لوائح تأجير السيارات .. تجاوزها الزمن
د. محمد آل عباس
شخصيا، أنا مع حرية الأسواق، حرية الناس، حرية المعتقد، حرية الاختيار، وليس هذا يعني أنني أنادي بليبرالية الأسواق، لكنني مع الاختيار الحر، والأمر الآخر أنني مع النظام والتنظيم، لكن هناك فرق بين التنظيم والوصاية على المجتمع في قراراته الاقتصادية وحريته في البيع والشراء والتنافسية.
هذه المقدمة تأسيسا لقراءة اللوائح التي أصدرتها وزارة النقل بشأن نشاط تأجير السيارات والأجرة العائلية، وإذا كان التمهيد الذي ورد في كل لائحة ينص بكل صراحة على أنها تهدف إلى إيجاد بيئة مناسبة للاستثمار، فإن مناقشة هادئة لهذه اللوائح ستؤكد العكس، وأن هناك فروقا جوهرية بين تنظيم العلاقات الاقتصادية والقانونية وتسهيل التقاضي من خلال تبيان حقوق جميع الأطراف المتعاقدة وبين الوصاية على قرارات المجتمع. وهنا يجب القول، إن المملكة قد مرت بفترات اقتصادية كانت تقتضي أن تمارس الحكومة عدة أدوار وأن تعمل على حماية الناس نظرا لضعف القدرة على اتخاذ القرار الاقتصادي، بسبب تغير الظروف الاقتصادية وتجددها بشكل سريع لم يعهده الناس من قبل، وأيضا “وهو الأهم” غياب كثير من المعلومات والشفافية وحصول عدد قليل من الناس على هذه المعلومات وغيابها عن الأكثرية، كل هذه القضايا جعلت الحكومة ممثلة في الوزارات المختلفة تصدر عديدا من التنظيمات التي كان لها تأثير في انفتاح النشاط الاقتصادي في المملكة وتحريره، لكن الآن ومع “رؤية المملكة 2030” وأيضا مع نمو الوعي الاقتصادي لدى كثير من الناس وسهولة التقاضي وتنوع المحاكم وتطورها، فإن كثيرا من فلسفة بناء اللوائح يجب أن تتغير.
فمن يقرأ لوائح وزارة النقل في شأن تأجير السيارات، يجد أنها حجرت واسعا، وقيدت حقوقا اقتصادية أساسية، فالتصنيف المشار إليه في اللائحة ليس له أثر مباشر في نوعية الخدمة، وهو في جوهره تصنيف يقيد القرار الحر للناس ويقيد الحرية الاقتصادية، فمثلا المادة الرابعة “الفقرة الخامسة”، تشترط وضع ضمان مالي 100 ألف ريال، ويبقى التساؤل لماذا هذا الضمان المالي، وفي مقابل ماذا؟ فالضمان المالي يتم إقراره فقط لضمان حقوق أساسية للدولة والمجتمع من ممارسات الشركات ولمواجهة الالتزامات المحتملة عليها فيما لو توقفت عن النشاط، وهذا أسلوب مفهوم في إدارة المخاطر، حيث يتم من خلاله نقل خطر هذه الالتزامات المحتملة إلى المؤسسة بدلا عن الدولة، لكن في مسألة تأجير السيارات، فإن الالتزامات المحتملة عند التوقف عن النشاط تقع على كاهل المؤسسة نفسها ابتداء.
فلا داعي لنقلها أو تعزيزها، فهي وحدها المعرضة للخطر المباشر، حيث قد تكون بعض سياراتها في حوزة المستأجرين أو هناك مستحقات لها لم يتم دفعها بعد، وعلى هذا، فإن اشتراط الضمان ليس له محل من الإعراب في اللائحة سوى أنه التزام بفلسفة إدارية أصبحت قديمة وغير فاعلة الآن، بل تعوق النشاط الاقتصادي وتعوق المؤسسات الصغيرة على وجه الخصوص. التصنيف يهدف دائما إلى تبرير الحقوق والأسعار، ومن المستغرب في اللائحة تصنيف مؤسسات النقل بعدد السيارات، فهذا لا معنى له إطلاقا، ولماذا يحق للفئة “أ” أن تؤجر سيارة بسائق، بينما لا يحق ذلك لفئة أقل، ما الفائدة التي تحققت للسوق والمجتمع من مثل هذه المزايا التي تمنح للفئة “أ”؟، لأن لديها ثلاثة آلاف سيارة أو أقل، لأن لديها رأسمالا أكبر.
إن هذا يشبه منع فتح المحال الصغيرة فقط لأن رأسمالها قليل ومنعها من وضع لوحة أو بائع لأنها صغيرة، فأين دعم المنشآت الصغيرة والشباب، هل تأثر السعر الذي يحصل عليه المواطن بهذا التصنيف؟ هل هناك رسالة واضحة للمجتمع بشأن جودة الخدمة؟ وهل فعلا ستختلف جودة الخدمة “لمن استأجر السيارة وحصل عليها” بين مؤسسة تملك ثلاث سيارات عن جودة الخدمة لشركة تمتلك ثلاثة آلاف سيارة؟ إن الواضح جدا في فلسفة هذا التصنيف أنه يحد من المنافسة أكثر من أنه يبرر الأسعار، وهنا نضع كثيرا من الأسئلة حول اللائحة، ومرة أخرى أشعر بأن هذه التصنيفات جنبا إلى جنب شروط الضمان، لا تقدم أي تحسن في الخدمة بقدر ما أنها جزء من فلسفة قديمة تتضمن الوصاية على القرار.
الناس راشدون اقتصاديا، وهم قادرون على المقارنة بين المؤسسات والأسعار والخدمات، خصوصا اليوم مع توافر الإنترنت والتطبيقات المذهلة، والأسواق، ووعي الناس تجاوز مثل هذه اللوائح تماما، والمقصود هنا أنه يجب ترك السوق للتنافسية الحرة، خاصة أن جميع المعلومات متاحة عند اتخاذ قرار الشراء، فالمستأجر يعرف الشركات من خلال مقراتها ومواقعها، ويعرف السيارات بأنواعها، ولا أعتقد أنه سيهتم كثيرا أن يكون لدى هذه المؤسسة ألف سيارة أو سيارة واحدة، المهم لديه هو الحصول على سيارة في الوقت المناسب وبأقل تكلفة.
الجميع أصبح يعرف تأثير القضايا الاقتصادية مثل الحجم الكبير Economy of Scale، لكن حتى هذه الممارسات مجرمة أحيانا في بعض الدول، نظرا لأنها تسعى إلى احتكار الأسواق من خلال الإغراق، لكن ماذا يعني أن تكون اللائحة نفسها تشجع ممارسات مثل هذه، بل تقننها. وفي سعينا المحموم إلى تعزيز التنافسية في السوق، فإن مثل هذه الأنظمة بلا أدنى شك عندي لا تسهم في هذا الاتجاه أبدا. وبهذا، فلا معنى من هذه التصنيفات، والأدهى أن يمنع أصحاب التصنيفات الأقل من حقوق أساسية في المنافسة فقط لأن رأسمالهم أقل من غيرهم، فهذا يخل بعدالة المنافسة ويحقق لأصحاب رؤوس الأموال ميزات حصلوا عليها دون منطق مقبول. وما يمكن قوله في لائحة تأجير السيارات يمكن قوله في لائحة نشاط الأجرة العائلية، لقد تجاوزها الزمن.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً