التعاقد بالإذعان:
وتجيء المادة (80) لتحسم خلافًا ثار واحتدم في الفكر القانوني في فرنسا وفي بلاد أخرى كثيرة غيرها، حول طبيعة عقد الإذعان ذاتها، وهو خلاف تركز حول ما إذا كان عقد الإذعان يُعتبر عقدًا، وبالتالي تسري في شأنه أحكام العقود بوجه عام، أو أنه لا يُعتبر كذلك.
وقد آثر المشروع أن يحسم هذا الخلاف العنيف الحاد حول عقود الإذعان، فناصر فكرة العقدية في صددها، قاضيًا في المادة (80) أنه: (لا يمنع من قيام العقد أن يجيء القبول من أحد طرفيه إذعانًا لإرادة الطرف الآخر، بأن يرتضي التسليم بمشروع عقد وضعه مسبقًا، ولا يقبل مناقشة في شروطه). والمشروع بذلك يغلب الرأي السليم، الذي ناصره القضاء دومًا، فضلاً عن كثرة من الفقهاء، وقد راعى في ذلك أن الطرف المذعن، ولو كان في مركز اقتصادي أو اجتماعي أضعف بكثير من غريمه، ولو أن رضاءه يأتي على صورة التسليم بشروطه والإذعان لمشيئته، إلا أنه مع ذلك رضاء قائم وكافٍ لقيام العقد، ثم إن علاج رضوخ الطرف المذعن لإرادة غريمه والتسليم بشروطه من غير مناقشة فيها لا يتمثل في رفض فكرة العقدية في ذاتها، وإنما في حماية هذا الطرف الضعيف عندما تقتضيها المصلحة واعتبارات العدالة، وهو الأمر الذي عمد المشروع بالفعل إليه في المادتين التاليتين.
والمادة (80) مستوحاة في مجموعها من المادة (161/ 1) تجاري كويتي، التي هي مستوحاة بدورها من المادة (100) من القانون المصري، عبر المادة (167/ 1) عراقي، ولكن المشروع عدل في صياغة المادة (80)، تعديلاً كبيرًا استهدف به تحقيق الغاية التي استهدفها وهو تقرير صفة العقدية في عقد الإذعان، حسمًا للخلاف الكبير الذي احتدم حولها، وذلك بطريق صريح ومباشر، ثم إن المشروع بصياغته للمادة (80) يتفادى العيب الذي يشوب صياغة النص المصري والنصوص العربية الأخرى التي نقلت عنه، فهذه النصوص جاءت في صياغة من شأنها أن تجعلها تقنع بمجرد عرض الطريقة التي يتم عليها القبول في عقود الإذعان، من غير أن تقرنه بأي حكم إيجابي، على الأقل بطريق مباشر، وليس هذا هو الشأن في التشريع، بل هو الشأن في الفقه.
وتقرر المادة (81) حماية فعالة للطرف المذعن – وهي الغاية التي استهدفها الفكر القانوني دومًا – اعتبارًا بأنه في قبوله العقد يرضخ لإرادة المتعاقد الآخر ويسلم بشروطه من غير نقاش، وتتركز الحماية في تجنيبه المذعن أثر إعمال الشروط التعسفية الجائرة المجحفة به، وهي تكون كذلك إذا جاءت متجافية مع ما ينبغي أن يسود التعامل من شرف ونزاهة، أو مع ما يستوجبه من مراعاة مقتضيات حسن النية، وتثبت هذه الحماية، حتى لو كان المذعن يعلم بها وشملها بالتالي رضاؤه. وسبيل الطرف المذعن إلى توفير الحماية لنفسه هو أن يلجأ إلى القضاء، الذي له، بناءً على طلبه، وعلى حسب الأحوال، ووفقًا لما تقتضيه العدالة، أن يعدل من الشروط التعسفية بما يرفع إجحافها عن الطرف المذعن، أو يعفيه كلية منها، ويقع باطلاً كل اتفاق من شأنه أن يرفع تلك الحماية بوجهيها.
والمادة (81) مستوحاة من نص المادة 161/ 2 تجاري كويتي، التي هي بدورها مستوحاة من نص المادة (149) مدني مصري، عبر المادة 167/ 2 مدني عراقي، بعد إجراء تعديلات في الصياغة، اقتضتها الملاءمة. وتعرض المادة (82) لتفسير الشك الذي يبقى في عبارات عقد الإذعان الغامضة، والتي لا تصل وسائل التفسير إلى تبديده، وتقضي بأن هذا الشك يفسر دائمًا، وفي كل الأحوال، لمصلحة الطرف المذعن، وهذا مظهر آخر من مظاهر الحماية للجانب الضعيف في عقد الإذعان. والمادة (82) مستوحاة من نص المادة 161/ 3 من قانون التجارة الكويتي، الذي هو بدوره مستوحى من نص المادة (151) مدني مصري، عبر المادة 167/ 3 مدني عراقي.
ولكن المشروع أجرى تعديلاً جوهريًا في الصياغة، توخيًا للدقة، فلم يشأ أن يقول أن تفسير العبارات الغامضة يكون في مصلحة الطرف المذعن – لأن ذلك ليس هو المقصود، وإنما قال بأن الذي يفسر لمصلحة الطرف المذعن هو الشك الذي يبقى، بعد أن يعمد القاضي إلى وسائل التفسير المختلفة بغية إزالة غموض العبارة، كما أن المشروع لم يشأ أن ينص على أن الشك يفسر لمصلحة الطرف المذعن، ولو كان دائنًا. وإنما استعاض عن ذلك بالقول بأن الشك يفسر دائمًا لمصلحته، إذ أن تفسير الشك لمصلحة الدائن، أمر تقتضيه القواعد العامة نفسها في بعض الأحيان، ويحصل ذلك كلما كان من مقتضى الشرط الغامض أن يؤدي إلى تقرير حكم يخالف القواعد العامة، فيفسر هذا الشرط على النحو الذي يسايرها، ولو كان من شأن ذلك أن يعود بالنفع على الدائن، كما هو الحال في شروط الإعفاء من المسؤولية أو شروط الإعفاء من الضمان، في صوره العديدة.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً