«بيتكوين» والعملات الرقمية .. مع أو ضد
د. محمد آل عباس
انتهيت إلى أن “بيتكوين” تقيس إنتاج العالم الافتراضي فقط ولا تقيس منتجات العالم الحقيقي. فلو افترضنا جدلا أن العالم الافتراضي مجرد دولة أخرى، ولديها منتجات، هنا لا بد أن تنتج هذه الدولة عملة بقدر ما أنتجه اقتصادها حتى تحقق التوزان، وهكذا في مدينة الإنترنت التي كانت بحاجة إلى عملة، لقد كان هدف أولئك الذين بدأوا فكرة “بيتكوين” “كما يبدو نظريا على الأقل”، هو تسهيل تبادل المنتجات الإلكترونية في مدن الإنترنت الافتراضية فقط، بعيدا عن تعقيدات وخطورة البطاقات الائتمانية، في البدايات سارت الأمور بشكل جيد، لكنها بعد ذلك لم تسر على هذا النحو.
هناك مواقع تدعي أنه تم استخدام “بيتكوين” عام 2009 لشراء بيتزا من موقع مشترك في منصة “بيتكوين”، وحدد السعر عندها بعشرة آلاف “بيتكوين”، وهذا “بغض النظر عن كون القصة صحيحة” كان يعني تحولا خطيرا جدا، “حيث إنه ولأول مرة تم قياس إنتاج حقيقي في دولة مستقلة حقيقية بعملة مدينة الإنترنت غير المعروفة”.
إنتاج بيتزا واحدة أصبح يعادل ويقاس بإنتاج “برمجيات” بقيمة عشرة آلاف “بيتكوين”، وهنا اختلط الحابل بالنابل وظهرت أصعب المفاهيم. فبمحض إرادة الإنسان الحرة ودون تسعير أو رقابة أو تحويلات أو بنوك مركزية أو حسابات مصرفية، حصل أحدهم الآن على عشرة آلاف “بيتكوين” وحصل آخر على بيتزا منه، وقد وافق على ذلك “وهذا يعني أيضا -على الحقيقة- أنه تم قياس قيمة إنتاج البيتزا في تلك الدولة بغير عملتها”. هذه العملية حررت طريقة تقييم الإنتاج من قيد المكان (يمكنك وضع منتجاتك على الإنترنت بأي عملة تريد)، ونقلت موضوع استخدم “بيتكوين” إلى قياس سلع حقيقية بشرط أنه يمكن عرضها على منصة الإنترنت. وعندما كان استخدام الإنترنت في العالم محدودا بسبب ضعف شبكات الاتصال كان المتوافر من “بيتكوين” أكبر بكثير من المتوافر من السلع، “ولو استطعت يومئذ رفع بيتزا على الإنترنت وبيعها هناك ومن ثم توصيلها فأنت تستحق مكافأة بسعر عشرة آلاف “بيتكوين”، لكن عندما اندلعت ثورة الاتصالات والجيل الرابع من الهواتف الذكية والتطبيقات الإلكترونية انقلبت المفاهيم رأسا على عقب وأصبح عرض المنتجات الحقيقية على الإنترنت والتطبيقات وبيعها أمرا سهلا “بعيدا عن قيد الحكومات” ويعد ثورة اقتصادية في حد ذاته “يمكنك تصور رعب الحكومات من ثورة الجيل الخامس”.
تعمل منصة “بيتكوين” على أساس أنها سوق افتراضية فهي لا تنتج “بيتكوين”، ولكن تعمل على تسهيل عقود التبادل – كما شرحتها في المقالات السابقة- فـ”بيتكوين” لا يتم إصدارها إلا من خلال برمجة التبادل، ولهذا فإن عددها المتوافر يرتبط بكمية “عقود التبادل” (بين منتجات إلكترونية – إلكترونية)، ولكن عندما دخلت التطبيقات والهواتف الذكية أصبح يمكن بيع المنتجات الحقيقية على الإنترنت، ولتجنب مشكلة البطاقات الائتمانية تم استخدام “بيتكوين” لكن هذه العملية لا تنتج “بيتكوين” جديدة “وفق برمجتها”، فمع تزايد عمليات بيع السلع الحقيقية وتراجع عدد العقود من نوع “إلكتروني – إلكتروني” جعل المتاح من “بيتكوين” يتناقص أمام ضخامة السلع التي يتم تبادلها في مدينة الإنترنت.
للإيضاح فعندما تم البدء في تبادل عملة “بيتكوين” ببيتزا، كان المتاح منها كثيرا واليبتزا في الإنترنت قليلة ولهذا جاء السعر عشرة آلاف “بيتكوين”، ولكن بعد ذلك تسارعت الثقة في عالم الإنترنت وتزايدت المنتجات الحقيقية، فكان عدد “بيتكوين” يقل كلما زادت السلع، وبعد مدة أصبحت البيتزا تباع بـ”بيتكوين” واحد بدلا من عشرة آلاف. والآن تصور أنك تعيش في مدينة الإنترنت وأنك لا تعرف سوى “بيتكوين” فإنك حتما ستقول: إن الأسعار تحسنت جدا، لقد انتعشت التجارة في “مدينة الإنترنت” وكان من المفترض أن يزيد حجم إصدار “بيتكوين” (لو كانت هناك حكومة ودولة في الإنترنت تحافظ على اقتصاده)، وذلك لمقابلة احتياج الناس (كمية النقود)، لكن “بيتكوين” مجرد انعكاس لعقود تبادل منتجات إلكترونية – إلكترونية وهي قليلة أصلا، والأسوأ عندما تم بدء تبادلها في منصات أسواق العملات، لقد تحول الطلب على “بيتكوين” إلى هجوم، وهذا تسبب في ندرتها وبالتالي صعوبة التبادل بها داخل مدينة الإنترنت، حيث أصبحت البيتزا بملبغ 0.0001 “بيتكوين”، ما يعني أن البيتزا أصبحت رخيصة جدا في عالم الإنترنت لكن هذا ليس صحيحا، بل الصحيح هو من أين لك بـ”بيتكوين” حتى تشتري البيتزا.
ومثل هذا الهجوم الذي يقود للكساد يتدخل البنك المركزي لتوفيرها ومن ثم تعديل الأسعار، لكن في عالم “بيتكوين” لا يوجد بنك مركزي لحمايتها، والعقود الحرة التي تبرم في منصة “بيتكوين” أقل بكثير من قدرتها على توفير مزيد من العملة، وهكذا أصبح الحصول عليها نادرا جدا وأصبح الواحد من “بيتكوين” بأكثر من 15 ألف دولار وفي عالم كهذا كان لا بد أن تنهار السوق الافتراضية Metamarket، حيث لا عملة تقود التبادل “ولو حصل تعديل في برمجة “بيتكوين” لتعكس الواقع الجديد لانتهت الثقة بها”.
لكن تغير العالم، فتداول “بيتكوين” اليوم لم يعد من أجل تسهيل الحركة الاقتصادية في مدن الإنترنت، بل الحقيقة أن ظهور تطبيقات الهواتف الذكية والتسهيلات الرقمية للمصارف مكن الأسواق الافتراضية من تجاوزها، حيث يمكنك اليوم الشراء والبيع في عالم الإنترنت ومدنه بعملات رقمية “هي الأرقام التي في حسابك” لكنها تدار من قبل البنوك المركزية وهي متوافرة بكثرة، حيث أصبحت قيمة السلعة ترسل على فواتير الخدمات وبعملة أي بلد مهما كان مقر الشركة، “وفي مقابل هذا بدأت اليوم معركة كبرى بين دول العالم فمن سيسيطر على اقتصاد الإنترنت ومدنه؟ من ستكون عملته الأهم والأبرز؟ من له مستقبل الاقتصاد؟ -وهذا موضوع مقالات أخرى-“. لم يعد أحد في حاجة إلى “بيتكوين” من أجل سهولة التنقل في عالم الإنترنت، بل فقط للمضاربة ولهذا فمستقبل “بيتكوين” غامض جدا، ولا أحد يريد عملة لا يعرف كيف يصل إليها إلا من خلال انتزاعها من مضارب شرس لن يتخلى عنها بسهولة، وطالما أنني لست في حاجة إلى ذلك ويمكنني الشراء من الإنترنت بأي عملة أخرى فإن مدينة “بيتكوين” الفاضلة قد انتهكت، وانتهت إلى الأبد، أقول بعد هذه الرحلة في هذه المقالات: لا تغامر في “بيتكوين” فإنها حتما ستصل يوما ما إلى شخص لديه كثير منها “كعملة ديكتاتور سقط” ولا أحد يريدها منه، فلا تكن أنت.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً