معيار الجودة في العمل القضائي
القاضي سالم روضان الموسوي
إن كل خدمة تقدمها مؤسسات الدولة لابد من وجود معايير تقاس بموجبها مستويات الأداء للتحقق من مستوى الجودة التي تقدم إلى المواطن سواء في مجال الإنتاج المادي الملموس أو الإنتاج الفكري المحسوس، ويعتبر العمل القضائي من الأعمال الفكرية التي يتولاها القضاة عبر الاجتهاد القضائي وهذا الاجتهاد، الذي يصب لاحقاً بشكله المادي الملموس وهو الحكم القضائي، حيث عرفه فقهاء القانون وقبلهم فقهاء الشريعة بأنه استنباط حكم نافذ من نص قانوني أو شرعي، وبالوسائل التي يتوفر عليها القاضي ومن أهمها الخبرة والعلم والمعرفة والإدراك، وفي الشريعة يرى بعض الفقهاء ومنهم ابوبكر الرازي في كتابه الفصول في الأصول، أن من أهم الشروط الواجب توفرها يَكُونَ عَالِمًا بِجُمَلِ الْأُصُولِ ، وَيَكُونَ عَالِمًا بِدَلَالَاتِ الْقَوْلِ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ،وَيَكُونَ عَالِمًا بِوُجُوهِ الِاسْتِدْلَالَاتِ، وهذه لا تأتي بالفطرة وإنما عبر الخبرة والدربة والدراية المقرونة بالحكمة والتأني، لذلك لا يمكن إن نعتبر جودة الأداء القضائي متحققة إذا لم نطلع على حجم المنجز الذي قدمته أي من المؤسسات القضائية ،
ومن أهم المعايير لمعرفة هذه الجودة في الأداء سرعة حسم الدعاوى لان فيها سرعة لإيصال الحق إلى صاحبه الذي طلبه سواء كان في القضاء الاعتيادي بشقيه الجزائي والمدني أو على مستوى القضاء الدستوري أو الإداري ، وهذا ما دعا جميع المؤسسات القضائية إلى عرض أعداد الدعاوى الواردة والمحسومة والمدورة وفي ضوء ذلك يتم تقييم الأداء، ولبيان معيار الجودة في العمل القضائي، سأعرض لما قامت به المحكمة الاتحادية العليا خلال مسيرتها القصيرة نسبيا منذ أن تشكلت في عام 2005 ولغاية نهاية عام 2018 حيث بلغ عدد الدعاوى التي حسمتها خلال تلك الفترة ناهزت الألف بين دعوى دستورية وتفسير لنصوص الدستوري وعند قياس هذا الكم، مع ما تعمل به محاكم القضاء الدستوري في البلدان العربية والاقليمية، التي تماثلها في الاختصاص فانه عنوان كبير من حيث الكم، فضلا عن ذلك فان معيار الجودة لا يكون بالأعداد وإنما بالموضوع الذي تعالجه تلك الأحكام، وعند استعراض القرارات التي أصدرتها المحكمة الاتحادية العليا، نجد إنها قرارات أسهمت في بناء دولة العراق الحديثة وعززت من سيادة القانون وحافظت على النظام الديمقراطي البرلماني للعراق الجديد، ومن الامثلة على ذلك قرارات المحكمة التي بموجبها تم تحديد اختيار الجهة المكلفة بترشيح رئيس الوزراء ،
وتنظيم علم السلطة التشريعية في قرارات قطع الجلسة المفتوحة ، كذلك قراراتها التي أسهمت في صيانة استقلال السلطة القضائية ومنع السلطة التنفيذية من الزحف على صلاحيات القضاء الاعتيادي عبر تشريعات فيها مخالفة للدستور، فتصدت لها المحكمة الاتحادية العليا بعدة قرارات آخرها كان قرارها العدد 10/اتحادية/2019 في 26/2/2019 وهذا ليس بمنة على احد وإنما واجبها الدستوري، الإشارة إليه هو من باب التذكير بحجم المنجز الفقهي للمحكمة الاتحادية العليا لأنها المحكمة الدستورية في العراق، ويعد القضاء الدستوري من أهم الضمانات التي وفرتها الأنظمة الدستورية لحماية الحقوق والحريات الواردة في الدساتير ذات النهج الديمقراطي، ولم يكن ذلك بالأمر اليسير وإنما جاء عبر نضال مرير قامت به الشعوب على مدى قرون، وانتصرت إرادة الشعوب على الحكام الذين بعضهم يعتبر نفسه ظل الله في الأرض وخليفته ويملك السلطة المطلقة وينفرد فيها ويتحكم بمصير الشعب على وفق هواه وميوله، فضلا عن دورها في سد النقص التشريعي في بعض القوانين التي طالها الإغفال التشريعي، وعلى امتداد عمرها القصير نسبياً كان لها اثر كبير في تحقيق منجز فقهي يتعلق بالقضاء الدستوري فاق عمل العديد من المحاكم الدستورية في بعض البلدان المجاورة أو والمماثلة لنظام الحكم في العراق، ولم يقتصر الأمر على الأحكام القضائية التي أصدرتها وإنما كانت مادة لعشرات الدراسات والبحوث المتعلقة بالفقه الدستوري، وكتب عنها في رسائل الماجستير والدكتوراه في مجال الفقه الدستوري والقانون العام واطلعت على عدد منها ووجدت إن الدراسات الأكاديمية المتخصصة تناولت المحكمة الاتحادية العليا تحليلا ونقدا، ولم أجد نقدا يوجه لأحكامها وإنما طرح الرؤى التي تشكل قراءات مختلفة للنصوص الدستورية وقرار المحكمة الاتحادية العليا كان الفاصل في تحديد الرأي السديد الذي أصبح مبدأ دستوري يعمل بموجبه وتعاد على وفقه صياغة النظريات في الفقه الدستوري،
كما أثنى الكثير من فقهاء القانون الدستوري في الوطن العربي وخارجه بالعطاء الثر لعمل المحكمة مما يدعو الجميع إلى التفاخر بوجود قضاء دستوري عراقي له سمات خاصة تتناسب وطبيعة نظام الحكم في العراق وينطلق من استقلاله التام وحياده وموضوعيته تجاه القضايا التي نظر فيها ولو لم تكن الكتيبة الفقهية المتمثلة بقضاة المحكمة الاتحادية العليا على قدر عالي من المسؤولية والحكمة والتجربة القضائية الطويلة لما كان لنا هذا المنجز الفقهي الكبير مما يؤكد على ان نحافظ على أن تكون محكمة قضاء دستوري وان نبعد تشكيلها عن التجاذبات السياسية عند إصدار التشريع الجديد لها، ومن خلال العرض نجد ان حكمة وخبرة قضاة المحكمة الاتحادية العليا، واتسمت أحكامها بحكمة المجتهد ومعرفة العالم، وأعطت لنا أحكام ذكرتنا بما كان يتسم به القضاء العراقي من رصانة في الأحكام، فضلاً عن حمايتها للدستور من عبث التأويل وجعلها صمام آمان لحماية الحقوق، كانت وما زالت صمام أمان تجاه من يسعى إلى تأويل النص الدستوري تجاه رغباته وإنها أعطت مثالاً حياً على إن القضاء العراقي ما زال شامخا باجتهاده الصائب وعطاءه المثمر منذ ان عرف العراق المحاكم النظامية وحتى اليوم وحداثة تجربة القضاء الدستوري لم تكن هاجساً مخيفا لمن تصدى له لأنهم قضاة افنوا زهو شبابهم في التنقيب عن الحكمة في بساتين المعرفة مخلصين لضميرهم المهني لا ينظرون إلى الدعوى إلا بحياد الموضوعي مترفعين عن كل ما لوث العملية السياسية والتشريعية وباقي المفاصل في العراق،
فكانوا دررا صافية نقية تطمئن النفوس لأحكامهم لان فيهم قامات شمخت في ساحات العدل والفكر القانونية في العراق والوطن العربي وعد رئيسها معالي الأستاذ مدحت المحمود من ابرز الفقهاء في القانون على مستوى الوطن العربي فضلا عن الإشادة الكبيرة من كبار القضاة في المحاكم الدستورية في البلدان المتقدمة في هذا المضمار، أما من يعترض على اعمار قضاتها فان التاريخ يروي لنا بان أعظم الانجازات الفكرية والإنسانية كانت لعظماء تقدم بهم العمر ولنا في حكمة المرجع الأعلى آية الله العظمى السيد علي السيستاني مثالاً على ذلك، فكان لحكمته الفضل في حماية الشعب العراقي والحفاظ على لحمته الوطنية ونسيجه الاجتماعي، ولم يكن العمر يوما عائقاً في باب الاجتهاد القضائي بل على العكس كان معياراً لقبول القضاة في أعلى مناصب القضاء ومنها تولي القضاء في محكمة التمييز فان معيار طول الخدمة وتحديد حد أدنى لها كان من أساسيات قبول الترشح إليها قياساً بسائر المناصب القضائية، إذ يجوز لمن كان قد دخل القضاء حديثاً إن يتولى العمل في محاكم الأحوال الشخصية بينما لا يجوز لمن يشغل منصباً في محكمة التمييز، إلا إذا قضى ردحاً من الزمن في العمل القضائي، وهذا القياس يمتد إلى عمل قضاة المحكمة الاتحادية العليا ولنا في تجارب الدول المتقدمة في مجال القضاء الدستور مثال على ذلك المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية حيث حيث أخذت بمبدأ استمرار قضاة المحكمة العليا في أعمالهم طالما كانوا قادرين على ذلك
و لا يجوز إنهاء خدماتهم إلا بناء على طلبهم، وهذا المبدأ لاقى استحسان الفقه الدستوري، إذ يرى احد الكتاب المصريين الدكتور هشام محمد فوزي بان يكون سن الخدمة في المحكمة الدستورية العليا في مصر مفتوحاً تشبهاً بالمحكمة العليا في مصر ويبرر ذلك بان هذا المبدأ لايعد خرق للمبدأ الدستوري بتكافؤ الفرص بين بين قضاة المحكمة الدستورية وغيرهم من القضاة الاخرين لأنه يرى بان أثار قرار الحكم الصادر عن المحكمة الاتحادية يتعدى الخصوم إلى الكافة مما يتطلب بقاء القضاة فيها لمدة أطول لمنح عملهم قوة أكثر وعلى وفق ما جاء في كتابه في كتابه الموسوم (رقابة دستورية القوانين بين امريكا ومصر ـ منشورات دار النهضة العربية في القاهرة طبعة عام 2006/2007 ـ ص 814) ، وفي الختام اتمنى للعراق التقدم أكثر في كافة المجالات وان يجتهد اهل السياسة في بناء العراق بمؤسساته الدستورية، على وفق المبادئ الدستورية ومنها ضمان استقلال القضاء وإبعاده عن تجاذبات السياسة والسياسيين.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً