المحاور.. بما يؤكد أننا إزاء خطة منهجية تستهدف إخضاع جميع السلطات لسلطة واحدة.. بدأت بالسلطة التشريعية؛ إذ تم تحجيمها وتشويه صورتها.. وها هي تتمدد بقوة نحو السلطة القضائية التي تتعرض اليوم لضغوط وتدخلات سافرة ومستترة أخذت تأثيراتها وتداعياتها تظهر بصورة أزمات خطيرة.. فضلاً عن أن هذه التدخلات والضغوط قد تسارعت كثيراً في الشهور الستة الماضية، حتى بلغت ذروتها بالقانون المعدل لقانون استقلال القضاء.. فكانت الأزمة الراهنة التي تشير كافة معطياتها بأنها قد تكون الأكبر والأخطر منذ الأزمة التي شهدتها في منتصف الثمانينات..!!
فتحت يافطة “إستراتيجية تطوير القضاء” أقرت الحكومة سلسلة من القوانين المؤقتة، واستتبعتها بسلسلة من الإجراءات، وكلها تستهدف استقلالية القضاء، وتفكيك سلطته المتمثلة بالمجلس القضائي، وإخضاع هذه السلطة أو إلحاقها بوزارة العدل.. ومنها: قانون النيابة العامة (الذي جرى من خلاله إتباع النيابة العامة لوزير العدل في تحريك دعاوى الحق العام وتعقبها).. ونظام التفتيش القضائي (الذي جرى بموجبه إتباع جهاز التفتيش القضائي لوزير العدل)؛ وقانون قضايا الدولة ونظام الخدمة القضائية الذي خفض سن القاضي إلى خمس وعشرين سنة، ووضع شروطاً جديدة للتعيين والتدريب والترقية والتقاعد.. وقانون “استقلال القضاء”..
وحين “بلغ السيل الزبى “.. كانت “انتفاضة القضاة” ومذكرتهم الاحتجاجية (التي وقعها 117 قاضياً جلهم لم يبلغ سن التقاعد أو حتى سن الاستيداع.. كما وافق عليها مئات آخرون لم يتسن لهم توقيعها).. لقد عبر القضاة في مذكرتهم تلك عن استيائهم الشديد.. لافتقار هذه القوانين إلى الدستورية.. ولمساسها المباشر بمجمل “العملية القضائية”.. بما انطوت عليه من تفكيك للقضاء.. وتقزيم لصلاحيات وسلطات المجلس القضائي.. واستتباع لعدد من دوائره لسلطة الوزارة.
ويبدو من تداعيات الأزمة أن وزير العدل لم يتحسب لمثل ردة الفعل القوية تلك.. فراح يتخبط جاهداً للالتفاف على تحرك القضاة اللافت.. إذ حاول تارة الضغط على عدد من القضاة لإصدار مذكرة مضادة.. وسعى تارة أخرى لخلق حالة إعلامية مضادة.. وفي الثالثة حاول تشويه التحرك القضائي بنشر أخبار وهمية عن منافع جمركية للقضاة..
إلا أن جميع هذه المحاولات الاحتوائية باءت بالفشل.. فالمعنيون والمتابعون والمهتمون من الأردنيين ـ يمثلون كافة شرائح وطبقات الشعب الأردني ـ يرون في تحرك القضاة بداية مهمة لاستعادة هيبة الدستور.. كما أن جلهم يرون بأن القوانين المؤقتة تستهدف تطويع القضاء بما يرضي السلطه التنفيذية.. كما أنها وجهت بالفعل ضربة موجعه للجسم القضائي.. فضلاً عن أن آلية وطريقة إقرارها تنطوي على استخفاف بالسلطة القضائية!!
كما أن “الاحتجاج القضائي” يكتسب في كل يوم المزيد من التأييد الشعبي؛ لأن موضوعه لامس هماً وطنياً عاماً هو (التغول والاستفراد الحكومي بكل الوطن ومكوناته).. ولعل من مؤشرات هذا التأييد الشعبي ما تظهره نتيجة الاستفتاء الذي يطرحه “موقع جراسا نيوز” حول (إقالة وزير العدل).. إذ بلغ عدد المصوتين حتى فجر السبت (3/7/2010) ما مجموعه (65488) صوتا، (88%) منهم بـ: نعم لإقالة وزير العدل.. مقابل (11%) صوتوا بـ:لا.. وهذه الأرقام مرشحة للارتفاع..
وعليه فإن الأردنيين عبروا عن حرصهم الشديد على أن تظل السلطة القضائية حصناً وملاذا لهم.. ترعى الحق، وتقيم العدل، وتحقق المساواة فيما بينهم.. وتقي الوطن والمواطنين آفات الاستبداد والظلم والفساد.. فالقضاء هو العنصر الأساس من عناصر الاستقرار.. وهو صمام الأمان للمجتمع.. فضلاً عن أنه أساس الحكم، والعدل فيه أساس الملك.. وأما القضاة فهم حراس الدستور وحماته الحقيقيون..
وعليه فما لم تعد الأمور إلى نصابها.. وما لم تستعد السلطة القضائية استقلاليتها وهيبتها.. فإن الملف سيظل مفتوحاً وعلى جميع الاحتمالات.. وسيفتح معه كذلك ملف السلطة التشريعية حتى يتحقق مبدأ الفصل بين السلطات.. ويطمئن الأردنيون في ظلال دولة العدل وسيادة القانون والدستور.. فكما “بلغ السيل الزبى” لدى القضاة فإنه كذلك بالنسبة لجميع الأردنيين.. فقد سئمنا “حالة قولوا ما تريدون.. وإن شئتم موتوا بغيظكم.. كما سئمنا من حكومات شعارها “نفعل ما نريد فلا عين ترى ولا أذن تسمع”!!
اترك تعليقاً