خبراء الفقه الإسلامي وسطوة السلطة التنفيذية
هادي عزيز علي
المحكمة الاتحادية العليا هيئة قضائية مستقلة ، هذا ما ينص عليه الدستور ضمن أحكام المادة (92 ) ، وعلى وفق هذا الفهم ، فإن اختيار قضاتها يجب أن يأخذ في الاعتبار أهليتهم المطلوبة لتحمل تبعة الاستقلال . يضاف الى ذلك الآلية المتقنة المفضية لأختيار الأفضل , ولا ضير والحالة هذه من الاستعانة بالإرث القضائي وأدبياته المتعلقة بأختيار القضاة سواء ما نص عليه في قانون التنظيم القضائي أو قانون المحكمة الاتحادية العليا الحالي وسواهما من التشريعات الأخرى المنظمة لهذا الاختيار .
ويلزم أن يتم الاختيار بالاستناد الى مبدأ الفصل بين السلطات المتجسدة أحكامه ضمن المادة (47) من الدستور , بحيث لا تفرض أية سلطة أوامرها ونواهيها على السلطة الأخرى بحيث تفسد البناء المؤسسي لهذه السلطة أو تلك وتفسد عليها دورها المرسوم لها بموجب احكام الدستور ، المفضي الى تعطيل احد مرافق الدولة ، خاصة إذا كان ذلك المرفق معني بفض المنازعات وتحقيق العدالة .
إلا أن مشروع قانون المحكمة الاتحادية العليا المقروء قراءة أولى يحمل في طياته أكثر من اشكالية سواء ما تعلق منها بالشخصيات المرشحة لهذه المهمة أو بطريقة اختيارها . ومنها على سبيل المثال : خبراء الفقه الاسلامي وطريقة اختيارهم
إذ نصت المادة 3 / ثانيا / ب من المشروع على : ( يرشح ديوان الوقف الشيعي (3) ثلاثة مرشحين ويرشح ديوان الوقف السنّي بالتنسيق مع وزارة الاوقاف في اقليم كردستان (3) ثلاثة مرشحين على ان يكونوا من خبراء الفقه الاسلامي … ) ، ثم يجري اختيار اثنين عن الوقف الشيعي واثنين عن الوقف السني ليصبح مجموع خبراء الفقه الاسلامي أربعة أعضاء يشكلون أكثر من ثلث من أعضاء المحكمة الاتحادية ، ومع التحفظ الذي سبق بيانه في مقالات سابقة عن وظيفة الخبير المختلفة لغة واصطلاحاً وقانوناً عن وظيفة القاضي ، ولكن الذي يهمنا في هذه السطور هو اعتماد دواوين الوقف لهذا النوع من الترشيح والذي نبين ملاحظاتنا عنه باعتباره مخلاً بالعمل القضائي :
أولاً – إن دواوين الاوقاف هي قطعاً ليس من تشكيلات المؤسسة الدينية ، لكونها دوائر رسمية ترتبط بالسلطة التنفيذية ، وتؤدي وظائف رسمية . ورؤساء هذه المؤسسة وطيلة عمر الدولة العراقية شغلوا رئاستها وهم يرتدون بدلات تتمتع بالشياكة وربطات عنق أنيقة وأحذية لامعة ، وقسم منهم كان عازفاً عن أداء الصلاة حتى ، ويمارسون رئاستها ضمن أحكام الوظيفة الداخلة في الملاك بأعتبارها دائرة رسمية . ومن الخطأ إدراجها ضمن تشكيلات المؤسسة الدينية ، لكون هذا الإدراج يخالف النصوص القانونية المؤسسة لها . التي لا تخرج أبداً عن مفهوم الدائرة التنفيذية.
أذ يعرف الوقف من الناحية الفقهية بأنه : ( حبس العين وتسبيل المنفعة ) ومن هذا التعريف يعني ان عمل الوقف هو ( إدارة ) وبهذا التوصيف أخذت التشريعات العراقية .إذ بينت النصوص على أن وظيفة المؤسسة الوقفية هي إدارة المال الموقوف وتنميته أي إنها وظيفة إدارية تقوم بها السلطة التنفيذية . وهذا ما جاءت به أحكام قانون إدارة الاوقاف رقم 64 لسنة 1966 المعدل ، وقانون هيئة إدارة واستثمار أموال الأوقاف رقم 18 لسنة 1994 . فضلاً عن أن المادة (1) من قانون الوقف السنّي رقم 56 لسنة 2015 تنص على : ( يؤسس ديوان يسمى ديوان الوقف السني يرتبط بمجلس الوزراء ويتمتع بالشخصية المعنوية ويمثله رئيسه أو من يخوله) . ويكون رئيس الديوان بدرجة وزير ( المادة 4/ ثانيا ) من القانون . والأمر ذاته بالنسبة للوقف الشيعي إذ نصت المادة (1) من قانونه المرقم (57) لسنة 2015 بذات النص الوارد في قانون الوقف السنّي بما في ذلك تمتعه بدرجة وزير الواردة في المادة (4) منه . من ذلك نخلص أن عمل الأوقاف ضمن المنظومة التشريعية العراقية هو عمل إداري محض تؤديه السلطة التنفيذية من خلال أجهزتها الوظيفية ولا علاقة له بالتعبد أو الجانب الديني .
ثانياً – المنتفعون من الوقف – رؤساء ومتولون ومرتزقة – يجاهدون من أجل إضفاء الصفة الدينية على الوقف بغية استخدامه كسلطة من قبل رجال الدين إذ تمكنوا من حشر بعض النصوص في النظام التشريعي الملبية لرغباتهم هذه . ولكن واقع الحال يثبت أن الوقف نشاط للمجتمع المدني لكونه من أعمال الخير والبِر ، وليس تكليفاً شرعياً ، لعدم ادراجه ضمن أحكام ثوابت الاسلام لعدم حيازته على الاجماع لكونه مختلف عليه . لا بل أن جانباً من الفقه يقضي بمنعه لأنه يعطل الايات القرآنية الخاصة بالمواريث الواردة في سورة النساء ، إذ أن تركة المتوفى بدلاً من أن تذهب الى ورثته حسب مقاصد الشريعة الاسلامية نجد أن الوقف يحبسها عنهم ويحولها للجهة الوقفية . ومن القائلين بمنع الوقف القاضي شريح وابو حنيفة وهو قول عامة أهل الكوفة حينئذ . إذ ذكر في ( التبيّن) : ( الوقف لا يجوز عند ابي حنيفة أصلاً ) ، وقال الخصاف : ( قال أبو حنيفة لا يجوز الوقف إلا ما كان عن طريق الوصايا ) ومعلوم أن الوصية ليست وقفاً .
ومما تقدم ولثبوت أن دواوين الأوقاف هي دوائر رسمية تنتسب الى السلطة التنفيذية فمن غير المقبول أن تقوم هذه الدواوين بترشيح أشخاص بغية ضمهم الى المحكمة الاتحادية العليا ، لأن عملاً كهذا يعد تدخلاً من قبل السلطة التنفيذية في عمل السلطة القضائية وهذا يخالف أحكام المادة 47 من الدستور التي تقضي بالفصل بين السلطات . لأن تدخلاً من هذا النوع يثبط عمل السلطة القضائية ويحول دون تحقيق العدالة.
ثالثاً – تعيين رئيس ديوان أي وقف – حتى موظفيه – تتم لاعتبارات متعلقة بالولاء حصراً ، ولا يمتد أثرها لاعتبارات تتعلق بالخبرة والكفاءة . وهذا ما يفصح عنه واقع الحال في الدواوين كافة . وذلك لكون الدواوين تلك ترزح تحت وطأة الأحزاب ذات الخطاب السياسي الديني وسعيها المتواصل لترسيخ الواقع الطائفي . ولا يمكن أن نخرج مرشحيهم – خبراء الفقه الاسلامي – عن ذلك الولاء . إذ من المستحيل أن تترشح عنهم شخصية مستقلة مهما حازت من العلم والاستقامة والفضل ، ولما كان المرشح عن جهة الوقف وجد أصلاً متسربلاً بالولاء ومعبأ بالرجحان للجهة التي رشحته ، فيكون ابتداء فاقداً للحيدة ومنحاز . وبذلك يفقد الاستقلال الذي تتطلبه المحكمة الاتحادية العليا بأعتبارها هيئة قضائية مستقلة . وعدم تحقق الاستقلال في شخص المرشح يفقده الصلاحية المطلوبة للانتساب للعمل القضائي . عليه فأن آلية الاختيار المتبناة من قبل المشروع تعد آلية معطوبة لا تصلح لعمل من هذا النوع .
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً