قضية المماطلة.. والحاجة إلى إيجاد قضاء التنفيذ
سعيد بن ناصر الحريسن
دائماً ما تطالعنا الصحف اليومية بقضية أصبحت شبه ظاهرة في مجتمعنا تتعلق بالتهرب من أداء بعض الحقوق المدنية اللازمة بموجب عقود، أو بموجب أحكام صادرة من المحاكم أو من جهات ذات اختصاص قضائي، ومكتسبة صفة القطعية، ومذيلة بصيغة التنفيذ، نطالع مثل هذه القضايا، ونسمع في حديث الناس الكثير منها والكثير .
وما أنسب أن أذكر بداية لمحة مختصرة عن هذا السلوك الذي ينتهجه بعض أفراد المجتمع ممن ألزموا بأداء التزامات بموجب أحكام أو بموجب عقود، وهو ما يسميه الفقهاء المطل .
والذي يعرف في اللغة بالمد والتطويل، قال الجوهري: وهو مشتق من مطلت الحديدة إذا طرقت لتمتد وتطول . ومنه قولهم : مطله بدينه مطلاً ومماطلة، إذا سوف بوعد الوفاء مرة بعد أخرى . وأما في اصطلاح الفقهاء، فيعرف بأنه منع قضاء ما استحق أداؤه( أي منع الوفاء بالدين المستحق) والدَيءنُ (بفتح الدال) يراد به هنا أي التزام ناشئ عن تقاعد .
وقد فرق الفقهاء – رحمهم الله – بين صدور هذا التصرف من المدين المعسر، وصدوره من الغني الذي لا يستطيع الوفاء لعذر واضح ومثبت، وبين مطل الغني الموسر . فجاء حكمهم للمعسر وللغني صاحب العذر المثبت، بعدم اعتبارهما داخلين في ما جاء به الشارع من النهي عن هذه التصرف . أما الغني الموسر المماطل في أداء ما عليه من التزامات بلا عذر، فذهبوا جميعاً إلى اعتبار تصرفه هذا حرام شرعاً، بل واعتبره من الظلم الموجب للعقوبة،
واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم (مطل الغني ظلم) فإطلاق كلمة ظلم فيه دلالة على المبالغة في التنفير من هذا السلوك في التعامل مع الآخرين . واستدلوا أيضاً بقوله عليه الصلاة والسلام (ليُ الواجد يحل عرضه وعقوبته ) أخرجه أحمد في المسند . قال العلماء معنى (يحل عرضه) أي يبيح أن يذكره الدائن بين الناس بأنه شخص مماطل، صاحب سوء في التعامل،
وهو من باب التحذير والنصح . قال ابن القيم – رحمه الله – في الطرق الحكمية في السياسة الشرعية( لا نزاع بين العلماء على أن من وجب عليه حق من عين أو دين وهو قادر على أدائه وامتنع عن الوفاء به، عوقب حتى يؤديه ).
ومن الناحية القانونية – ولا تختلف عن الناحية الفقهية – كل التزام ناشئ عن العقد يجب تنفيذه،
وهذا الالتزام بدايةً عبارة عن التزام طبيعي يقوم على أصل من الواجبات الأدبية الداخلة في نطاق القانون، وتنفيذه يكون عن طريق التنفيذ الاختياري، لأنه يعلم في قرارة نفسه أنه مرتبط في هذا العقد بعنصر المديونية ويجب عليه الوفاء، لكن مع المماطلة في الوفاء بهذا الالتزام يتحول الأمر إلى التزام مدني، والسبيل إلى تنفيذه يكون جبراً، فيضاف إلى عنصر المديونية عنصر المسؤولية، وهي المجبرة على الوفاء بالالتزام . فالتنفيذ إما أن يكون اختيارياً يحكم الشخص فيه ضميره، ويسعى إلى إبراء ذمته من هذا الالتزام. وإما أن يكون جبرياً، بناء على حكم قضائي مكتسب القطعية، يتولى متابعة تنفيذه قاضي التنفيذ .
(قاضي التنفيذ) وهو النظام عرفته كثير من النظم القضائية العربية والأجنبية – ومن غير المتصور أن يخلو منه أي قانون قضائي -، ومهمته الفصل في منازعات التنفيذ الموضوعية والوقتية، وإصدار القرارات والأوامر المتعلقة بالتنفيذ، والمتابعة والإشراف على تطبيق هذه القرارات والأوامر القاضية بتنفيذ الحكم الصادر .
فالمسألة إذاً ذات رأي فقهي واضح وآراء ومبادئ قانونية واضحة لا جدال فيها .. لكن لا زلنا نشاهد مطلاً يتلوه مطلٌ وبأساليب مختلفة، فيها الكثير من التفنن وتطوير الأسلوب الهادف لأكل أموال الناس بغير حق .
أصبحت هذه القضية مؤرقة لكثير من أصحاب الحقوق، والمدين المماطل حاله على حال الدائن تفوق، أبعد عناءِ صاحب الحق وطول إجراءات التقاضي، يصادف بعد صدور الحكم وإقرار الحق له، أنه أمام مرحلة جديدة تتعلق بالتنفيذ، لا يعلم هل تطول أم تقصر، لا يعلم سينفذ حكمه أم سيدخل في رواية من النوع الطويل، يرويها صاحب الحق لأبنائه، ويصبح الحكم وثيقة تاريخية يورثها لهم، فهناك من الأحكام من أخذت هذه الناحية وانتقلت مهمة المطالبة إلى ورثة صاحب الحق .
إن قضية التنفيذ في القضايا المتعلقة بالديون والعقود المدنية، وإن وجدت آلية لها، إلا أنها لا تزال بحاجة إلى التطوير والتنظيم، والخروج في صورة نظام مستقل يختص قاضي التنفيذ بتطبيقه، فوجود مثل هذا النظام وتطبيقه من قبل القضاء، سيكون له أثر كبير في تقليل عدد القضايا المتعلقة بالعقود المدنية المنتشرة خاصة قضايا عقود الإيجار العقارية، وقضايا الديون المالية الثابتة بأحكام مكتسبة القطعية، فبمجرد أن ينشأ خلاف على تطبيقه، وتقع المماطلة من المدين، تحال القضية إلى قاضي التنفيذ، لإصدار قرار بتنفيذ هذا العقد ودفع المستحق، وليتجنب الدائن الدخول كما أسلفت في دائرة طول مدة التقاضي والاصطدام بحائط المواعيد المتباعدة والإجراءات المتتابعة، إلى أن يصدر الحكم قاطعاً . فالحال داعية إلى تطوير إجراءات التنفيذ للأحكام المتعلقة بالحقوق المدنية،
نظراً لما وصلت له حال البعض من المماطلة والتسويف، وعدم استفادة بعض أصحاب الحقوق من الأحكام الصادرة لهم، فنظام التنفيذ هو المكمل الرئيس لأحكام القضاء، إذ ما الفائدة من صدور الحكم قاطعاً ما لم يطبق .
@ باحث قانوني
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً