موقف القانون من الإضراب
لما كان في العمل مصلحة مشتركة بين العاملين وأرباب العمل، وفـي تقدم الإنتاج ونموه وزيادة إنتاجية العمل مصلحة وطنية/قومية عامة تهم المجتمع والدولة على السواء، فقد كان الإضراب موضع اهتمام النقابات والمنظمات الشعبية والأحزاب السياسية، وموضع اهتمام الدول والحكومات والمشرعين وفقهاء القانون. ففي الإضراب، سافراً كان أو مقنّعاً، إضرار بالمصالح الخاصة لأرباب العمل وبالمصلحة العامة أيضاً بما في ذلك مصلحة المضربين أنفسهم، لذلك فإن هؤلاء المضربين لا يقومون بالإضراب إلا مضطرين. كما أن الإضرابات تتعارض ومصلحة الدولة سواء بوصفها راعية الملكية الخاصة وحاميتها أم بوصفها راعية المصلحة العامة. لذلك تستعمل الحكومات عادة سلطة القانون في مواجهة المضربين. وكانت القوانين تميل إلى التشدد في منع الإضراب وحظره إذ حرم قانون لوشابليه (1791) الإضراب في فرنسة، كما حرّمه قانون بيت في بريطانية (1799)، وحذت حذوهما بلدان أخرى. إلا أن تزايد أعداد العمال وانتظامهم في نقابات وأحزاب سياسية، ونمو مؤسسات المجتمع المدني التي تحد من سلطة الدولة، أدت جميعها إلى الاعتراف بحق الإضراب بوصفه حقاً مدنياً وصيغةً من صيغ حرية التعبير، فوجدت الحكومات نفسها بين أمرين: ضرورة الاعتراف بحق القوى الاجتماعية في الإضراب والاحتجاج من جهة، والمحافظة على أمن المجتمع ومصلحته العامة وعلى هيبتها وشرعيتها من جهة أخرى.
وما تزال الحكومات تغلب أحد طرفي هذه الجدلية، فإما أن تميل إلى الترخص في منح هذا الحق لجميع القوى الاجتماعية، حتى تلك التي تتنافى مطالبها مع ثقافة المجتمع وقيمه (كالشاذين جنسياً)، أو تتشدد في ذلك تشدداً مبالغاً فيه، فلا تستخدم في مواجهة المضربين سلطة القانون فقط، بل تعمد إلى قمع الإضرابات وكسرها مستعينة بقوى الأمن والجيش وبفرق خاصة مهمتها «مكافحة الشغب» وبين هذين الحدين، الترخص والتشدد، تتدرج مواقف الحكومات وتتفاوت من بلد إلى آخر بحسب درجة تطور الوعي الاجتماعي بوجه عام والوعي السياسي بوجه خاص وبحسب قوة المجتمع المدني وفاعلية مؤسساته. لذلك تتنوع آليات مواجهة الإضراب ووسائلها فتتدرج من التفاوض والتحكيم والتقاضي أمام المحاكم المختصة إلى التقييد والمنع والقمع. وغالباً ما تحرم الحكومات الإضراب تحريماً مطلقاً على فئات معينة كالموظفين والمستخدمين الذين يقومون بخدمة عامة أو بالعمل في المرافق العامة، أو بعمل يلبي حاجة أساسية من حاجات المجتمع (كالعاملين في الأفران والمشافي)، كما تشترط في إعلانه الإعلام المسبق والحصول على موافقة السلطات المختصة.
وتجدر الإشارة إلـى ارتباط الإضراب بالمقاومة الوطنية وبنضالات الطبقة العاملة والفئات الاجتماعية المهمشة، لذلك ساندت القوى الليبرالية والديمقراطية والاشتراكية حق الإضراب في نطاق مساندتها الحقوق المدنية والحريات السياسية وحقوق الإنسان والمواطن. إلا أن الدول الشمولية والسلطات المستبدة حرّمت الإضراب تحريماً تاماً، وعدته خروجاً على القانون وتهديداً للنظام العام وتمرداً على سلطة الدولة.
اترك تعليقاً