نظامُ الشركاتِ الجديد وعهد حوكمةٍ جديد
بعد دراسة تحليلية مقارنة لقانون الشركات في بلدانٍ أخرى يأتي نظام الشركات الجديد بعد 50 عاماً من إصداره؛ ليؤسس عهداً جديداً للحوكمة المؤسسية. ظهر هذا جلياً في المذكرة الإيضاحية التي أشارت إلى أنه يستهدف الاعتماد على أفضل الممارسات الدولية، وتحقيق توازن بين حوكمة الشركات وريادة الأعمال «Entrepreneurship» وخلق بيئةٍ مواتيةٍ للشركات؛ لتعزيز قيمتها ونمو أنشطتها، كمحركات للاقتصاد الوطني. ولضمان الالتزام بأفضل الممارسات أصدرت هيئة السوق المالية عامَ 2006م «لائحة حوكة الشركات»؛ لإرساء القواعد والمعايير المنظِّمة لإدارة الشركات المساهمة المدرجة في السوق؛ استكمالاً لمسيرة الحوكمة في المملكة. فلم يُعرف مصطلح «الحوكمة» في السعودية قبل 2006م كمفهومٍّ مستقلٍّ يتناول الممارسات التي تكفل حماية حقوق المساهمين، وحقوق أصحاب المصالح من خلال سَنِّ مجموعة من المسؤوليات والممارسات التي يقوم بها مجلس الإدارة والإدارة التنفيذية، إذْ أنَّ ضوابط تلك الممارسات وُجدت منذ عام 1931م متمثلةً في صدور أول نظام تجاري، وصدور نظام الشركات 1965م، ونظام المحاسبين القانونيين 1974م.
وتوالت بعد ذلك عدة جهود وتشريعات لتطوير مهنة المحاسبة والمراجعة، وتنظيم أحكام ممارسة أعضاء مجلس الإدارة لمسؤولياتهم، وضمان حقوق المساهمين وأصحاب المصالح، وضمان إجراءات إصدار القرارات بصورة متكافئة وعادلة، وفي إطار من الشفافية والمصداقية وهو ما يجعل إدارة وحكم الشركة حكماً رشيداً. وضعت «لائحة حوكمة الشركات» قواعد إلزامية واسترشادية لجميع الشركات المدرجة في السوق المالية، إلا أنَّ نظام الشركات الجديد رفع مستوى قواعد الحوكمة لدرجة متقدمة؛ فالاقتصادات القوية المرنة تحتاج إلى شركات قوية، ولبناء شركات قوية يتعين على الحكومات أن تلعبَ دوراً لضمان الإشراف العالي النَّزاهة على أنشطة الشركات؛ مما يجعل الارتباط وثيقاً بين إدارة الشركات وإدارة الدولة، لأن مراقبة حوكمة الشركات أسلوبٌ وقائيٌّ لحماية الاقتصاد من تكبده عواقب الإدارات السيئة، ولتحقيق نمو اقتصادي مستدام.
لذا فقد عزز نظام الشركات الجديد الممارسات العادلة والسليمة لمبادئ حوكمة الشركات من خلال معالم أساسية:
أولاً: «المسؤولية المؤسسية» وتكريس مفاهيم العمل المؤسسي، وذلك بالسماح بإنشاء «شركة الشخص الواحد» التي تجعل المسؤولية على ما خُصِّصَ من رأسمال، وبذلك فإنه يُغري المؤسسات الفردية بالتحول إلى هذا النوع.
كما أنَّ النظام أقرَّ الشركة القابضة كشكل قانوني لكيانٍّ يدير شركات تابعة أو يساهم في شركات باعتبارها وعاءً حاضناً لحصص أو أسهم المستثمرين في الشركات، وأداة لتنظيم الملكيات التجارية وتنويع الاستثمارات وكفاءة إدارتها، وبذلك فإنه يعزز عمليات الاندماجات والتكتلات التجارية القوية. ويعتمد مفهوم «المسؤولية المؤسسية» على تقليل المركزية «De-Centralisation» وذلك بحظر الجمع بين منصب رئيس مجلس الإدارة وأي منصب تنفيذي بالشركة، وأجاز النظام تأسيس الشركة المساهمة من قبل شريكين بدلاً من خمسة شركاء. وأولى النظام الجديد عنايةً خاصةً بالشركات العائلية بعدم اشتراط نشر القوائم المالية للشركة، وتقرير مجلس الإدارة، وتقرير مراجع الحسابات في جريدة يومية، مراعاةً للاعتبارات التي تتصل بطبيعة ملكية الشركة العائلية ورغبةً ملاكها في المحافظة على أسرار شركتهم.
ثانياً: «حماية مساهمي الأقلية» وهم فئة من المساهمين يمثلون فئة غير مسيطرة على الشركة، وذلك بوجوب إتباع «التصويت التراكمي» في انتخاب مجلس الإدارة، وألاَّ يقل عدد الأعضاء المستقلين والذين يمثلون مساهمي الأقلية عن اثنين أو ثلث الأعضاء، أيهما أكثر. ومَنحَ المساهم الحق في الحصول على المعلومات ذات الصلة بالشركة في الوقت المناسب وبصفة منتظمة، كما أن للمساهمين الذين يمثلون 5% أن يطلبوا من الجهة القضائية المختصة الأمر بالتفتيش على الشركة إذا تَبينَّ لهم من تصرفات أعضاء المجلس أو مراجع الحسابات ما يدعو إلى الريبة، وذلك على نفقة الشاكين وبعد سماع أقوال أعضاء المجلس ومراجع الحسابات في جلسة خاصة، وإذا ثبت صحة ذلك فللجهة القضائية أن تأمر بما تراه من إجراءات تحفظية، ويجوز لها أن تعزل أعضاء المجلس ومراجعاً للحسابات وأن تعين مديراً مؤقتاً.
كما قررَّ النظام عقد الجمعية العامة بقرار من الجهة المختصة عقدها إذا تبين لها وجود مخالفات لأحكام نظام الشركات أو نظام الشركة الأساس أو وقع خلل في إدارة الشركة. وأجاز النظام التصويت على قرارات الجمعية العامة بواسطة وسائل التقنية الحديثة كالتصويت عن بعد لزيادة عدد المشاركة للأغلبية الصامتة، وقررَّ أيضاً أنه إذا كان من شأن قرار الجمعية لعامة العادية تعديل حقوق فئة معينة من المساهمين فلا يكون القرار نافذاً إلا إذا صادق عليه من له حق التصويت في جمعية خاصة بهم. وطالت عقوبات النظام كل عضو عطَّل الدعوة لانعقاد الجمعية العامة، أو من منع مساهماً من المشاركة في الجمعية أو التمتع بحقوق التصويت، كما جرَّم الإهمال في محاضر المجلس وإعدادها وتدوينها كما يجب، وطالت العقوبة أيضاً كل شركة أو مسؤول لا يراعي تطبيق الأنظمة المرتبطة بعمل الشركة ونشاطها أو يمتثل للتعليمات أو التعاميم التي تصدرها وزارة التجارة.
ثالثاً: «الاستمرارية والاستدامة» من خلال جملة ممارسات كتعيين نائب لرئيس المجلس ينوب عنه في حال غيابه، وتعيين الوزارة لجنة مؤقتة لسد فراغ السلطة الإدارية إذا استقال أعضاء المجلس ولم تتمكن الجمعية العامة من الانتخاب، وقضى النظام باستمرار الشركة في حالة خروج الشريك، وإذا شغر مكان أحد الاعضاء فإن العضو الجديد يُعين من ضمن قائمة التصويت الأولى على أن تتوفر فيه الخبرة والكفاية، كما نصَّ على إنهاء الجمعية العامة لعضوية العضو المتغيب لثلاث مرات متتالية بلا عذر، وحدد مدة تقادم مسؤولية أعضاء المجلس بثلاث سنوات من اكتشاف الفعل الضار في سنة مالية، وخمس سنوات بشكل عام مالم ينطوِّ التصرف على غشٍ وتزوير فتبقى مسؤولية قائمة.
وأتاح نظام الشركات الجديد إمكانية توثيق عقد تأسيس الشركة بطريقة أكثر مرونة، وقررَّ النظام أن يكون شهر عقد تأسيس الشركة وكذلك النظام الأساس لشركة المساهمة وما يطرأ عليها من تعديل في موقع الوزارة الإلكتروني. وحرصاً على استقطاب أفضل الكفاءات المهنية لتولي زمام إدارة الشركات وضمان إسهامهم الفعال في أدائها، فقد رفع النظام السقف الأعلى لمكافأة العضو ومزاياه المالية إلى 500 ألف ريال.
رابعاً: «نزاهة التعاملات التجارية والرقابة الفعالة» وضمان التطبيق السليم والعادل لمعايير وأحكام الشفافية والافصاح، وزيادة مستوى الرقابة الفعالة على الإدارات التنفيذية، وتقرير مسؤولية مجلس الإدارة في مواجهة الشركة ومساهميها، من خلال جملة أحكام كأن يرافق طلب تأسيس الشركة تقرير معد من خبير أو مقيم معتمد أو أكثر يتضمن تقديراً للقيمة العادلة لهذه الحصص العينية، والتأكيد على حالات تعارض المصالح، ومنافسة العضو لأعمال الشركة، على النحو الوارد في لائحة حوكمة الشركات، والافصاح الشامل عن ذلك في تقرير مجلس الإدارة، كما وسّع دائرة اختصاصات المجلس في عقد القروض وإبراء مديني الشركة من التزاماتهم وبيع أصولها ورهنها دون الرجوع للجمعية مالم ينص نظام الشركة على غير ذلك، وفي المقابل أطلق مسؤولية الشركة عن أعمال وتصرفات عضو مجلسها سواء داخل اختصاصاته أو خارجها مالم يكن صاحب مصلحة سيء النية، كما تضمن التشديد على المسؤولية من خلال إلزام الأعضاء الحاضرين بالتوقيع مجتمعين على محاضر المجلس.
ومن المعالم البارزة في النظام أنَّه جعل للجمعية العامة صلاحية تعيين لجنة المراجعة من غير أعضاء مجلس الإدارة التنفيذين، ومنح اللجنة عدداً من الصلاحيات لضمان كفاية نظام الرقابة الداخلية في الشركة، والتحقق من القوائم المالية والتقارير والملحوظات التي يقدمها مراجع الحسابات. وألزم النظام الجديد مدير الشركة ذات المسؤولية المحدودة إذا بلغت خسائرها نصف رأس مالها، تسجيل هذه الواقعة في السجل التجاري ودعوه الشركاء للاجتماع خلال مدة لا تزيد على تسعين يوما من تاريخ علمهم ببلوغ الخسارة هذا المقدار، للنظر في استمرار الشركة أو حلها. وأوجب شهر قرار الشركاء، وذلك رغبةً في حماية الدائنين الذي يركنون إلى رأس مال الشركة بوصفة الضمان العام لهم.
خامساً: «تعزيز أعمال الجهات الرقابية» من خلال إعطاء وزير التجارة والصناعة ومجلس هيئة السوق المالية صلاحية إصدار ما يلزم من لوائح وقرارات لتنفيذ ما يخص كل منهما من أحكام في هذا النظام، بحيث تبين الآلية التنفيذية لتلك القواعد والمبادئ؛ نظراً لاحتواء النظام على قواعد ومبادئ تتطلب إيضاحاً وتفصيلاً ونماذج استرشادية، خصوصاً وأن النظام الجديد قد رفع مبالغ الغرامات وعدد المخالفات، وأضفى صفة الضبط الجنائي لموظفي الجهة المختصة في إثبات الجرائم التي تقع بالمخالفة لأحكام النظام، كما أن النظام أصبح أكثر وضوحاً لمسؤوليات وزارة التجارة والصناعة وهيئة السوق المالية، والحيلولة دون ازدواج الصلاحيات الرقابية. سبق أنْ أعلنَ معالي وزير التجارة والصناعة عن إنشاء إدارة مختصة بالحوكمة، وإدارة أخرى في الالتزام، وتوظيف 100 من المتخصصين لتقوية هذه الإدارتين؛ للمساهمة في تعزيز الحوكمة وتأسيس مفاهيم جيدة لخلق ثقافة سوق تحترم فيه مبادئ الحوكمة والشفافية.
وبهذا المعنى الواسع فإن حوكمة الشركات ستطال الشركات غير المدرجة، ويبقى التحدي قائماً أمام الجهات المختصة بتعزيز بيئة الأعمال من خلال الاضطلاع بمسؤوليتها بتعزيز ثقافة الحوكمة بدلاً من مجرد فرضها، وهذا ما تسعى لتحقيقه الدول الرائدة التي تقيس مستوى الالتزام وتعالج جوانب القصور بالوقوف عن قرب على أسباب المخالفة، والحوار المستمر مع مجتمع الأعمال لردم فجوة التشريعات بغية تحقيق أهداف النظام. وتَتَطَّلع أنظار المهتمين إلى إجابة لائحة حوكمة الشركات المعدَّلة على معضلات الحوكمة وما ستقدمه من ممارسات رائدة كفيلة بنشر ثقافة حوكمة الشركات بين مديري الشركات من جهة ومسؤولي الجهات الرقابية من جهة أخرى؛ لأن حوكمة الشركات شراكةٌ مؤسسيةٌ بين القطاع العام والخاص.
الهبوب
مستشار قانوني
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً