التحكيم التجاري – القضاء المدفوع
م. عبدالخالق بن شبرين القرني
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
التحكيم قديم بقدم الإنسان والمجتمعات، ويعد – مع إختلاف مسمياته ومنهجيته – من الآليات الأزلية التي عرفتها المجتمعات لفض النزاعات والفصل في الخصومات، وهو سابق على النظام القضائي النظامي، بما في ذلك القضاء الإسلامي. يقوم على إلتقاء إرادتي الخصمين لحل خلافهما لدى محكم خاص ، وهو ما يعرف في ثقافتنا العامة بالصلح. في الدول والحكومات النظامية أحتفظ التحكيم بدوره وأهميته كعمل مؤسسي له ركائزه التنظيمية والقضائية والتنفيذية ، متمسكا بمبدأه كسلطة قضائية أختيارية تستمد شرعيتها من إرادة أطرافها. في كثير من الدول يتم عن طريق الغرف التجارية أو مراكز تحكيم مؤهلة.
رغم أنه مقبول ومعمول به في العلاقات الفردية، إلا إن التحكيم على المستوى النظامي أشتهر في العلاقات التجارية بين قطاعات الأعمال والشركات المختلفة ، المحلية والدولية . يكاد يكون خيارا ثابتا في السواد الأعظم من عقود الأعمال والعقود الهندسية . في قطاع الأعمال قلما تجد عقدا تجاريا يخلو من شرط وآلية تحيكم. فكرته تقوم على إتفاق طرفي العقد على أختيار جهة تحكيم تفصل في النزاع الذي قد ينشأ جراء تنفيذ العقد المبرم ، هذا الإتفاق قد يشمل كامل العلاقة وقد يشمل نوعا خاصا من الخلاف ، وفي الغالب الخلافات الفنية. تلجأ أطراف العقد للتحكيم لسببين رئيسين : تجاوز الإجراءات القضائية البيروقراطية ، وكذلك بهدف أختيار جهة مؤهلة فنيا ذات إختصاص متوافق مع مضمون العقد، وهذا غالبا لا يتحقق في المؤسسات القضائية.
رغم أن المملكة ، وعلى المستوى النظامي ، عرفت وأقرت التحكيم التجاري في سنوات مبكرة ، وطورت مؤخرا من آلياته ، وفي الأشهر السابقة أقرت تنظيمات جديدة تنظم عمل المؤسسات والمراكز التحكيمية ، إلا إن التحكيم كثقافة وممارسة ونشاط مازال في حده الأدنى ودون المأمول. يعزز هذا التدني ضعف الوعي لدى المجتمع القانوني – فضلا عن المجتمع ككل – إضافة إلى غياب العمل المؤسسي المنظم لنشاط التحكيم ، فمعظم أعمال التحكيم يقوم بها أفراد مستقلين حتى وإن تم ترشيحهم من خلال إجراءات نظامية . ولعل إقرار النظام الجديد في العام 1433 هـ وما تمت إضافته من تنظيمات تعطي التحكيم – كنشاط – ثقة أكبر لدى طالبيه ودورا محوريا في النزاعات التجارية ، بعد أن أصبح يتمتع برعاية وحماية نظاميتين ، مع ضمانات قضائية منتجة وفاعلة.
جديرا بالذكر أن الولاية المطلقة للقضاء ويظل التحكيم سلطة أختيارية ، إلا إن نظام التحكيم لدينا ، وفي بعض بنوده ، يعطي التحكيم سلطات قد تعلو به لمرتبة القضاء ، فهذه البنود النظامية تكبل عمل القضاء وتعطي الأولوية للتحكيم.على سبيل المثال المادة الحادية عشرة من نظام التحكيم تلزم المحكمة بعدم نظر النزاعات التي تتضمن شرط تحكيم . هذه المادة بنصها المطلق تسلب المحكمة المختصة سلطتها التقديرية في تقييم النزاع بين ماهو موضوعي وماهو إجرائي ، فالمادة مطلقة بلا ضوابط وجعلت من شرط التحكيم مرجعية ثابتة لا يجوز نقضها حتى بسلطة القضاء. مما يؤخذ على هذه المادة إنها لا تفرق بين الجانب الموضوعي والجانب الإجرائي في النزاع أوالعلاقة. فالتحكيم في فكرته لحل النزاعات الموضوعية التي تنشأ في صلب وطبيعة العلاقة ، ولا يتصور أن يمتلك الآليات الشرعية والنظامية لنظر قضايا خارج موضوع العلاقة مثل البطلان والغش والإحتيال ونحو ذلك ، فهذه أبواب تحتاج تأهيلا شرعيا/نظاميا من الصعب أن يحيط به محكم تم ترشيحه على خلفية ومعطيات فنية .
إضافة لهذا النص واجب التطبيق نلاحظ أن النظام لا يعالج قضايا البطلان خارج موضوع العلاقة . فالنظام تحت المادة الثامنة يحدد آليات ومرجعيات النظر في قضايا البطلان ضمن إجراءات التحكيم نفسه لكنه في نفس الوقت لا يعالج قضايا البطلان المسندة للعلاقة نفسها ووثائقها. مع وجود هذه المادة ( 11) لا يمكن للقضاء النظر في بطلان العلاقة وإستيفاء أركانها الشرعية والنظامية قبل النظر في موضوعها ، مما يعني وبموجب هذه القيود أن محلها للتحكيم الغير مؤهلا شرعا لنظرها. كما يلاحظ على النظام أنه أيضا لا يحدد الآلية المهنية للجهات التحكيمية نفسها , فهي رغم قصور تأهيلها لا تستند على مسار نظامي كمرجعية لنظر البطلان. وبالنظرلعملية أختيار المحكمين نجد هيئة التحكيم مع وزراة العدل معنيتين بترشيح المحكمين ، وهذا في الغالب ، بل ما يتم في الواقع ، لا يختلف عن آلية ترشيح القضاة ، هذه الآلية قد تحقق المتطلبات الشرعية لكنها قطعا لا تفيئ بالمتطلبات المهنية التي تحقق الضمانات اللازمة لسلامة عمل ونتائج التحكيم وفق إجراءات عدلية مهنية.
في الواقع العملي ، ومع الإندافع المفرط للتحكيم ، تتأزم النزاعات بين قضاء لا يستطيع نظاما النظر في قضايا خاضعة لشرط التحكيم ، وتحكيم غير مؤهل شرعا للنظر في خلافات إجرائية تتطلب تأهيل شرعي وآلية نظامية . بقصد أو بدون قصد أصبحت هذه المواد النظامية مقيدة للقضاء وربما ذريعة لكثير من القضاة لعدم النظر في القضايا التي تتضمن شرط تحكيم . إذا علمنا ما يترتب على عملية التحكيم من كلفة مالية عالية ندرك أن إلجأ طرفي النزاع للتحكيم في نزاعات إجرائية ، أو ربما شرعية ، لا علاقة لها بموضوع العلاقة هو بطريقة أو بأخرى دفع نحو قضاء مدفوع الثمن ، رغم كلفته قد لا يحقق أيا من الضمانات القضائية اللازمة لإستيفاء الحقوق وإنهاء النزاعات.
اترك تعليقاً